لم يتضح بعد الاتجاه الحاكم لمسار الصراع السياسي في مصر بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وتداعي حكم الإخوان المسلمين، إذ إن تصاعد العنف، وانسداد أفق التسوية السياسية، وانخراط أطراف دولية وإقليمية عديدة بالمشهد السياسي المصري، واتساع نطاق الانقسامات الأيديولوجية؛ كلها عوامل رسمت خرائط احتمالية متناقضة للتحولات السياسية، وما تتضمنه من تداعيات حادة على الاستقرار الداخلي والانتقال الديمقراطي للسلطة، مما يزيد من احتدام الجدل حول ملامح نموذج التغير السياسي الذي ستتبعه الحالة المصرية خلال المرحلة الانتقالية الجديدة. النموذج الجزائري: يُعد النموذج الجزائري الأكثر كارثية على الأمن والاستقرار في مصر، لا سيما أن تصاعد وتيرة العنف والاشتباكات الأهلية الدامية كشفت عن مشتركات أولية بين الحالتين، حيث إن تفجر الصراع السياسي في الجزائر ارتبط بتدخل المؤسسة العسكرية في عام 1992 لإلغاء الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية بعد فوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ، مما اضطر الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة، ثم تفجر ما أطلق عليه "العشرية السوداء" مع نزوع التيارات الإسلامية للعنف والمواجهات الدامية مع القوات المسلحة والمجتمع بما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 200 ألف شخص، فضلا عن آلاف المفقودين، إلى أن اكتملت أركان المصالحة الوطنية بإصدار ميثاق السلم والمصالحة الوطنية في عام 2005. وعلى الرغم من تسليم كافة الفرقاء السياسيين باختلاف الحالة المصرية عن نظيرتها الجزائرية، فإن مساحات التلاقي والتقاطع بينهما آخذة في الاتساع، بداية من تحول خطاب التيارات الإسلامية نحو النزوع للعنف والصدام مع الدولة والمجتمع، وتماهي الخطوط الفاصلة بين المعتدلين والراديكاليين، مرورًا بتصاعد حدة الاشتباكات الدامية التي وصل عدد ضحاياها إلى حوالي 300 قتيل على مدار شهر من الاعتصامات السياسية، خاصة بعد أحداث الحرس الجمهوري والنصب التذكاري وتورط مؤيدي الرئيس السابق في صدامات عنيفة مع الأهالي في بعض المناطق، وانتهاء بتفجر عمليات التنظيمات الإرهابية التي أسفرت عن سقوط ما لا يقل عن 50 قتيلا، ناهيك عن الاشتراك في محفزات الصدام المسلح وهو التنافر الحاد بين مؤسسات الدولة والتيارات الإسلامية وصراع الهوية بين أممية لا تعترف بحدود الدول ووطنية تتمسك باعتبارات السيادة. إلا أن ثمة عقبات عديدة تعترض انطباق النموذج الجزائري على الحالة المصرية تتلخص فيما يلي: 1- النطاق المحدود للصراع، وإدراك التيارات الإسلامية مخاطر المواجهة الدامية مع المجتمع، خوفًا من إعادة إنتاج عهد الحظر السياسي، أو مواجهة الاحتمال الأخطر وهو الاستئصال المجتمعي، بما يؤدي إلى فرض حدود على توظيف العنف. 2- تآكل الدعم الشعبي للإخوان المسلمين بعد إخفاقاتهم في الحكم، وهو ما يرتبط بما كشف عنه استطلاع المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) حول اقتصار نسبة المتعاطفين مع اعتصامات مؤيدي الرئيس السابق على 20% ممن شملهم الاستطلاع، في مقابل 71% من غير المتعاطفين، فضلا عن الحشد غير المسبوق في الميادين، في 26 يوليو الفائت، استجابة لدعوة وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي. 3- النزوع السيكولوجي للاستقرار الداخلي لدى المواطنين، والشعبية الطاغية التي تحظى بها المؤسسة العسكرية، كضامن لبقاء الدولة المصرية وما حازته من شرعية تاريخية في التصدي للتحديات الداخلية والخارجية. النموذج التركي: تتلاقى الحالتان المصرية