بينما كنت في الصباح أحتسي الشاي في مطعم مجاور لمشفى النقيب،كان ثلة من عمال المطعم وهم من أبناء الحالمة تعزبين شدٍّ وجذبٍ حول مريض يرقد في مستشفى النقيب،منهم من يقول أنه مات ومنهم من يقول أنه باقٍ على قيد الحياة،أحتد الجدل بين الجميع إلى أن أرتفع صوت واحد منهم قائلاً: المهم أنه إذا كان مات موتاً طبيعياً الله يرحمه ويسكنه الجنّةوإن كان مات متأثراً بإصابة في الجبهة فإلى النار دهيف لأنه باع نفسه بألف سعودي !!. دار هذا النقاش وأنا لي تسعةأيامٍ أفترش قطعةمن كرتون على باب مستشفى النقيب مرافقاًلولدأخي ( عزالدين)الذي أصيب في حيس بشظية هاون اخترقت رأسه من فوق أذنه اليمنى وتم إخراجهامن قبل الطبيب المختص من فوق أذنه اليسرى،وقد دخل بفعل تلك الاصابةفي نوبة الموت السريري حتى اللحظة. عزالدين شاب في مقتبل العمر سكب دمه الزكي وأسلم روحه الطاهرة في ساحل الموت ليس الأول ولن يكون الأخير،فمن قبله العشرات من خيرةشباب الجنوب قد ارتقوا هذا المرتقى ،ولايزال الكثيرمن الشباب على نفس هذا الدرب سائرين،وكل تلك الأرواح التي تُحصد يومياً في الساحل الغربي هي في الواقع قرابين غالية تُقدّم في سبيل عز الدين ودفاعاً عن الأرض والذِمار وذوداً عن العرض والمحارم والعار. وفي الوقت الذي يقدم فيه خيرة شباب الجنوب أنفسهم في مواقع القتال وجبهات النزال المضطرمة في الساحل الغربي وأماكن أخرى تجدالعاصمةعدن وغيرهامن مدن الجنوب تعج وتموج بالكثير من شباب محافظات الشمال،يعملون في المطاعم والمشارب والبقالات وبسطات بيع الخضرة وغيرذلك من أماكن التربّح،ولايكترثون لما هو حاصل في مدنهم وقراهم من ظلم وجور وعبث وبطش ودوس على الرقاب وانتهاك للمحرمات من قبل الحوثيين أعداء الدين والدنيا. ليس هذافحسب بل تجدغالبيتهم يظهرون تعاطفاً مع الحوثيين ولا يستنكفون من أمرهم،ولا يهمهم من يمسك بزمام الامور هناك حتى وإن كان يهودياً،بقدرمايهمهم السيطرة على الجنوب ومقدراته،وهذا هو في اعتقادي حال كل الشماليين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم،زيدي وشافعي،سني وسلفي وصوفي،مؤتمري وبعثي وإصلاحي وناصري،تاجر وعامل وعسكري،فنان ورياضي وضارب الدف،لكل منهم طريقة وأسلوب في مسألةالسيطرةعلى الجنوب؛ رجال الدين يعتمدون على خطب المنابروالتذكيربالأخوّة والمحبّة في الاسلام وشتان بين عامر بن الجراح وبين علي محسن الأحمر، ورجال السياسة يعتمدون على الرؤى والأفكار الوطنية البراقة وشتان بين مانديللاوحميدالأحمر وأرباب الأموال يريدون امتلاك الجنوب بأموالهم وتحويل أبناءه ألى خدمٍ وحشمٍ عندهم،والفنان يريد السيطرة على مهجةالجنوب عبر رنين الوتر ونغمة المزهر،أما الرياضي فيريد تحقيق الهدف من خلال الركلة الحرّة وصافرة الحكم،وضارب الدف من خلال المقامع والمرفع يريد تحويل هذا الجنوب إلى مرقص خاص به،أمّا إذافشلت كل تلك الطرق الملتوية في بلوغ الهدف المرجو منها ، فالكل يجمع على ضرورةاخضاع الجنوب والسيطرةعليه عبردانات الهاون وقذائف الهاوزروالمدفع، فلا مناص عندهم من الاستيلاء على الجنوب ومقدراته ،أمّا عن طريق المزمار أو عن طريق النار وهذه هي حقيقة الأمر باختصار.