كنا في ذلك الوقت على حافة الغياب َتحضُرُ في قهوتي الصباحية، وعلى شرفات جامعتي المطلة على الكثير من المطر، في صوت فيروز وفي قصائدي الممزقة، تحضر أينما ذهبت وفي كل الصلوات كأنك فعل بحر ونار كم كنت شجاعة عندما حاولت مجاراتك، في كل انفعالات الفضاء، في كل الهطول والأزل، والمدائن وأفعال الحروب، وكم كنت قاسية على الحاضر، منذ أن خطفت سكوني وذهبت.. وأوغلت في القلب شرارة زرقاء نفثت عليها من نفسك لكني انطفأت .. ومنذ أول مرة بعد سلسلة مضنية من الانكسارات والهروب المستتر، استنشقت الغاز المسيل للدموع في الطريق من جامعتي إلى مدينتي دورا، كان الناس في الشوارع يسقطون ويمطرون الأرض بوابل من الدموع والصياح بتناوب، هذه تسند صديقتها فتسقط معها، ويصرخ شاب آخر... إسعاف كنت أنظر إليهم في دهشتي المفرطة، وأسعل بشدة وعيناي تدمع، حقيقة لقد كنت كاذبة
لم تكن عيناي تدمع من الغاز المسيل للدموع، أو على الشهداء الذين سقطوا بالأمس، لقد خنت وطني وأصبحت أحداثه الفعل العادي الذي يقطن بجوار القلب ويهدأ ينفعل ويسقط الكثير من الشهداء ويسقط قلبي ويتجمد وينتفض ويذبل من جديد لا أدري لماذا تذكرت قول غسان كنفاني: لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل ، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة ، وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي.
لا أدري لماذا شعرت بأني أقف على ذات الأرض التي وقف عليها غسان، وأنا التي استبدلت الوطن بمخدعها، وصورة عمها الشهيد، ورسائل لم تتسع لأكثر من وجع ودمعة من إخوتها في السجون الإسرائيلية، أنا التي لعنت الوطن ألف مرة عندما رفضوا أن يدخلوها لزيارة أخيها في سجن ريمون، وأنا التي انتفضت عندما عندما رأت علم إسرائيل يرفرف على قارعتها فكلما مددت بنظري للسماء من شباك صفي المدرسي وجدت علم إسرائيل يصفعني، ويصفعني، ثم يرديني أرضاً وأسقط من علو ..وأنتحل شخصيات لا وجود لها تقف أمام العلم، وبدلاً من أن تنشد السلام الوطني تنشد ما كتبه إبراهيم طوقانن: وبلاداً أحبَّها
ركنُها قد تهدًّما وخصوماً ببغْيِهمْ ضجَّت الأَرضُ والسما مرَّ حينٌ فكاد يق تُلهُ اليأْسُ إنَّما هو بالباب واقفُ والرَّدى منه خائفُ فاهدأي يا عواصفُ خجلاً مِن جراءتِهْ
أشعر بأن الشهداء عليهم أن يكونوا أسياد هذه البلاد وحدهم من يعرفون كلام الرصاص الأخير قبل أن يقتلع فتوتهم، ووحدهم تلامذة الفجر وتلامذة النكبات وتلامذة الجدران وتضاريس هذا الوطن الشجي ونحن مجرد هاوين ينتفضون ويهدأون ولا متسع لنا لكي نكبر مثلهم وحدهم الشهداء في وطني يكبرون نحتفل بأعياد ميلادهم تحت أشجار اللوز ونوزع على الحاضرين الطفولة وحدهم من يغنون تحت الشرفات ليلاً موطني.. موطني ليوقظوا السماء وحدهم من ينظمون السير بدمائهم وبغصن زيتون وبرقعة من الشمس شهدت اغتيال ظلالهم ووحدهم من يلعبون مع الأطفال في الطرقات كي ينجب الإسفلت عاصمة أو مدينة وحدهم الشهداء من يزفون لنا أخبار الجنائز والورد ومن يمتطون صهوة الحلم في كبوة عاشق يجوس في آخر الوقت ليقطف سفينة من بلاد السحر وحدهم من يكبرون في العلياء وفوق الغيم وتحت الغيم ....على الممرات المهجورة وفي مواقف الباصات وفي أزقة الحواري ونحن نصغر... نصغر... نصغر فيحدث كثيراً أن نخون وطننا فقط في خمس دقائق، نجعله الشماعة التي نعلق عليها كل انكسارات هذه الروح، وهذا القلب الخافت، الذي وطأ الأسى بضبابية وسكون كم تمنيت أن أبعث لك برسالة عاجلة أكتب لك فيها حبيبي عندما يعلنون الحرب ساعدني على الآتي: أن نرفع صوت الموسيقى في كل بيت وشارع، أن نفتح نوافذ غرف الوالدات في المشفى، أن نسرق من الأطفال ألعابهم كي يصرخوا، أن نرفع ضجيج المارة من العاشقين، أن نرفع صوت الكون ونخفض صوت الرصاصة،، ثمة طفل يا حبيبي في داخلي يريد أن ينام... وهذا الطفل يضج كثيرا ويصرخ، يمزقني مفتتن هو بما قال شابان في السيارة: - أتعلم شيئاً يا طارق، لو أن الطريق إلى الداخل ممكنة لو أننا لسنا بغريبين في هذا الوطن، لو ان الحدود فعل وهم عابر لربما شربت قهوتي مع عمتي التي تسكن حيفا، ووجدت أنت لك عملاً في الناصرة، وتزوجت ابنةعمك المقدسية يخون المرء نفسه في ثانيتين ويعود يعود هشاً منكسراً ذليلاً كم يشعر بسذاجته بأن وطناً به بيارات يافا وكروم الخليل يمكن أن ينسى أو يخان، كم أشعر بالخجل من الشوارع من الأزقة من النوافذ والشرفات من فناجين القهوة، من سجائر جدي، من الشعر الأبيض الذي غطى رأس والدي كم أشعر بالخجل من امرأة تقف على الحاجز فتنجب "معبر" ومن شاب خان حبيبته فزف إليها بالأبيض وارتدت هي الأسود
انقلاب الأشياء في وطني جمال ووجع انعكاسها مرايا منهكة جمدت الصور الحمراء واستقالت من كل جديد كما استقلت من صلاتك ووجعك ووجعي الذي أنهكته الحدود وإسرائيل أكتب لك بفجائية الحتف وأنا أجلس على رصيف غير مرئي تستحضرني بلحيتك الطويلة فسيوقفونك يوماً على حاجز في بغداد بلحيتك الطويلة سيسألونك هل أنت إرهابي؟ ستجيبهم بأنك في حداد على أميرة فقدتها على أسوار عكا، وأن في الحداد تسير الجنائز لوحدها نحن اللجوء سيفتشون قلبك وخطوط يدك ومعطفك سيجدون معك بندقية ملطخة بالسواد ستعترف أنك قتلت أربعة ظلال خفت منهم على ظل حبيبتك المفقودة سيعتقلون ظل حبيبتك ويأسرونك في بقعة ضوء