المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية كتب / احمد عبد العليم
فتحت ثورة الخامس والعشرين من يناير مجالا أكثر تعقيدًا وتشابكًا في العلاقة بين الدين والسياسة، خاصة مع صعود الإسلاميين بوصولهم للسلطة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير مع انتخاب مرشح جماعة الإخوان المسلمين "محمد مرسي" لرئاسة مصر الثورة، ونجاح التيار الإسلامي في الحصول على الأغلبية في أول برلمان بعد الثورة.
ومع الثورة تجلي الدور السياسي للأزهر الشريف بتشابكه في ملفات عديدة، حيث حاول البعض دفعه إلى بؤرة السياسة، خاصة التيار المدني؛ لمحاولة ملء الفراغ الديني الذي يملؤه الإسلاميون في الشارع، بينما حاول التيار الإسلامي دفع الأزهر بعيدًا عن السياسة؛ ليحتكر المكاسب السياسية التي تُبنى على خلفية دينية.
ملامح ومؤشرات الصراع السياسي
شهدت الفترة الانتقالية التي عاشتها مصر تحت حكم المجلس العسكري بعد الثورة مباشرة صعودًا سياسيًا للأزهر في نفس توقيت صعود الإسلاميين السياسي. وبدت ثمة ملامح لصراع خفي يدور بينهما، وقد تمثلت ملاح هذا الصراع في:-
أولا:- تحقيق الوحدة الوطنية. تصاعد الدور السياسي للأزهر بمحاولاته الجادة لتحقيق الوحدة الوطنية بعد انفجار أكثر من لغم طائفي، وذلك من خلال دعواته المستمرة لنبذ الفرقة بين المصريين بتأسيس "بيت العائلة". وكذلك عبر استضافته جلسات للحوار بين القوى السياسية التي انتهت إحداها بإصدار "وثيقة الأزهر" من إحدى عشرة نقطة، وذلك بعد خمسة أشهر فقط من قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وبدت هذه الوثيقة بمثابة ملمح أساسي من ملامح الصراع الخفي غير المعلن بين الإخوان بصفة خاصة والإسلاميين بصفة عامة، حيث أن الأزهر أيّد الدولة المدنية التي تتصادم مع نظرة كثير من الإسلاميين الذين ينظرون بتوجس لفكرة الدولة المدنية، ودعواتهم المستمرة لتأسيس الدولة الإسلامية. وهذه النظرة المتوجسة من بعض الإسلاميين للأزهر يقابلها قبول واسع من قِبل الشارع العادي الذي يرى في الأزهر نموذجًا لسماحة ووسطية الإسلام، وحصنًا منيعًا لمواجهة التشدُّد والتطرُّف.
ثانيا:- ملف انتخابات الرئاسة. فقبيل انتخابات الرئاسة وبالتحديد في أغسطس 2011 توافق مرشحي رئاسة الجمهورية على زيارة الأزهر الشريف رغم اختلاف مشاريعهم الفكرية، ولم تكن هذه الزيارات مجرد دعاية انتخابية، ولكن حملت في طياتها رسائل عديدة، تعكس رؤية مرشحي الرئاسة لدور وقيمة الأزهر، ليس فقط باعتباره مؤسسة دينية، ولكن باعتباره أيضًا مؤسسة سياسية في المقام الأول، على حد تعبير الدكتور محمد البرادعي.
ثانيا:- انتخاب شيخ الأزهر. حاول الإسلاميون مواجهة ومحاصرة دور الأزهر السياسي، بمحاولة إصدار قانون يخص انتخاب شيخ الأزهر عن طريق البرلمان صاحب الأغلبية الإسلامية، ولكن قطع المجلس العسكري الطريق على ذلك في يناير 2012 بموافقة مجلس الوزراء المصري على قانون انتخاب شيخ الأزهر بالاقتراع السري من خلال هيئة كبار العلماء بالأزهر. وجاءت تصريحات الرجل الأقوى في جماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر لتؤكد توجُّس الإسلاميين من ذلك، بحديثه عن أن "اعتماد العسكري قانون الأزهر عدوان صارخ على البرلمان، واستخفاف به".
