مع أني أدرك تماماً أن خمسة ليال ليست كافية للإلمام بالأمر. غير أنه ربما علي هنا أن أغامر بنقل مشاهداتي - على قلتها – طالما اعتقدت بوجد أشياء تستحق من وجهة نظري، الكتابة عنها.. بالنسبة لي بدت الصورة الانطباعية عن "تركيا" أقرب إلى السراب الذي يتراءى من بعيد.. كلما حاولت بلوغه، يتباعد وينتقل إلى مكان آخر على مد النظر..!! هكذا كنت أعتقد بكل بساطة: الجمهورية التركية هي بلد علماني يحكمها – حالياً - حزب إسلامي (يفضل أن يطلقوا عليه: ديمقراطي محافظ) . وفي الماضي تناوبت الكنيسة، والمسجد على حكمها..!! فيما تتوزع مساحتها بين الشرق والغرب، بين أوروبا واسيا..!! وفي الحقيقة، كان لكل ذلك المزج التاريخي والجغرافي أثره في صناعة تركيا الحديثة. * البداية من الدين: لقد كان من روائع الصدف – بالنسبة لي – أن تكون اسطنبول هي المدينة التي تم اختيارها لمشاركتي في مؤتمر دولي خلال (14- 17 ديسمبر الحالي) كرس عن "الدين في الإعلام": كيف يمكن تحسين تغطية الدين في الإعلام؟ المؤتمر كان عبارة عن التقاء بين صحفيين عرب وصحفيين أمريكان، للتفاهم حول تغطية الدين الإسلامي والأديان الأخرى، بهدف تصحيح المفاهيم المغلوطة وتفادي ما يسمى ب"حرب الكلمات" بين الغرب والعالم الإسلامي. أما بالنسبة لمنظمي المؤتمر: المركز الدولي للصحفيين، ومقره واشنطن العاصمة. فقد كان اختيار المكان ذو دلالة بالغة، نظراً لتلك الاعتبارات السابقة التي تلخص معنى أن تكون اسطنبول ملتقى الديانتين الإسلامية والمسيحية (عرفت أنها بلد التسامح الديني). وملتقى القارات (أوروبا وأسيا). وملتقى المدنيات (الشرق والغرب). ولكون تركيا – من منظور عام – بلد ذو أغلبية مسلمة أسفرت انتخاباتها عن حكومة إسلامية المنهج لكنها تلتزم بتسيير البلاد وفق نهج ودستور علماني. وهي دلالة مهمة بالنسبة للغرب. * مظاهر أوروبية، وعشق إسطنبول المتفرد: قبل فترة - ليست طويلة – حدثني أحد الأصدقاء عن المسلسلات التركية المدبلجة التي غزت الفضائيات العربية. تحدث بحماس وإيمان أن الهدف البعيد من نشر تلك المسلسلات بهذا الشكل، هو استهداف إيماننا بنهج الحركات الإسلامية الحاكمة من خلال استهداف الحركة الإسلامية الحاكمة في تركيا..!! الحب العميق، قصص الغرام الزائد عن الحد، استخدام النساء الجميلات وعرضهن بشكل مغري، تشويه القيم الأخلاقية... الخ. تسائل صديقي تحت تأثير إيمانه الكبير بوجود مؤامرة ممنهجة تحاك ضد فكرة الدولة الإسلامية: لماذا تركيا؟ ولماذا الآن بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في كسب تأييد الشارع التركي لتمرير ولو جزء بسيط من إصلاحاته القيمية؟ في الحقيقة، لم تكن تلك المسلسلات إلا واقعاً تركياً معاشاً. صحيح أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي على سدة الحكم، لكن الصحيح أيضا أنك حين تتجول في شوارع إسطنبول، لن تلاحظ بسهولة وجود فوارق بينها وبين شوارع الدول الأوروبية..! من الناحية البنائية ربما كان الفرق الواضح هو كثرة انتشار المساجد بقبابها الرائعة والمدهشة ومناراتها الشاهقة. أما في المظاهر فربما كان الفرق الأكبر بوجود عدد كبير من المتحجبات. غير أنك تلحظ بوضوح أن الحياة هناك ممتلئة بالنبيذ والمشروبات الروحية بأنواعها. في الفنادق والمتاجر والمواخير. في المطاعم والمتنزهات والمنازل. هي قطعة من أوروبا في مظاهرها وأبنيتها وشبكة مواصلاتها وأسواقها ومنتجاتها. وهي أفضل من الدول الإسلامية والعربية في مساجدها وصوت مؤذنيها وتراثها.. وأكثر مما هو في أوروبا، تجد الحب هنا في اسطنبول يتجاوز حب الإيطاليين، وجمالاً يتجاوز جمال الفرنسيات..!! بعيداً عن نظرية المؤامرة التي سيطرت على فكر الكثير من الشباب العربي..