من يراقب المشهد السياسي والممارسات الجماهيرية في مصر الآن سيدرك تماماً أن المجتمع تحول من مجتمع ثوري إلى مجتمع غوغائي يسوده السلوك العشوائي الذي تمارسه كل الأطراف السياسية بلا استثناء، مما يجعل من العشوائية أسلوب الحياة السائدة في مصر الآن.
لقد سبق لنا منذ شهور عديدة ونحن نتعقب التطورات التي لحقت بالمجتمع المصري عقب ثورة 25 يناير أن رصدنا في مقالنا «بيان من أجل حماية الثورة» (21 يوليو 2011) بداية التحول الخطير من الثورة إلى الفوضى. وقلنا بالنص «آن أوان المصارحة والمكاشفة، لم يعد يجدي ترديد عبارات التمجيد المستحقة لشباب ثورة 25 يناير الذين خططوا ونفذوا أهم ثورة في القرن الحادي والعشرين».
وأضفت «نتحدث عن أهمية المصارحة والمكاشفة لأن صفوف الثوار اخترقتها جماعات لا هوية لها، وبعضها تحيط الشكوك والشبهات حول توجهاتها، مما يطرح أسئلة مهمة تتعلق بالجهات الداخلية أو الخارجية التي تدفعها إلى رفع شعارات خطيرة، أو تبني قرارات تمس الأمن القومي في الصميم».
كان هذا في بداية ظهور الغوغائية كسلوك لبعض الفصائل السياسية، وتابعنا بعد ذلك نمو وتضخم هذه الظاهرة السلبية المقلقة في مقالات عدة.
كان ذلك مقبولاً -إلى حد ما- في حدود شرعية المظاهرات السلمية والاعتصامات المحددة، إلى أن أصبحت هذه المظاهرات والاعتصامات خطراً داهماً يهدد المؤسسات الأساسية التي تقوم عليها أي دولة، وهي على وجه التحديد الشرطة والقضاء والقوات المسلحة.
ولو حللنا السلوك الجماهيري إزاء الشرطة لأدركنا أنه تحول من احتجاج محدود على سلوكها في مجال قمع مظاهرات الثورة، إلى عداء شامل يهدف إلى إسقاطها بالكامل.
وعلى رغم الجهود التي بذلت لسد الفجوة بين الشرطة والشعب عن طريق وزراء داخلية متعددين، إلا أن جماعات جماهيرية متعددة أصرت على شعاراتها الغوغائية التي تنادي بأن «الشرطة بلطجية»، وروجت لذلك قنوات إعلامية مضللة. ومن ناحية أخرى تعرضت القوات المسلحة لهجوم غير مبرر في فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ضوء شعارات «يسقط حكم العسكر»، ولم يسلم القضاء من الهجوم بعد الدعوات المرسلة إلى تطهيره.
كان ذلك في المرحلة الأولى التي تحولت فيها الاحتجاجات الثورية إلى مظاهرات فوضوية، إلى أن وصلنا إلى ما نشاهده الآن من غيبة شبه كاملة للأمن وتجرؤ كامل على مؤسسات الدولة ومقارها التي تتعرض للهجوم بالمولوتوف ولمحاولات اقتحامها وتخريبها.
والواقع أن المشهد الفوضوي السائد في مصر الآن هو نتيجة لازمة للانحراف المسلكي الشديد لكل الفصائل السياسية، وعلى رأسها تلك التي تنتمي لجماعة «الإخوان المسلمين» والأحزاب السلفية، بالإضافة إلى التيارات الثورية وأحزاب المعارضة.
ولو راجعنا الأحداث البارزة فنحن نسجل أن جماعة «الإخوان المسلمين» دفعت بجماهيرها الحاشدة لمحاصرة مبنى المحكمة الدستورية العليا ومنعت قضاتها الأجلاء من دخول مبناها لإرهاب القضاة ومنعهم من إصدار أحكام قد توقف المسيرة السياسية «الإخوانية»، التي تهدف إلى الهيمنة الكاملة على مجمل الفضاء السياسي المصري، بما فيه من سلطة تنفيذية على رأسها رئيس الجمهورية وسلطة تشريعية وسلطة قضائية.
ولابد لنا من ناحية أخرى أن نسجل حصار أنصار «حازم أبو إسماعيل» لمدينة الإنتاج الإعلامي والتعدي على الإعلاميين. وفي كلتا الحالتين لم يتعرض المحرضون والمنظمون لهذه المظاهرات الغوغائية التي خرقت القانون جهاراً نهاراً لأي مساءلة، بل إن أحد قادة «الإخوان المسلمين» لم يتورع أن يصرح قائلاً بصدد حصار المحكمة الدستورية العليا «أمرنا المتظاهرين ألا يستخدموا العنف»، فكأنه يبيح التظاهر غير القانوني لإرهاب القضاة.