وفي دستور مصر بعد الثورة، والذي تم تمريره بأغلبية وصلت إلى 64% من المصريين، ليؤكد في مادته الرابعة استقلالية الأزهر، والتأكيد على أن شيخ الأزهر مستقل، وغير قابل للعزل، وهو ما يمنح الأزهر الضوء الأخضر من أجل محاولة استعادة دوره القيادي والريادي من ناحية وتكريس صعوده السياسي بعد الثورة من ناحية أخرى.
ثالثا:- قانون الصكوك الإسلامية. يمثل قانون الصكوك الإسلامية المؤشر الأبرز على الصراع الخفي بين الأزهر والإخوان، حيث أنه وما لبث أن تمتع الأزهر بوضع دستوري وقانوني يمنحه قدرًا هائلا من الاستقلالية، حتى بدأت جولة جديدة من الصراع، بطرح الجماعة لقانون الصكوك الإسلامية كمحاولة من جانبها لسد عجز الموازنة باعتباره أحد أدوات تنشيط الاقتصاد، والذي عرض على الأزهر من أجل أخذ رأيه فيه.
لكن الأزهر الشريف وفي جلسة طارئة لمجمع البحوث الإسلامية رفض مشروع قانون الصكوك الإسلامية السيادية، نظرًا لوجود مخالفات شرعية في بعض بنوده، منها كلمة "سيادية"، حيث أبدى أعضاء المجمع تخوفهم من عدم جواز الطعن على التصرفات والقرارات الناجمة عن المشروع، وتحصينها بشكل غير قابل للنقاش والاعتراض، بما يفتح الباب لوجود مخالفات فيما بعد. وكذلك اعترض الأزهر على حق تملك الأجانب من غير المصريين للصكوك، باعتباره مخالفًا للشرع، لأنه لا يجوز لأجنبي التصرف في الأموال والأصول الثابتة المملوكة للشعب. فضلا عن عدم وجود ما يضمن الحفاظ على حقوق الأفراد، ممن يمتلكون الصكوك.
تراجع شعبية الإسلاميين وارتفاع أسهم الأزهر
يعي الإخوان جيدًا أن ثمة علاقة طردية بين استقلال الأزهر من جانب ونفوذه وتأثيره من جانب آخر، حيث إنه كلما كان الأزهر أكثر استقلالية عن السلطة الحاكمة، كان أكثر نفوذًا وتأثيرًا، ولذلك فالسلطة الحاكمة التي يمثلها الإسلاميون الآن يبدو أنها تراقب بتوجس هذه المساحة المستقلة للأزهر المصحوبة بنفوذ سياسي والآخذة في التزايد.
ويبدو أنه مع الصعود الهائل للإخوان بصفة خاصة والإسلاميين بصفة عامة بعد الثورة مباشرة أن ثمة فارق كبير بين التنظير من موقع المعارضة والتطبيق من موقع السلطة، حيث فشل الإخوان في تقديم مشروعهم النهضوي وباتت هناك مسافة شاسعة بين الحديث عن الأفكار وهو سهل، وبين تطبيقها وهو أمر غاية في الصعوبة خاصة في ظل بلد يمر بظروف استثنائية وهو ما انعكس على تراجع الإخوان سياسياً.
وفي ظل هذا التراجع السياسي، استمر الأزهر في صعوده السياسي، وبرز ذلك بشكل واضح في قانون الصكوك، حيث برز الأزهر كمدافع عن الشريعة الإسلامية ضد قانون طرحه فصيل إسلامي وهو جماعة الإخوان المسلمين التي تعلن مرارًا وتكرارًا أن هدفهم الأسمى هو بناء الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة.
