الحالمة تعز يرحل بها الزمان في أفق مسدودٍ ، وفي دائرة مقفلةٍ بلا منافذ ولا مرافئ، يحاصرها من كل الجهات الغول والتنين وطاهش الحوبان ، فبدت من فرط حصارها كجسدٍ مسجي داخل تابوت ضيّق تنهش أشلاءه أنياب الحاقدين ، وتمزّق أطرافه الذابلة مخالب العابثين . رحل عن الحالمة -مكرهاً- الرخاء والغناء والصخب ، وحلّها -مرغماً- العناءوالبكاءوالسّغب،فقصورها المنيعةالتي كانت تصدح من جنباته زغاريد المحبة والوئام، وتنداح من شرفاتها تغاريد المودة والسلام، قدتداعت أركانها وتناثرت أحجارها، ولم تعدتسمع منها غير أنين ونشيج وعويل يتصاعد من تحت أنقاضها والركام . أما حقولها الخضراء التي كانت على مداركل فصول السنة تجود بسنابل القمح والذرة ومحاجين آب، قد جفّ ضرعها ويبس زرعها وعمّها الجدب والخراب، لما زرعها الشياطين ناراً وباروداً ، لا تُشبع بطون الجائعين وإنما تحصد منهم سيقانهم والرقاب ، وحاملات الشريم اللاتي كنّ يجلبن أعلاف وحشائش الماشية من الحقول قد تكورن في خدورهن، خوفاً من رصاصات قناص أرعن لا يتورع من كسر القوارير وقتل العصافير وجرح الفراشات الناعمة . وإن تسل عن وادي الضباب وطن العشاق وملتقى الأحباب، فوأسف المشتاق وحسرته، كيف صار حاله مقفراً موحشاً بعد أن جرت سيوله نصفها من دماء الابرياء ونصفها الآخر من دموع الثكالى والأرامل واليتامى، فماعاد تُسمع فيه قرع أوتار القيثارة والجيتار، ولا تدق أقدام الصبايا قاعه ومرابعه، فقد ماتت فيه واأسفاه تباريح العشق والهوى. لم نعد نسمع عن الحالمةأي شيئ فهل بعد أن طال عليها حلمها نامت مثخنة الجراح؟!! يبدو أنها قد فعلت بعد أن خانها ثوار الربيع، وتحولوا إلى مجاذيبٍ في يفرس، يوزعون على البلهاء والضعفاء تمائم الوهم والإفتراء، ويزعمون لهم فيها بأن نشوان قادم نحوهم من قطر، وإن ابن علوان سيأتيهم من أنقرا !!