والتركية في أكثر من زاوية، وأهمها مركزية دور المؤسسة العسكرية في حماية بقاء وتماسك مؤسسات الدولة ضد محاولات تسييسها واختراقها، وهو ما تجلى خلال ثورة 25 يناير 2011 وانتفاضة 30 يونيو 2013، ففي الحالة التركية أدى الالتزام الدستوري للمؤسسة العسكرية بحماية قيم النظام الجمهوري والعلمانية إلى تدخلها في عام 1980 إلى إنهاء حكم حزب المحافظين الإسلامي، مع التزامها بخارطة طريق شملت إعداد دستور جديد وانتخابات بداية من عام 1982، فضلا عن حظر الأحزاب الدينية بداية من حزب الوطن الأم، مرورًا بحزب الرفاه وانتهاء بحزب الفضيلة، رغم الانتصارات الانتخابية المهمة التي حققتها تلك الأحزاب. بيد أن الملفت في النموذج التركي تمثل في اتجاه التيارات الإسلامية للاعتدال والقبول بقيم الجمهورية والعلمانية من خلال تأسيس حزب العدالة والتنمية في أغسطس 2001، والتركيز على القضايا الاقتصادية والتنموية، وهو الذي أسهم في صعودها إلى سدة الحكم بداية من عام 2002، خاصة مع طرح رموز جديدة مختلفة عن نهج التيارات الإسلامية مثل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهورية عبد الله غول، ونائب رئيس الوزراء بولنت أرينج. ويمكن القول إن جملة عوامل قد تسهم في دفع جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى محاكاة النموذج التركي، والعودة للاعتدال يتمثل أهمها في: 1- مخاوف العزل السياسي والتهديدات المتصاعدة لبقائها، وخاصة مع تآكل قاعدتها الشعبية خلال فترة توليها السلطة، واتهام أغلب قياداتها بالتحريض على العنف، أو التخابر مع جهات أجنبية. 2- تراكم خبرات الأنشطة الخيرية والخدمية للجماعة على مدار سنوات تضييق مساحات العمل السياسي التي أهلتها لأداء دور سياسي مهم مع تصاعد نفوذها في الأقاليم النائية كأحد أبعاد اختلال التوازن في توزيع عوائد التنمية، وضعف سلطة الدولة على الأطراف. 3- فرض قواعد دستورية حاسمة تدفع نحو الاعتدال، وترتبط بمدنية العمل السياسي، وحياد الإدارة، وحظر اختراق مؤسسات الدولة، وضوابط الحريات الإعلامية، فضلا عن حظر تشكيل ميليشيات مسلحة وخطاب التكفير والوصاية القيمية على المجتمع. بيد أن الخطاب التحريضي للجماعة ونزوع أنصارها للعنف والاشتباكات الدامية مع قطاعات مختلفة في المجتمع على امتداد المحافظات، قد يحول دون تكرار هذا النموذج، فضلا عن أن استعداء الجماعة للشعب سوف يؤدي إلى تقويض فرصها الانتخابية لاحقًا لفترة قد تمتد لسنوات. النموذج الباكستاني: يبدو التشابه واضحًا بين دور المؤسسة العسكرية في باكستان ونظيرتها المصرية في التدخل "التحكيمي" لحسم الصراع السياسي بين الفرقاء، خاصة في عام 1977 بعد احتدام التناقضات حول الانتخابات التي أعادت ذو الفقار علي بوتو للسلطة، ثم بأداء الدور ذاته عام 1999 عبر إطاحة الجنرال برويز مشرف برئيس الوزراء نواز شريف بعد محاولات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، إلى أن تخلى مشرف عن السلطة بعد فوز حزب بينظير بوتو في الانتخابات عام 2008 التي تم اغتيالها لاحقًا، وتولي آصف زرداري الرئاسة الذي تعرض للإدانة في اتهامات بالفساد عام 2010، إلا أن المؤسسة العسكرية لا تزال تؤدي أدوارًا في الخلفية للحفاظ على توازن الضعف بين الفرقاء السياسيين، وترسيخ مصالحها الاقتصادية والاجتماعية بعيدة عن التجاذبات السياسية. وتتجلى أهم نقاط التلاقي بين النموذج الباكستاني والحالة المصرية في انهيار نظام الحكم، بسبب تركيز القوى السياسية المدنية على الأبعاد الإجرائية للديمقراطية، وخاصة الانتخابات وصراعات السلطة والاستحواذ على الدولة، وعدم الالتفات إلى ترسيخ شرعية تداول السلطة عبر إنجاز الاستحقاقات السياسية، وتحقيق تقدم في الملفات الاجتماعية في ظل نفوذ واسع للتيارات الدينية الراديكالية التي تتحين الفرص للإجهاز على الدولة، واقتطاع أجزاء من إقليمها، ولا ينفصل ذلك عن الجدل في الحالتين حول "الاحترافية العسكرية"، في ظل دعوة بعض الاتجاهات إلى ضرورة تركيز المؤسسة العسكرية على مواجهة التهديدات الخارجية، وعدم الانغماس في الصراعات السياسية، وهو ما يتلاقى مع الخبرة السلبية لتجربة المجلس العسكري السابق بعد ثورة 25 يناير، وأوجه الخلاف بين النخبة السياسية المدنية والمؤسسة العسكرية، في مقابل اتجاهات أخرى مؤيدة لممارسة المؤسسة العسكرية لدور الحارس للاستقرار السياسي والأمن وتماسك الدولة في مواجهة التهديدات الداخلية. النموذج السوري: يبدو السعي المستميت من جانب جماعة الإخوان المسلمين لاستنساخ النموذج السوري واضحًا منذ عزل الرئيس السابق، خاصة مع تكرار الادعاءات بوجود انشقاقات في صفوف القوات المسلحة، واستعراض أفراد يرتدون الزي العسكري القديم في التظاهرات المؤيدة للرئيس السابق، فيما يبدو كرسالة ضمنية للسلطات الأمنية. وقد ارتبط ذلك، على مستوى آخر، بالاشتباكات الدامية التي حرضت عليها قيادات الجماعة وتم توظيفها إعلاميًّا من خلال القنوات الموالية للجماعة، خاصة قناة الجزيرة، كمؤشر لتعرض المتظاهرين لانتهاكات أمنية، بهدف تعزيز الضغوط الدولية على الحكومة الانتقالية، فضلا عن اتهام المؤسسة العسكرية والخصوم السياسيين ب"التواطؤ"، ومحاولات نقل بؤر الاعتصام لمحيط الميادين والمؤسسات الحيوية وقطع الطرق لتأجيج الاشتباكات العنيفة مع الأهالي، وإعادة إنتاج مقولات "المظلومية" و"المؤامرة" لتعزيز تماسك الجماعة، واجتذاب التعاطف الشعبي والدولي، خاصة في ظل استجداء بعض قيادات الجماعة مثل الدكتور محمد البلتاجي لتدخل الأممالمتحدة لحماية المتظاهرين، ودعوة الدكتور يوسف القرضاوي للتدخل الدولي لصالح مؤيدي الرئيس السابق، وتهديدات قيادات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين باللجوء للمحكمة الجنائية الدولية. بيد أن التطور الأهم تمثل في عقد ممثلي التيارات الإسلامية بمجلس الشورى اجتماعًا في رابعة العدوية، وإعلانهم تشكيل "حكومة موازية" في تهديد صريح لترتيبات المرحلة الانتقالية التي أعلنتها المؤسسة العسكرية في 3 يوليو الفائت، خاصة في ظل استناد الجماعة لشبكة تحالفاتها مع أطراف خارجية، مثل تركيا وقطر، يبدو أنها على استعداد للتدخل لأداء أدوار ضاغطة لصالحها لإعادة إنتاج معادلات التوازن التي تعظم مكاسبها السياسية. وعلى الرغم من هذه التطورات، فإن المشهد المصري يبدو بعيدًا عن نظيره السوري على مستوى النطاق المحدود للعنف، وتماسك المؤسسة العسكرية، والدعم الشعبي الجارف لبقائها كأحد أهم ركائز الاستقرار السياسي والأمني، فضلا عن تمكن المؤسسة العسكرية من احتواء استراتيجية الجماعة، ومحاولة استنزاف قدراتها عبر كسب الوقت، واستعراض افتقادها للشعبية عقب مليونية التفويض. النموذج اليمني: يُعد النموذج اليمني أحد المآلات المطروحة للأوضاع في مصر في حال انهيار التوازنات السياسية الحالية، حيث أسفر الصراع السياسي بين حزب المؤتمر الشعبي العام وتكتل اللقاء المشترك، وانقسام المؤسسة العسكرية بين الفرقة الأولى المدرعة بقيادة علي محسن الأحمر والحرس الجمهوري بقيادة نجل الرئيس السابق علي عبد الله صالح، عن طرح المبادرة الخليجية، بدعم من المملكة العربية السعودية، والتي قضت بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وانتخاب عبد ربه منصور هادي كرئيس توافقي ثم