إنه الواقع يا صديقي: في كل مكان تجد شاباً وشابه تحتضن إحدى ذراعيهما خصرا لآخر بحميمية مفرطة. حتى أنك قد تشعر أن لا أحد هنا يمضي منفردا،ً وقلما تجد مجموعة متجانسة (ذكور، أم إناث) يسيرون مع بعضهم البعض بدون تنوع. هنا لا يخشى التركي أن يُقبل محبوبته في شارع أو حافلة أو سوق يعج بالمارة. وهو أمر يحصل مع الجميع، فالسوق والشارع مطرز بالمتحجبات وهن يتبادلن قدودهن مع أذرع أحبائهن..!! لا أحد يلتفت إليهما بغرابة أو استهجان غير أن تكون عربياً يعتريك الذهول والاستنكار.. تلك هي اسطنبول التي يتجاوز عدد السياح فيها 2 مليون في العام. وتلك هي تركيا التي بات عدد سياحها سنوياً يتجاوزن ال 20 مليون سائحا بعد ثلاث سنوات فقط من حكم حزب العدالة الديمقراطي المحافظ (كانوا فقط يصلون إلى 9 ملايين سائحاً عند توليه الحكم في نوفمبر عام 2002) - في مؤتمرنا حول تغطية الدين كانت إحدى الصحفيات التركيات الجميلات، تدافع عن الدين الإسلامي مقابل زميل آخر صحفي يساري علماني. في بداية حديثها قالت أنها تفتخر بإسلامها وامتدحت حزب العدالة الإسلامي ومنجزاته. تحدثت عن حق المرأة التركية المسلمة في ارتداء حجابها ( 70 % تقريباً من النساء يرتدين الحجاب) ودخولها به إلى المدرسة والجامعة، بينما كان شعرها الأسود - الذي تعكس الإضاءة عنه بريقا أحمرا خفيفا في المنتصف وعلى الأطراف - منسدلا على كتفيها بحرية كاملة. وفي الاستراحة كانت تضحك وتحتسي النبيذ الأحمر مع بعض الصحفيين والصحفيات الأمريكان. ومع أن صديقي العربي الذي ينتمي إلى أحد التيارات الإسلامية المعتدلة، كان هادئاً وهو ينظر إلى الموقف، قال لي مبتسماً ومازحاً: هذا هو الإسلام "المودرن". ثم تلى ذلك بعبارة أخرى، قائلاً: إن الإسلام في تركيا غريب وقد أدهشني ولفت انتباهي أنه مزيج بين الصوفية والعلمانية والإسلام السمح المعتدل..!! * اندهاش في هوية مثيرة للجدل: في الحقيقة أن الاندهاش لما يعنيه الإسلام في تركيا، يأتي بالمقارنة مع الإسلام الذي ورثناه نحن من أبائنا وأجدادنا السابقين. غير أن الحقيقة الأخرى هنا في تركيا أنها دولة مقيدة بقيود الجمهورية التركية العلمانية التي أسسها كمال أتاتورك وأعلن فصل الدين عن الدولة عام 1924. وهو ما صعب على حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان – رئيس الوزراء – أمور كثيرة لعل أبسطها الحق في إرتداء الحجاب في المدارس والجامعات..!! يلامس الكاتب والباحث شفيق شقير، تلك الحقيقة، في مقال مطول نشره قسم البحوث والدراسات في الجزيرة نت في وقت سابق، إذ يؤكد أن النظام التركي "يمتاز بتحفزه واستعداده الدائم لمواجهة أعداء العلمانية، مع الحرص على توكيد الروح القومية التركية بوصفه مكونا أساسيا ينسخ المعاني الدينية التي جاءت بها السلطنة العثمانية، فشحنت مواده بروح عدائية لكل ما يمت لتلك الحقبة بصلة، مما أوقع تركيا في أزمة هوية ما زالت مثار جدل لدى الأتراك وغيرهم". هو اندهاش مشابه لما نحن عليه أيضاً حول الهوية التركية، وإن جاء هناك بصورة مثيرة للجدل. لكن، بالعودة إلى تاريخ تركيا القديم واتصال أحداثه حتى قيام الجمهورية التركية في عهد أتاتورك، وما بعد، ربما سيكون الأمر أكثر وضوحاً لما آلت إليه تركيا الحديثة وإسلامها الغالب المحكوم بقواعد علمانية. * التاريخ بين الدولة الدينية واللادينية: وبشكل سريع سنحاول أن نشير هنا إلى بعض محطات التاريخ المهمة في تركيا بهدف تجميع ما يمكننا من خلاله احتواء ما آل إليه الحاضر. في عام 330 بعد الميلاد قرر الملك قسطنطين الكبير نقل عاصمة روما وأختار اسطنبول لتكون هي العاصمة وسميت على اسمه "القسطنطينية" وقام بمشروع إعماري ضخم في المدينة لتصبح العاصمة الثانية لروما. وأعتنق الملك النصرانية بتأثير من أمه المتمسكة بها. بعدها انتشرت النصرانية في المدينة وأصبحت الين الرسمي للدولة، وبدأت تركيا كدولة مسيحية في العام 391. وأنشأت في اسطنبول منشاءات ومعالم مسيحية ضخمة وكثيرة. وبين الأعوام (666 – 770) حوصرت المدينة من قبل العرب حوالي ثمان مرات، في محاولات فاشلة للسيطرة على المدينة. وفي عام 1453 نجح القائد المسلم محمد الفاتح في السيطرة عليها، وسماها باسمها الحالي "اسطنبول"، التي صارت بعد الفتح العاصمة الثالثة للدولة العثمانية. بعد فتح مصر وانتقال الخلافة إلى العثمانيين سنة 1517 أصبحت المدينة مركزاً للعالم الإسلامي. وخلال فترة حكم العثمانيين حتى اوآخر القرن السابع عشر زينت المدينة بأجمل المساجد والكليات والقصور. وفي عام 1876 نص الدستور الذي أعلن على أن دين الدولة هو الإسلام. لكن، وأثناء الحرب العالمية الأولى احتلت قوات الإتحاد المدينة في العام 1919، وبعد حرب الاستقلال ألغيت الخلافة وأعلنت الجمهورية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1923 وانتخب مصطفى كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية الناشئة والذي قام بإلغاء نظام الخلافة وفصل الدين عن الدولة في 3 مارس/آذار 1924 ، ومنذ ذلك الحين بدأت تركيا العلمانية لتأخذ موقعها الجديد في العالم. وبعد تلك المرحلة يوضح "شقير" - في مقالته السابقة الذكر- إن "كل التعديلات الدستورية التي تلت قيام الجمهورية التركية كانت تهدف إلى الانعتاق من مؤثرات المرحلة العثمانية وتكريس النظام العلماني، وذلك ابتداء من دستور 1924 الذي كرس حكم الحزب الواحد لمدة عقدين من الزمن حكم فيها حزب أتاتورك "حزب الشعب الجمهوري" إلى أن تأسس الحزب الديمقراطي وحكم مرات متتالية، ثم انتهى أمره بانقلاب عسكري في 27 مايو/أيار 1961 حكم فيه على رئيس الجمهورية جلال بايار ورئيس الحكومة عدنان مندرس ورئيس المجلس النيابي رفيق كولتان بالإعدام بعد أن اتهموا بأسلمة الدولة وتهديد مبادئ أتاتورك ونظامه اللاديني." ويواصل "شقير" الحديث عن المرحلة التاريخية والسياسية التالية، يقول: " ورغم أن دستور 1982 -وهو النافذ حتى الآن- قد فتح الباب أمام التعددية الحزبية وأطلق حرية التعبير، فإن الاتهامات القائمة على أساس الإساءة للمبادئ الكمالية والنظام العلماني لا تزال قائمة ولها سند في الدستور التركي أي دستور عام 1982 والذي تجدر الإشارة إلى أنه وضع إبان حكم عسكري جاء به انقلاب سبتمبر/ أيلول 1980." * تركيا الجديدة: ديمقراطية بقيود علمانية: لكن، ومع أن الدستور الجديد فتح الباب أمام التعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير، غير أن تلك الأسس العلمانية الأتاتوركية كانت هي الأقوى والمسيطرة