عندما كنا نعيش الحياة بدون رتوش، وبدون ملهيات كنا نذهب لننام في غرفة ملبسة بالطين، فنحس فيها الدفء، والحنان، فننام، ونصحو قبل أن تصحو شمس يومنا، فنجري، ونلعب، ونحن في طريقنا إلى حقولنا للحصاد، فتتساقط على رؤوسنا قطرات الندى، ونشم رائحة الزرع، ونسمع أصوات من هنا، وهناك، لعصافير مختلفة الأشكال، والألوان. سلام الله على الماضي الذي كنا نسهر في لياليه المظلمة على قصة، وفي هذه القصة يردد الراوي، وأرض تخلي، وأرض تملي، ونحن مشدوهين بسماع القصة، ونقطع تكراره لهذه العبارة، بقولنا: وبعدين، فيكمل القصة، فينام بعضنا في بدايتها، وبعضنا في وسط الأحداث، وبعضنا يكمل حتى يتوقف الراوي بعد تثاؤب طويل، آآآآآآآآه، فيقول: بكرة سنكمل، فنذهب للنوم، ونحن نحلم ببكرة القادم، لنتابع مجريات أحداث القصة. سلام الله على الماضي الذي كنا نجلس فيه بعد المغرب على فرشة من عزف(سلقة) ونمد عليها مجالس محشوة بالراء، وهو نوع من الشجر الذي تكثر زراعته عند سقوط الأمطار، وتبدأ القصص، وكل واحد يحكي ما مر به في نهاره المرهق، وفي هذه الفترة توزع المهام لليوم التالي، فكل منا لا تشرق الشمس إلا وهدفه قد رُسِم له الليلة البارحة، فنغدو نشطين، نسابق الطير، ونلقف قطرات الندى، ونكون أول من يدوس على آثار الليل، وأول من يشم رائحة الصباح الممزوج بعبق التفاف الأشجار المتراكمة، والزهور المتفتحة، فتداعبنا نسائم ذلك اليوم الجميل، فنلهو بكل تفاصيله، فنغوص بين الأشجار لنتفقد أعشاش الطيور التي يملأها البيض، أو فراخ صغيرة علاها الريش الخفيف، فنمضي تسابقنا أحلامنا البسيطة لإنجاز عمل اليوم، فنلهو، ونمرح، ولا يعرف الحزن إلى قلوبنا طريقاً، ولا ننتظر قادم أجمل من يومنا الذي نعيشه، فكل شيء في نظرنا قد حوى الحياة بكل حلاوتها. كل شيء جميل في حياتنا رغم بساطتها، فجعبة تحوي عشاءنا، وتورة تحمي غداءنا، وجلود الأغنام تبرد ماءنا، وكلها صناعات محلية مئة بالمئة، وفرشنا من منتجاتنا المحلية، فكل شيء محلي النشأة، مركبنا حميرنا، وقصصنا من أفواه آبائنا، وأجدادنا، وكرتنا كومة ملابس محشوة في شراب، فنظل نتابعها ونتسلى بها، هذه حياتنا الجميلة، لا ديون، ولا هموم، ولا خوف من المستقبل، فعشاؤنا كسرة حلاوتها، وطعامتها أجمل، وأحلى من طبخات مطاعم العالم الشهيرة، وغداؤنا مخلم ( رهي) تعلوه فقاعات الدهن، (عصير السمسم) وأمامنا بندة كبيرة فيها من أجمل، وألذ الخضار المطبوخة، وبيد نظيفة هي يد ست الحبايب، أمنا العزيزة، وتتنوع الوجبات بين فتة دخن، ومعصوبة، أو أقراص دخن نأكلها على واحد شاي أحمر، ويا حلاوتها، ولذتها، وطيبتها، أو خبز طاوة على خصار مطبوخ بيد الشيف الوالدة، وتأكل صوابعك وراه، وزاد (عصيد) مع اللبن، والدهن البلدي، أو مع السمن البلدي الخالص، فيطيب أكله، وتطيب رائحته، فمأكلنا، ومشربنا من خيرات بلادنا، فلم نكن ننتظر قدوم الباخرة لتأتي لنا بالمعلبات، والحبوب، فكل شيء متوافر، الدخن، والحيمر، والسنيسلة، والقمح، والذرة، والسمسم، والخضار بمختلف أنواعها، والفواكة اللذيذة، وبدون بودرة، ولحومنا من أغنامنا، وأبقارنا، وحليبنا منها، وحراثاتنا ثيراننا، وكله محلي، وبجودة عالية. هذه حلاوة ماضينا، وخلوه من كل ما يعكر صفوه، كانت أيام جميلة كروعة أحلامنا، فأحلامنا كانت غدوة نحو قضاء عمل يومي، أو روحة للعب لعبة شعبية بسيطة، ولكنها تدخل المرح إلى قلوبنا، فمن ألعابنا صفّر، نقّر، وهجة، ومصد مرد، وأدواس، وكرة الشُّراب، وفي الليل وعند اكتمال القمر يحلو لعب يا با هلوي، بتفخيم اللام، وهي لعبة رمي عظم ثم نبحث عنه، ومن يوصله، وكأنه سجل هدفاً بالدبل كيك في مرمى المنتخب السعودي. وتتذكر زمانك عبر حيى الله ذاك الزمان، هذا هو ماضينا الجميل، وهذه بعض ذكرياته التي استعدناها من الذاكرة، ولنا وقفات بإذن الله مع بعض ذكرياتنا الجميلة.