غير أن الفصائل الثورية -على تعددها- لم تتوان هي أيضاً في القيام بمظاهرات غوغائية ترفع شعارات هلامية لا تعريف لها مثل «القصاص للشهداء» أو «تحقيق أهداف الثورة».
ومن بين هذه الفصائل الثورية حركة «6 أبريل»، وجماعات «البلاك بلوك» و«الألتراس» الذين قاموا مؤخراً -بعد صدور الحكم في قضية بورسعيد- باقتحام مبنى اتحاد الكرة وإحراقه ونهب محتوياته (ذكر أن جماعات الهجوم المنظم عددها يصل إلى ثلاثة آلاف شخص)، بالإضافة إلى إحراق مبنى اتحاد الشرطة.
وإذا انتقلنا إلى بورسعيد ذاتها ورصدنا أحداث محاولة اقتحام سجن بورسعيد، بالإضافة إلى عشرات المحاولات التخريبية لاقتحام أقسام الشرطة في مختلف أنحاء البلاد، سندرك أننا أمام كارثة كبرى تكشف عن المحاولات المخططة لهدم الدولة وإضاعة هيبتها وسحق مبدأ سيادة القانون.
ولابد لنا في مجال تحليل هذا الموقف الفوضوي الذي تعيشه مصر في الوقت الراهن من تبديد عدد من الأكاذيب والأساطير التي روجتها فيما مضى التيارات الثورية من أنها تمارس المظاهرات بطريقة سلمية غير أن هناك عناصر «مندسة» من «البلطجية» أو أطفال الشوارع أو ما أطلق عليه «الطرف الثالث» هم الذين يمارسون العنف.
والواقع أن تيارات ثورية متعددة أصبح العنف هو مذهبها، وممارسته في نظرها مشروع ضد مؤسسات الدولة.
وما يزيد من خطورة الموقف الذي أصبح يهدد الأمن القومي السلبية الغريبة لرئاسة الجمهورية في مواجهة الأحداث، وعدم تصديها لإصدار قرارات سياسية حاسمة لتهدئة الجماهير الغاضبة. ووصل التدهور إلى حد إضراب عديد من ضباط وأمناء الشرطة ومطالبتهم بإقالة وزير الداخلية الذي وضعهم في مواجهة الجماهير، بدلاً من أن يطلب من الرئاسة اتخاذ قرارات سياسية لمواجهة الاحتقان الاجتماعي السائد.
وآخر تطورات الفوضى بعد نجاح مخطط إسقاط الشرطة عمداً ما أذاعته بعض الجماعات الإسلامية عن تحركها لتكوين لجان شعبية لسد الفراغ الأمني، مما اعتبره بعض المراقبين محاولة لتكوين ميلشيات إسلامية تتولى حماية الأمن بدلاً من الشرطة!
وخلاصة تحليلنا أن الموقف الفوضوي الراهن في مصر هو محصلة محاولة جماعة «الإخوان المسلمين» الهيمنة الكاملة على الفضاء السياسي المصري من خلال إصدار قوانين انتخابية يشوبها العوار الدستوري، وترتب عليها من قبل حل مجلس الشعب، أو إصدار رئيس الجمهورية لإعلانات دستورية فيها خرق للدستور والقانون، مما خلق حالة من الاحتقان السياسي الشديد، وتكتل المعارضة لمقاطعة الانتخابات التي عبرت بعض فصائلها خط المعارضة لتصل إلى حالة «الانشقاق» بالدعوة إلى إسقاط رئيس الجمهورية.
ولا نعفي الفصائل الثورية من المسؤولية لأنها مارست حشد المظاهرات الجماهيرية التي تحولت من السلمية إلى ممارسة العنف، وأخطر من ذلك اللجوء إلى العنف المخطط لإسقاط الدولة.
وفي النهاية لابد من التأكيد على أن مسؤولية حل الأزمة تقع على عاتق كافة الفصائل السياسية وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين»، التي عليها أن تعود إلى شعارها الأول «مشاركة لا مغالبة».
ولن يستطيع فصيل سياسي واحد مهما بلغت قوته في الشارع الانفراد بحكم مصر. الشعب يريد حكماً ائتلافياً لا إقصاء فيه لأي طرف سياسي، في ظل الحفاظ على كيان الدولة ومؤسساتها وفي مقدمتها القوات المسلحة والقضاء والشرطة.