على المشهد السياسي في البلاد. وعلى ضوء ذلك تم حل حزب الرفاه الإسلامي وحُظر العمل السياسي على رئيسه نجم الدين أربكان مدة خمس سنوات، ومن بعده حزب الفضيلة الذي حل بدوره لينتهي به الأمر مقسماً إلى حزبين حزب السعادة، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان والذي كان قد حوكم بدوره أيضاً على خطاب ألقاه في تجمع سياسي. و في وقت لاحق من القرن الحالي - إبان فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الانتخابات – طمأن "أردوغان" العلمانيين، أن أكد الحفاظ على الأسس العلمانية في حكم تركيا. وهو أمر لا يستطيع مخالفته بحكم قواعد الدستور الذي تمت صياغته بطريقة قيل أنها تحافظ على القومية التركية خشية من عودة الخلافة الإسلامية. ومع أن التيار العلماني في تركيا لم يعد ذلك القوي الذي يمكنه على أرض الواقع مجاراة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم - الذي حاز على نسبة تأييد وتصويت في الانتخابات الأخيرة بلغت حوالي 74% بعد أن كانت 60% في الانتخابات السابقة- غير أن التيار العلماني يستمد قوته من الدستور العلماني، الذي بدوره منح المؤسسة العسكرية قوة تجعل منها الجهة المدافعة عن المبادئ العلمانية منذ عهد الرئيس أتاتورك وحتى اليوم، وهي تتدخل بشكل غير مباشر في ممارسة الضغوط على المؤسسات المدنية أو بشكل مباشر عبر الانقلابات العسكرية إذا دعا الأمر، كما وقد حفظت لنفسها دوراً رقابياً وتنفيذياً في الحياة السياسية عبر ما يسمى ب"مجلس الأمن القومي التركي". (أنشئ مجلس الأمن القومي التركي ليوفر للجيش قناة قانونية تعطيه صلاحية التدخل في الشأن السياسي، ويتألف هذا المجلس من رئيس الأركان والقادة الأربعة: الجيش، البحرية، الجوية، وقائد الجندرما، إلى جانب رئيس الوزراء ووزير الدفاع والخارجية والداخلية. ويمارس هذا المجلس نفوذاً واسعا في الحياة السياسية أشبه بحكومة ظل). * جدل الدخول إلى أوروبا: يدور جدلا كبيراً في تركيا حول حماسة حزب العدالة والتنمية في ضم تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، ونجاحه في تحقيق بعض النقاط المطلوبة للإنظمام. ففيما يرى حزب العدالة أن الانضمام إلى الإتحاد ضرورة وطنية من أجل مصلحة ومستقبل تركيا، يتهمه البعض أنه يسعى لتحقيق مآرب سياسية من أهمها إضعاف سيطرة المؤسسة العسكرية، المتهمة الأولى بعرقلة هذا الانضمام. وتأتي تلك الاتهامات كون الإتحاد الأوروبي قد أعلن صراحة عام 2000 أن الجيش بصلاحياته ووضعيته الحالية يشكل عائقاً أمام دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. والأمر هنا مرتبط بتخوف الجيش من أن يخسر نفوذه السياسي في حالة الانضمام. ومع ذلك فقد نفى الجيش تلك التهم في أكثر من مرة. وبالمقابل يرى البعض أن عودة الأتراك إلى التمسك بدينهم الإسلامي من خلال تمسكهم بحزب العدالة والتنمية الإسلامي في الحكم وزيادة شعبيته عام بعد آخر، يرجع كسبب آخر في عرقلة تسريع انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي. وهذا ما يقوله العلمانيون. وتؤكد الصحفية التركية أمبريان زمان – صحيفة الاقتصادي المستقلة – ضمن حديثها في مؤتمر تغطية الدين في الإعلام"، أن هناك تخوف من الإسلام، وهو تخوف غير مبرر في نظرها. مشيرة إلى أن تركيا بلد إسلامي فريد من نوعه، أستطاع بإسلامه المعتدل أن يحمي تركيا، حيث لا توجد حركات إرهابية