من/ إبراهيم غالي عمل حزب العدالة والتنمية التركي خلال السنوات العشر الماضية على السيطرة الكاملة على البلاد بأسلوب هادئ ومتدرج، تمكن خلالها من الحد من نفوذ القوات المسلحة والقضاء باعتبارهما أكبر المؤيدين للدولة العلمانية، كما يسعى الحزب خلال السنوات العشر القادمة إلى إعادة صياغة الهوية التركية وإعادة هندسة المجتمع على أسس مختلفة تعتمد على "أسلمة" المجتمع التركي ونقض الركائز "الأتاتوركية" التي تأسست عليها تركيا الحديثة، بما دفع بعض الاتجاهات إلي القول بأن الحزب ربما يرغب في إنهاء هذه العملية قبل مرور مائة عام على تدشين الجمهورية ذات الصبغة العلمانية في عام 1923. الهوية التركية مرة أخرى تشير "حزمة الإصلاحات الديمقراطية" التي أعلن عنها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان في 30 سبتمبر الفائت بوضوح إلى أن حزب العدالة والتنمية بدأ ينتقل من مرحلة الهيمنة على مؤسسات الدولة إلى مرحلة إعادة تشكيل هوية تركيا مجددًا، إذ على الرغم من أن هذه الإصلاحات تتضمن إدخال تعديلات على النظام الانتخابي والحياة الحزبية وعلى الجوانب المتعلقة بالحريات الشخصية وحقوق الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، فإن تلك الخطوات تعيد تشكيل هوية تركيا وتخاطب بالأساس الوسط الإسلامي المتدين من جانب، وربما تدشن مرحلة جديدة من احتمال عودة الصراع الاجتماعي داخل تركيا من جانب آخر. ويلفت النظر بداية أن أردوغان تعمد في خطاب الإعلان عن هذه الإجراءات أن يطلب من الأتراك بشكل غير مباشر التوقف عن رؤية أنفسهم كمواطنين يعيشون في دولة علمانية، وعوضًا عن ذلك قال إن ثمة أقليات تعيش في دولة غالبيتها من المسلمين السنة، وأن حكومته وحزبه يعملان على تقوية حقوق هذه الأقليات، فيما يمكن أن يطلق عليه "العثمانية الجديدة"، حيث أشار أردوغان إلى معركة "مانزيكرت" للترويج لحزمته الإصلاحية، وهي تلك المعركة التي انتصر فيها السلطان السلجوقي ألب أرسلان في عام 1071 على الإمبراطور البيزنطي رومانس، لتكون أول معركة كبرى ينتصر فيها الجيش المسلم العثماني على المسيحيين في منطقة آسيا الوسطى، في محاولة للتذكير بانتصارات الإسلام، وهو ما يعيد ترسيخ هوية تركيا الإسلامية. بيد أن إجراءات أردوغان، وإن كانت تتضمن إجراءات إصلاحية، إلا أنها تحمل في طياتها مخاوف من إشعال صراع اجتماعي في المستقبل، بدأت بوادره في الظهور مع احتجاجات ميدان "تقسيم" في شهر يونيو الماضي، ولا تزال تداعياته تلقي بظلالها على تركيا كما يظهر في تصاعد حدة الخطاب التقسيمي في تركيا في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وبروز مقولة "نحن وهم"، وظهور استقطاب اجتماعي واضح لدى تناول القضايا الداخلية وسياسة تركيا الخارجية يكاد يبلغ حد العداء الأيديولوجي؛ الأمر الذي يشير إلى تغير ديناميات المجتمع التركي كما يتضح على سبيل المثال في النقاش حول فقدان تركيا فرصة استضافة دورة الألعاب الأوليمبية في عام 2020 أو في المشكلة التي حدثت خلال مباراة كرة القدم بين فريقي "جلاطة سراي" و"بشكتاش" التي تحولت لأعمال عنف، أو حتى خلال النقاشات حول مواقف الحكومة من التغيير السياسي في مصر والحرب الأهلية في سوريا. وتحمل الاحتجاجات التي شهدتها تركيا في الأشهر الأخيرة إشارات واضحة إلى طبيعة الصراع الاجتماعي بين قطاع عريض من الشباب وبين النخبة الحاكمة، وهو ما يخلق فجوة "جيلية"، إذ لم تهدف مظاهرات الشباب إلي إسقاط النظام التركي ولا يمكن اختزالها كذلك في أنها صراع بين المحافظين المتدينين والعلمانيين الليبراليين، بقدر ما أنها عبرت عن فجوة كبيرة بين رؤية الشباب والطبقة الوسطى المطالبة بالمزيد من التعددية والحريات الفردية الأساسية مثل الحق في التجمع السلمي وحق رقابة ومحاسبة الحكومة، وبين رؤية طبقة حاكمة تعاملت مع هذه الاحتجاجات بأسلوب قسري واستبدادي. إصلاحات