مرت الأيام والسنون وكنت قد أكملت المرحلة الموحدة من دراستي ( ثماني سنوات ) في مدرسة الشهيد محمد ناصر صالح (الرباط) ، وانتقلت إلى ثانوية الشهيد لبوزة في الحبيلين عام 1980م ومن ثم إلى ثانوية النجمة الحمراء في صبر، وبعد ذلك التحقت بالخدمة العسكرية الوطنية من يوليو 1984 م إلى نوفمبر 1986م ، ثم التحقت بالجامعة في كلية التربية صبر، دبلوم لغة عربية لمدة عامين وفي نهاية عام 1988م توظفت معلما في الإدارة العامة للتربية والتعليم بمحافظة لحج التي حولتني إلى إدارة التربية والتعليم في مديرية ردفان ومنها إلى مكتب التربية والتعليم في حبيل الريدة الذي يديره الأستاذ ناجي أحمد محور هذه الذكريات . لم أجد أي عناء في هذا التوظيف، مكتب التربية في لحج لم يطلب مني شيئا لاشهادة تخرج ولا بيان درجات ولا مصدقة ولم يكن لدي شيء من ذلك أصلا. كل ما في الأمر أن أسماء الخريجين كانت موجودة لدى المكتب ،كانت الجامعة قد رفعتها لهم وفي ضوء ذلك تتم إجراءات التوظيف فلا خوف من تزوير لا رسمي ولا شخصي. خلال تلك السنين الطويلة لم ينقطع اللقاء بالأستاذ ناجي فقد كنا نلتقي في الحبيلين عائدين إلى قرانا في حالمين ، او نلتقي في العودة منها قبل أن ينقل الأستاذ ناجي سكنه إلى حبيل الريدة . وذات مساء بينما كنا على متن سيارة شاص عائدة إلى القرية وكانت تأن تحتنا مثقلة بنا، وكنا واقفين عليها، طلب مني أحد الركاب حين وقفت السيارة لبعض الأمر أن اذهب إلى المنتزة لكي اجلب له شيئا ما ، فلم أرفض ولم أتردد ، ولكن الأستاذ ناجي الذي كان معنا قال لي بصوت حازم لا تذهب ، والتفت إلى ذلك الرجل وقال له اذهب بنفسك أنت وخذ ما تشاء ولكن لاتكلف هذا الطالب بهذا الأمر . كان بإمكاني أن اذهب واجلب للرجل الكهل ماطلب مني فليس في الأمر خطورة علي ولم أكن خائفا من ذلك، ولكن من حيث الأصول ماكان لي أن أقوم بهذه المهمة وما كان للرجل أن يكلفني بها ، وما كان للأستاذ ناجي إلا أن يعترض على ذلك. وهكذا علمنا الأستاذ درساً في الأخلاق ونحن واقفون على ظهر السيارة . وفي أثناء دراستي في كليه التربية صبر كان الأستاذ ناجي يزورنا في القسم الداخلي ويقيم عندنا يوما او يومين حين تكون لديه متابعات في الحوطةلحج، او في العاصمة عدن تخص شؤون التربية والتعليم في حالمين . في تلك الأيام لم يكن هناك لأبناء حالمين في عدن منازل خاصة إلا فيما ندر ، ربما لايتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، لهذا كان يلجأ عابر السبيل منا إلى الذهاب والبقاء مؤقتاً إما إلى أحد الأقسام الداخلية التي تخص طلاب الجامعة او طلاب الثانوية أو إلى أحد معسكرات الجيش والأمن ، عند المعاريف من أبناء حالمين ولا حرج في ذلك . كنا نلتقي جميعاً تقريبا أقصد أبناء حالمين في عدنولحج ، كل خميس وجمعة في الشيخ عثمان، وتحديدا عند دكان عبدالرحمن اليافعي قريبا من مسجد النور، كأننا اسرة واحدة، فبعضنا يأتي من الأقسام الداخلية وبعضنا يأتي من المعسكرات وبعضنا يأتي من البلاد، ومنهم المقاوتة وغيرهم، حتى طلاب الكلية العسكرية كانوا يصلون إلى الشيخ وهم يرتدون الزي الرسمي العسكري وكذلك يعودون عصر الجمعة بالزي نقسه إلى كليتهم في صلاح الدين. كنا في الشيخ نقيل ونجتمع ونتبادل الأخبار ، كنا نسأل عمن يتخلف عن الحضور وإن علمنا أنه مريض، هرعنا إليه في مستشفى باصهيب أو في مستشفى الجمهورية . حتى التنقل في إطار مدن عدن المختلفة كان متعة وسياحة كأن تنتقل من الشيخ عثمان إلى كريتر، أو من التواهي إلى الشيخ ، وهكذا فليس هناك كلفة في الأجرة ، فإذا وجدت أن الثلاثة الشلنات أجرة التاكسي ستشق على جيبك ، ركبت باصاً بشلن واحد يجوب بك مختلف الأماكن، ينعشك النسيم المشبع بالرطوبة، ولكننا اليوم صرنا نملك منازل في عدن بحمد الله ولكن للأسف لم نعد نلتقي كتلك اللقاءات الجميلة الحميمة تحت وهج شمس عدن وغبارها وفي ظلال بناياتها، أو في شارع الملك سليمان عند محل الحاج علي مثنى عبدالله الشعيبي، أو عند دكان الحشري ، في الشارع المؤدي إلى المتحف العسكري في كريتر . لقد مر وقت طويل منذ أن شربنا الثريب في ذلك المشرب العتيق تحت مسجد النور مع أنه مايزال قائماً حتى اللحظة، لقد صار التنقل اليوم مكلفا ومرهقا ومؤذيا. و كذلك التسوق في شوارع المدينة، صحيح نحن تغيرنا ولم نعد بتلك الروح لكن كذلك واقع المدينة تغير مائة وثمانين درجة نحو الأسوأ. لم يعد أحد يسأل عن احد حتى في أضيق الدوائر ، فهناك من يمرض وهناك من يموت وهناك من يسافر ولا يعلم بذلك أحد إلا من باب الصدف والترف اذا ورد ذلك في شبكة التواصل الاجتماعي . وفي يوم شتائي قارس خرجت من قريتي القرب متوجهاً إلى حبيل الريدة حاملاً تعييني بيميني معلما، ولا أدري إلى اي مدرسة سوف يحيليني الأستاذ ناجي من مدارس حالمين التي يبلغ عددها ...... ، كان خبر ذلك التعيين قد سبقني إلى هناك وكذلك خبر تكريمي في عيد العلم يوم العاشر من سبتمبر عام 1988م في قاعة فلسطين في حقات من قبل الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني الأستاذ علي سالم البيض ورئيس هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى المهندس حيدر أبو بكر العطاس وغيرهما من قادة الحزب والدولة ، ذلك لأنني كنت الأول في دفعتي المخرجة ذلك العام في قسم اللغة العربية كلية التربية صبر، هذا التكريم كان ضمن تكريم عدد كبير من الخريجين الأوائل في مختلف المجالات والعلوم وغيرهم من النشطاء في ميدان العلم والتعليم في الجنوب ، وكان في ذلك اليوم السنوي نفسه يتم تكريم حملة الدكتوراه من كوادر الجنوب ، الذين تخرجوا في العام نفسه من جامعات دول العالم المختلفة. وأول ما وصلت حبيل الريدة كان الأستاذ ناجي أمامي كأنه خرج لاستقبالي فما إن رآني في ذلك الصباح حتى اصطحبني معه إلى مكتبه المتواضع ، الواقع بين المقر الثقافي ومكتب امن الدولة من جهة وسجن الشرطة( ديمة سعيد) من الجهة الأخرى. وخلال دقائق طبعت لي سكرتيرة المكتب الأخت كريمة قاسم صالح الأمر الإداري وهذه موظفة عريقة في مكتب الإشراف ومن أسرة نموذجية مثالية . أخذني الأستاذ ناجي بسيارته إلى المدرسة الجديدة في حبيل الريدة التي كانت مدرسة موحدة وثانوية معا . في ذلك العام نفسه اسسنا التعليم الثانوي في تلك المدرسة وبدأنا في الصف الأول الثانوي . قال لي اريدك هنا في حبيل الريدة.. هذه مدرسة واسعة وجديدة ونريدك في التعليم الثانوي وستكون قريبا من المدينة لأننا مراهون عليك أن تستكمل دراستك. ويبدو أن هذه الثانوية الفتية كانت ثاني مدرسة ثانوية على مستوى مديرية ردفان بعد ثانوية الشهيد لبوزة التي تأسست في أواخر السبعينات. لقد كان للأستاذ ناجي أحمد الدور الأكبر والحاسم في قيام ذلك المبنى الواسع الذي يضم الفصول الدراسية الكثيرة في طابقين وذلك المبنى الآخر المجاور له الذي صمم قسما داخليا للطلاب القادمين من القرى البعيدة ، وقبل قيام هذه المدرسة كان ذلك المكان حبيلا اجرد وبعد قيامها تحول المكان إلى مركز المركز او قل إلى مركز المدينة الناشئة . ولو استمعت للأخ ناجي وهو يقص لك حكاية المتابعة في سبيل هذا المشروع الحيوي، وكيف اعترض البعض على قيامه بحجة أن المنطقة ليست بحاجة إلى ذلك لأعجبت بذلك الحديث وبصاحبه وبروحه التربوية الحريصة ، وببعد نظره . كان يروي لنا كيف قابل وزير التربية وكيف وصل الموضوع إلى رئاسة الحكومة، وكيف سار في اروقتها وهكذا حتى أضحى واقعا ملموسا منتجا. بكل تأكيد هناك قيادات من حالمين ومن خارج حالمين أسهمت في ذلك الإنجاز، وصحيح أن العمل كان مؤسسيا حينذاك وأن الدولة مهتمة بمثل تلك المشاريع، لكن مع ذلك كله يبقى دور الأستاذ ناجي محوريا في تحقيق ذلك الإنجاز الشامخ.