مثل القاعدة ولن توجد. غير أنها أكدت أن التخوف من الإسلام أفشل إحداث سلام داخلي في تركيا. وتحدثت عن وجود صراع داخلي بين حرية العبادة والعلمانية والديمقراطية، إذ أن هناك من ينظر إلى الدين كتهديد على النظام العلماني. ومما قالت تأكيداً على ما ذهبنا إليه في أن الإسلام أحد أسباب عرقلة انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، قالت: نواجه مشاكل كبيرة بسبب إسلامنا في الدخول إلى الإتحاد الأوروبي. وفي سياق حديثها ذاك، لم تكن الصحفية التركية المسلمة التي تؤيد إصلاحات حزب العدالة والتنمية، تسعى إلى إدانة الإسلام كأحد المشاكل المعيقة لدخول الإتحاد، بل كانت في سياق الاستغراب من التخوف من الإسلام إلى هذا الحد، مع أن حكومة حزب العدالة والتنمية، قدمت لتركيا من الإصلاحات والانفتاح على العالم ما لم تقدمه حكومة من قبل على مدى العقود الماضية. *الإسلام بين علمانيتين: ومع ذلك ومع ما قدمه حزب العدالة والتنمية الإسلامي كحزب حاكم، من إصلاحات كبيرة خلال السنوات الست الماضية واعتبرت ثورة حقيقية في الاقتصاد والبنية التحتية التركية، والتعليم والصحة، ومحاربة الفساد..الخ. ومع كل ذلك كان هناك الصحفي التركي فائق بالوت، وهو يساري علماني، يشدد – ضمن حديثه في ذات المؤتمر – على أنه في تركيا "لا يوجد خوف من الإسلام، غير أن الخوف هنا هو من حكم الإسلام". وكان "بالوت" قد أشار في بداية حديثه إلى أنه علماني يساري وليس علماني أتاتوركي، موضحاً أن هناك خلافات بين الطرفين وأنهم ضد العلمانية الأتاتوركية التي تحارب الدين وتجعل من نفسها ديناً في نفس الوقت. بينما أن العلمانية اليسارية تؤمن بالحرية وتحترم الدين وتتيح حرية العبادة وتلتزم الديمقراطية. وأكد "بالوت" أن هناك ظروفاً داخلية وأخرى خارجية جعلت من تركيا دولة إسلامية. فمنذ السبعينات وحتى الآن بدأ التغيير نحو الإسلام، بسبب دخول الثقافة الإسلامية والتجارة الإسلامية والمصارف الإسلامية. وبسبب التغير في النظرة إلى المرأة والجنس، وأسلمت الأحزاب السياسية التركية حتى أصبحت اللغة الإسلامية (الخطاب الإسلامي) هو المسيطر على الأحزاب من أجل أصوات الجماهير. كما أشار إلى أسباب أخرى منها الهجرة من الريف إلى المدينة والتي بدورها أوجدت ثقافة بين الريف والمدينة كلغة أخرى لا مدنية ولا ريفية بحيث أصبحت تربة خصبة للتدين. وقال أن بعض المثقفين مؤخراً أصبحوا يروجون لما يسمى بالعثمانية الحديثة. أما الأسباب الخارجية التي ساعدت على أن تتجه تركيا نحو الإسلام، أهمها الدعم الغربي لمكافحة الشيوعية حيث أتاح ذلك فرصة لدعم الإسلاميين، وكذا رأس المال الخارجي الداخل إلى تركيا. وفي كل الأحوال يجتمع العلمانيون بصنوفهم متهمين حزب العدالة بمحاولة أسلمت تركيا من خلال نشر المدارس الدينية وفرض دروس إجبارية في الدين بالمدارس.. وتلك هي تركيا الساحرة في مناظرها، الجميلة في سكانها، المدهشة بسياستها.. فيها يقع الإسلام متهما بين طرف: علماني داخلي يتهمه بتقويض أسس النظام العلماني والعودة إلى الخلافة ونشر الإسلام. وآخر إسلامي خارجي، يتهمه بالحداثة والتفسخ. وبين هؤلاء هناك طرف ثالث مسيحي خارجي يخشى من انتشاره على حساب القيم المسيحية فيما إذا سمح لتركيا بدخول الإتحاد الأوروبي أو باستمرار نجاح حزب العدالة كنموذج إسلامي في الحكم وتغيير النظرة الخارجية للإسلام كدين للحياة وليس للموت.