أسعدني الحظ أن أكون أحد المشاركين في مهرجان الشباب والطلاب العالمي الثالث عشر في بيونج يانج عاصمة كوريا الشمالية وذلك في صيف 1989م حيث اجتمع الشباب من كل أقطار الأرض هناك لهذا المهرجان الشبابي العالمي والذي استقبل خمساً وعشرون ألفاً من الضيوف وتفرغ لإنجاح فعالياته مليوني شاب كوري لمختلف فعاليات وأنشطة المهرجان المقام هناك .. وكنتُ قد توليتُ شرف تنظيم المعرض الفني للفنون التشكيلية لجناح اليمن الديمقراطية وساهمت في عدد من الأنشطة الثقافية المرتبة في هذا المهرجان الكبير الذي كان حينها من أروع وأضخم ما شاهده العالم في ذلك الصيف ، وذُهِلَ المشاركون من دقةِ التنظيم والإعداد لهذا الحدث الكوني الذي تميزتْ به الشبيبة الكورية في ذلك العام . كانت أحداث المهرجان تتوالى تباعاً بترتيب وتنسيق عجيب ومدروس لم يتخلله أي خطأ أو نقصان ، بل كان أعجوبة ومعجزة لم يكن يتوقعها أحد من الشباب القادم من الدول الغربية لاسيما وأن هذا البلد المنغلق على ذاته قد سخّرَ كل امكانياته المادية والبشرية – طوال أكثر من عامين – لهذا اللقاء التاريخي الساحر ليوصل للعالم رسالة عظمى مفادها أنه بالعمل والعطاء والوفاء للوطن يمكن للإنسان أن يحقق ما لا يخطر ببال بشر .. قد لا تكفي صفحات وصفحات عن وصف ما رأيناه من عظمة البناء والتنظيم والتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تعيشه هذه المدينة البعيدة عن أنظار العالم . هناك .. خلف المحيط ، ومن وسط أنقاض الحرب العالمية أعيد بناء الإنسان .. الإنسان أولاً وأخيراً .. وهذه الثروة العظيمة والأساسية لبناء الوطن ، وكانت النتيجة الإيجابية المتوقعة : بلد عظيم متفوق في كل نواحي الحياة ولديه القوة التي يحمي بها كيانه السياسي والاجتماعي لدرجة توازي أكبر القوى العالمية والتي تحسب له ألف حساب .. عموماً .. صحوتُ ذلك اليوم مبكراً متخذاً طريقي للمطعم المخصص لمجموعة وفدنا ، وما أن دخلت حتى اتجهت قاصداً زاوية الشاي ، أمسكت بالكوب المليء بالمياه الساخنة مضيفاً قطعة السكّر ، ثم تناولت قطعتين معاً من أكياس الشاي الصغيرة ( الليبيون ) لأغمسها في الكوب .. ثوانٍ فقط .. ويهرول نحوي المشرف الكوري للمطعم تتبعه فتاتان من مضيفات المطعم وهو يتمتم بكلمات لا أفهمها ليمسك بيدي الحاملة للشاي ثم ينتزعه بلطف مع ابتسامة خفيفة قرأت من خلالها رفضه المطلق لتناولي هذا الكوب بالذات حينها بدأتْ إحدى المضيفات بالتحدث بلغة عربية فصحى لا تخلو من اللكنة الكورية بالاعتذار عن هذا التصرف مبررة أن مثل هذا الكوب قد يؤدي إلى ضرر صحي لتأثيره على القلب فيما إذا تناولته بهدين الكيسين المزدوجين من الشاي. سألتها : هل يعني هذا منعي المطلق من تناول الشاي ؟ أجابت بالنفي ، حيث يمكنني تناوله بالشكل الآمن والطبيعي وهو كيس شاي واحد فقط ، خوفاً على صحتي باعتباري ضيف في هذا البلد ، وحتى لا يتعرض طاقم المضيفين للمسائلة القانونية إذا أدى ذلك الكوب المركز من الشاي لمتاعب صحية عند تناوله بتلك الكيفية ! احترمتُ وجهة نظره تلك وعدتُ لإعداد كوب شاي آخر بمحتوى كيس واحد كالعادة وهو يبتسم ويتمتم شاكراً لذاك التصرف . عرفت حينها أن شعب كهذا لا يمكن هزيمته أو خذلناه ، وأن ثروة الإنسان لا تقدر بثمن لدى الحكومات والقيادات السياسية الحكيمة التي نجحتْ في بناء ذلك الإنسان الذي وصل بوطنه لأعلى مراتب الدول المتقدمة والعظيمة ، ويعصرني الألم والحسرة كلما تذكرت أنني أعيش في بلد يزخر بثرواتٍ ما يعجز القلم عن وصفها ، ومواطنيه يتفاخرون بأدوات الموت والدمار التي تحرق الأرض والإنسان وتنبئ عن مستقبل مجهول ، ومواطن ليس له سوى الدعاء .. والدعاء فقط .. !!