ونجح الأزهر في اقتناص نقطة جديدة تضاف لرصيد مكاسبه السياسية في مواجهة الإخوان، وهو ما ظهر جليًّا في إعلان دولة الإمارات مؤخرًا الإفراج عن 103 من السجناء المصريين كتكريم لشيخ الأزهر الذي كان في زيارة لاستلام جائزة الشيخ زايد للكتاب لاختياره شخصية العام، وهو ما وضع مؤسسة الرئاسة في مأزق؛ حيث إن الرئيس مرسي قد أرسل وفدًا رفيع المستوى إلى الإمارات قبل ذلك بأسابيع من أجل بحث الإفراج عن بعض المصريين، وهي زيارة لم تؤد إلى أيّة نتائج ملموسة.
وهو الأمر الذي يُظهر مدى الاحترام والتقدير الذي يلقاه الأزهر ليس فقط من الداخل المصري ولكن أيضًا من الخارج، ما يشكل قوة ناعمة تضيف للأزهر في حراكه السياسي في الداخل المصري بشكل عام وفي صراعه مع الإسلاميين بشكل خاص.
آفاق المستقبل: تحوّلات الصراع بين الأزهر والإسلاميين
مما سبق، فإنه يبدو أن ثمة صراعًا خفيًّا بين التيار الإسلامي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين من جانب وبين الأزهر الشريف من جانب آخر، في الحلبة السياسية، ففي حين بات المجال أرحب للأزهر كي يلعب دورًا سياسيًّا بحرية أكبر؛ فإن ذلك يُواجه بنوع من التوجس والريبة من قِبل جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تمنّي النفس وهي في موقع السلطة أن يظل الأزهر بعيد عن اللعبة السياسية، كما كان في العقود السابقة، وهو ما لم يتحقق في ظل مناخ سياسي يتسم بوجود ترحيب كبير من الشارع المصري لأي دور سياسي يقوم به الأزهر الشريف، لا سيما في وجود صراع سياسي وحالة من الاستقطاب الشديد من قِبل التيارات الإسلامية التي تحاول من خلال خطابها الإسلامي تحقيق مكاسب سياسية.
ويبدو أن واقع السُلطة التي أصبح فيها الإخوان المسلمون تخصم من رصيدهم الديني والدعوي الذي استمرت فيه الجماعة عقودًا طويلة منذ تأسيسها في مارس 1928 وكذلك من رصيدهم السياسي الآخذ في التراجع بعد وصولهم للسُلطة. وكذلك يبدو أن اللعبة السياسية وإن كانت جمعت أطياف التيار الإسلامي بسبب تقارب وجهات النظر خاصة في استفتاء مارس 2011، إلا أن ثمة مؤشرات توضح أن هذا التوافق في طريقه للانتهاء، وهو ما شكّل الخلاف الإخواني-السلفي بداية إرهاصاته، وهو ما يؤدي بالطبع إلى خصم رصيد كبير منهما يضاف بالضرورة إلى الأزهر الشريف.
ومع تحرك الأزهر بخطوات واثقة في حركته السياسية في ظل تمتعه باستقلالية كبيرة عن السلطة الحاكمة، ودعم عدد كبير من النخبة السياسية له، وتقدير الشعب المصري لدوره؛ ستظل الحلبة السياسية تشهد صراعًا بين الأزهر من جانب والإخوان من جانب آخر من نوع جديد، حيث أن الصراع بينهما سوف يأخذ في تحولاته المستقبلية جانب أكثر وضوحاً وبآليات أكثر حدة دون أن يعني ذلك أن يتحول الصراع بينهما إلى صدام، خاصة إذا ظل فشل الإخوان في تقديم مشروع نهضوي يزيد من شعبيتهم، مع الأخذ في الاعتبار توجهات شعبية باتت ناقمة على حكم الإسلاميين يغذيها تخبُّط من الإخوان في إدارة الحكم.