إدارة حوار وطني حول الاستحقاقات السياسية وصياغة دستور توافقي يحفظ مصالح كافة الأطراف السياسية. وتتلاقى هذه الصيغة السياسية مع بعض المبادرات المطروحة لتسوية الأزمة السياسية، مثل مبادرة الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء السابق، ومبادرة حزب النور، ومبادرة الدكتور محمد سليم العوا والدكتور طارق البشري، التي تضمنت تفويض الرئيس السابق لكامل صلاحياته لحكومة توافقية تشرف على إجراء انتخابات برلمانية ثم انتخابات رئاسية لاحقة وتشكيل لجنة لتعديل الدستور، إلا أن الفارق بين الحالتين يتضح في الرفض القاطع من السلطة لهذه المبادرات، وعدم قبولها من جانب حركة "تمرد" والتيارات الشبابية الثورية، التي تصر على محاكمة قيادات جماعة الإخوان المسلمين وفق مبدأ "العدالة الانتقالية" ورفض أي خروج آمن لهذه القيادات في ظل اختلال توازن القوى لغير صالح الجماعة، وتماسك المؤسسة العسكرية وتشبثها بخارطة الطريق واستحقاقات انتقال السلطة. النموذج الموريتاني: تسعى قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر لاستدعاء النموذج الموريتاني، بهدف وصم الحراك الثوري في 30 يونيو بأنه مجرد "انقلاب عسكري"، حيث تتشابه مقدمات الحالة المصرية مع الخبرة الموريتانية في أغسطس 2008، عندما أطاح الجنرال محمد ولد عبد العزيز بحكم الرئيس محمد ولد الشيخ عبد الله، استغلالا لسياق الاحتجاجات الشعبية، إلا أن ولد عبد العزيز خاض الانتخابات الرئاسية في يوليو 2009 ليستمر في السلطة حتى واجه حراكًا احتجاجيًّا غير مسبوق بداية من عام 2011 أعلن على إثره إصلاحات سياسية واقتصادية لم تحقق الحد الأدنى من مطالب المعارضة. ويستند مؤيدو الرئيس مرسي في ادعاءاتهم لعدد من الاعتبارات، أهمها ما يعتبرونه اتجاهًا من السلطة الحاكمة لإقصاء الإخوان المسلمين عبر التركيز على ارتباطهم بالحركات الراديكالية، وامتداداتهم الدولية العابرة للحدود، بالإضافة إلى "الكاريزما" التي بدأ يتمتع بها الفريق عبد الفتاح السيسي، واجتذابه لدعم شعبي غير مسبوق عقب فراغ موقع القيادة السياسية بعد 3 يوليو الماضي، بيد أن كوابح عديدة تعترض إعادة إنتاج النموذج الموريتاني، أهمها النفي القاطع من جانب الفريق السيسي لرغبته في خوض الانتخابات الرئاسية، وتأكيده الالتزام التام بخارطة الطريق المعلنة التي تضع حدودًا على الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، فضلا عن حرص الأخيرة على حماية مخصصاتها المالية ومركزية وضعها في عملية صياغة السياسة الدفاعية دون الانخراط في الصراعات السياسية طالما لم تؤثر على ثوابت الأمن القومي وفق منظورها. وإجمالا، تكشف مراجعة مختلف النماذج عن تفرد الحالة المصرية، بحيث تكاد تُطرح كنموذج قائم بذاته، على الرغم من ملامح التلاقي والتقاطع بين كافة النماذج، إذ يتضح هذا التفرد في عدة أبعاد: أولها، الدعم الشعبي لدور المؤسسة العسكرية الذي لم ينقطع منذ 30 يونيو الماضي. وثانيها، التزام المؤسسة العسكرية بوضع حدود على دورها السياسي، وعدم المشاركة المباشرة في معادلات السلطة، أو تكرار تجربة إدارة المرحلة الانتقالية. وثالثها، تآكل الدعم الشعبي لجماعة الإخوان المسلمين بسبب الخطاب العدائي التحريضي لقيادات الجماعة ومحاولات تدويل الأزمة السياسية. ورابعها، محدودية نطاق العنف الذي يمارسه مؤيدو مرسي مقارنة بالنماذج السابقة على غرار النموذج الجزائري، وذلك باستثناء العمليات الإرهابية التي تقع في سيناء، في مقابل إخفاق مختلف الأطراف في طرح مبادرات متوازنة تسهم في إعادة دمجها في العملية السياسية، واستعادة الاستقرار السياسي.