أردوغان والصراع الاجتماعي يؤشر تركيز أردوغان على إعادة صياغة المجتمع والهوية التركية إلى احتمالات عودة الصراع الاجتماعي بين فئات المجتمع التركي، حيث يرى المعارضون أن تدابير أردوغان هي مجرد امتداد للبقايا غير الديمقراطية لدستور 1982 الذي كتب في ظل الأحكام العرفية، وأنها لا تزال بعيدة عن حل المشكلات المستعصية في البلاد ولا تتناسب مع تعهده خلال الانتخابات الأخيرة بإعطاء المواطنين الأتراك حقوقًا متساوية. وتظهر أفق هذا الصراع الاجتماعي في مؤشرين: يتعلق الأول بوضع الأقليات ويرتبط الثاني ب"أسلمة المجتمع" من خلال مدخل الحقوق الفردية، إذ على الرغم من أن تأكيد الحكومة التركية على أن إجراءات أردوغان تتماشى ومتطلبات حقوق الإنسان، فإن ذلك التحول يثير العديد من التحديات المستجدة التي ربما تشكل تهديدًا لتركيا في المستقبل القريب. وعلى سبيل المثال فقد أعاد أردوغان بشكل مفاجئ الأصول القديمة للأقلية الليزغينية والقوقازية التي كادت أن تذوب بمرور الوقت في وعاء الهوية التركية، حيث وعد بالسماح لأعضاء هذه الأقلية بتعليم الأطفال في المدارس الخاصة بلغتهم، علمًا بأن ما يقارب من 20% من سكان تركيا من أصول ليزغينية وقوقازية أخرى من بينهم الشركس والكراتشيين والداغستانيين والأدمريين، بينما لم يقدم في الوقت ذاته سوى القليل للأقلية التي تمكنت من الحفاظ على هويتها على مدى العقود التسعة الماضية، أي الأكراد الذين يشكلون أكثر من 15% من سكان تركيا. وبالمقابل لم يرد أي ذكر لحقوق الأقلية العلوية في حزمة الإصلاحات ليس فقط بسبب تأييدهم للتوجه العلماني للدولة التركية ولكن أيضًا لاستمرار عدم تضمين تعاليمهم الدينية ضمن برامج مديرية الشئون الدينية التي تعد معبرًا فقط عن المسلمين السنة، في وقت لا يزال العلويون ممنوعين من الحصول على تراخيص لبناء مساجد خاصة بهم. أما الإصلاحات الخاصة بالأقليات المسيحية فتمثلت فقط في إعادة أراضٍ وكنائس إلى الطائفة الآشورية وضعت الدولة التركية يدها عليها في السابق، فيما لم يتم السماح مثلا للبطريركية الأرثوذكسية اليونانية بعودة فتح الجامعة اللاهوتية في إحدى الجزر القريبة من اسطنبول، ولم يتم منح الأرمن وعدًا بإمكانية فتح تحقيقات شفافة حول المذابح التي ارتكبت في عام 1915. القضية الثانية التي ربما سوف تثير صراعًا اجتماعيًا في تركيا تتعلق بمساعي أردوغان ل"أسلمة" المجتمع التركي والقضاء على بقايا الأتاتوركية. ولا يعود ذلك إلى ما تضمنته حزمة الإصلاحات من رفع الحظر عن الحجاب في كل المؤسسات العامة والخاصة، والسماح للمحجبات بالعمل في مؤسسات حكومية، باستثناء الجيش والقضاء اللذين سيضعان إجراءات خاصة بعمل المحجبات داخلهما لاحقًا، والحكم بسجن كل من يعيق أداء شخصٍ آخر طقوس عبادته، ولكن يعود إلى أن زوجة الرئيس التركي لا تزال تواجه عداءً من بعض الفئات بسبب الحجاب، وهو ما يشير إلى احتمال تحول العداء للمحجبات سابقًا إلى عداء غير المحجبات في المستقبل، لأن معركة الحجاب التي استمرت تسعين عامًا في تركيا شكلت دائمًا محور صراع ضاريًا بين العلمانية والهوية الإسلامية. خلاصة القول، إن سياسة أردوغان الهادفة إلى الحفاظ على تقدم حزب العدالة والتنمية الانتخابي من جانب والسعي لإعادة تشكيل الهوية التركية من جانب آخر ربما تفتح مجالا للصراع بين فئات عديدة داخل تركيا: بين القوميين والإسلاميين والأقليات، وبين المحافظين والعلمانيين، وبين المرأة وبقية المجتمع، وبين قطاعات الشباب والطبقة الوسطى والنخب السياسية، كما أنها تثير التساؤل بشأن مدى قبول نصف الأتراك الذين يعارضون حزب العدالة والتنمية لإجراءات أردوغان المختلفة، حيث لا يشارك هؤلاء الإسلاميين حلم استعادة الدولة الإسلامية التركية ولا يؤيدون فرض برامج وسياسات إسلامية رغم طبعهم المحافظ بوجه عام. عن/ المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية