غداة اندلاع الثورة السورية وما رافقها من جرائم شنيعة ارتكبها النظام البعثي، توارى الشاعر جوزف حرب عن الساحة الثقافية على خلاف بضعة كتّاب لبنانيين هم من أتباع البعث وروافده. كان الشاعر تلقى قبل أشهر قليلة وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة وعلّقه على صدره الرئيس بشار الأسد في حفلة تكريم أمام الكاميرات. كان هذا الوسام حافزاً على حملة قام بها ضده معارضو النظام من كتّاب ومثقفين سوريين. وعلى عادته لم يردّ الشاعر على ما كتب ضده، لكنه انسحب الى عزلة لم يكسرها اخيراً سوى خبر رحيله. قد لا يكون مجدياً الآن تذكر الوسام والصور التي انتشرت إعلامياً، فالشاعر الذي كافأه النظام السوري البعثي على مواقفه القومية اولاً ثم على ابداعه الشعري، أغمض عينيه الى الابد، لكنه اغمضهما كما لم يكن يتمنى يوماً، على مجازر ارتكبها البعث السوري الذي كان ينتمي اليه فكرياً ورمزياً. الشاعر الملتزم، شاعر الخبز والورد، الذي غنى الجنوب والفقراء والارض والامل، لم يتمكن من تصديق ما شاهده من عنف يمارسه البعث السوري على الفقراء والفلاحين والعمال... فتوارى مغرقاً في صمته. كان جوزف حرب شاعر البعث غير المعلن، صدّق مقولة «الصمود والتصدي» وجعلها بيرقاً، هو المثالي، الذي سار، على خطى الشعراء الانسانيين، شعراء النضال والحرية، شعراء الامل والرجاء، على خطى بابلو نيرودا ولوركا وماياكوفسكي... وكتب في ما كتب، قصائد وطنية ذات نفحة غنائية ووجدانية، رومنطيقية وملتزمة في آن. لكنه في اوج التزامه لم يتخل لحظة عن نزعته «الطبيعية» الموسومة بقدر من الحنين والوجد. فهو ابن المدرسة اللبنانية، المدرسة المشبعة بشعرية الريف ومعجمه الغني، بجمال المنظر ودفء الشمس وتوهج الضياء «السمح» وفق امين نخلة، وبريق الثلج وسقسقة السواقي وخرير الجداول وهديل الحمام... هذا المعجم الريفي ورثه حرب أولاً عن شعراء النهضة النيوكلاسيكية من مثل صلاح لبكي والياس ابوشبكة وأمين نخلة ويوسف غصوب، ولا سيما سعيد عقل الذي كان له عليه أثر بيّن، في الشكل و «اللعب» اللغوي والتركيب والجمالية... وكان حرب ايضاً من ورثة الشعر العامي اللبناني في كل تجلياته، لا سيما تلك التي تبدت في شعر ميشال طراد والرحبانيين عاصي ومنصور. عاش جوزف حرب وكتب في مثل هذه الأجواء. كان ينتقل بين الفصحى والعامية ببساطة تامة وسهولة، على رغم ما كان يكتنف شعره الفصحوي من تصنع وتكلف في أحيان كثيرة. والتكلف والتصنع هذان، لم يخل منهما شعره العامي في أحيان. وهو كان مغزاراً وبخاصة في العقدين الاخيرين، وديوانه «المحبرة» (2206) تخطت صفحاته الألف ومئتين، ودواوينه الاخرى لم تكن قليلة الصفحات بتاتاً. كتب جوزف حرب كثيراً، كتب أكثر مما يكتبه شاعران وثلاثة معاً. ولعل هنا تقع إحدى هنّاته البارزة. شاعر صنّاعة، شاعر حرفيّ وإن فضحت أسرار صنيعه في احيان غير قليلة. ماذا يمكن ان تضم ثلاثة آلاف صفحة وأكثر من الشعر؟ كان جوزف حرب مترهبناً للشعر، ولم يملّ هذا الترهبن. الشعر دأب يومي، صنعة يومية انطلاقاً من قالب جاهز نادراً ما سعى الشاعر الى كسره. وإن لم يكتب الشاعر قصائد طويلة فهو في ما كتب من قصائد قصيرة لم يسع الكثافة والاختزال. الكثافة لديه خادعة والاختزال مراوغ. والقصائد القصيرة التي ملأت الصفحات تتردد اصداؤها واحدة في قلب الاخرى. قصائد تكرر نفسها ولكن من غير ان تسقط في الإسفاف والركاكة. بل هي تكشف نفسها من فرط التكرار المنطلق من الأنموذج الذي تتكئ التقنية الشعرية عليه. وهو أنموذج غدا مفضوحاً ولم يبق خفياً أو متوارياً. كان جوزف حرب شاعراً على حدة، لم يشارك في اي حركة شعرية أو تيار. كان على هامش ثورة الحداثة، وعلى هامش مجلة «شعر» وسائر المجلات الاخرى. ولم تكن له مداخلات نظرية في شأن الحداثة والصراع بين الجديد والقديم. حتى قصيدته التفعيلية لم تنفتح على التحولات التي شهدتها لاحقاً هذه القصيدة عربياً. ظل محافظاً في حداثته التفعيلية ولم يكن يضيره البتة ان يكتب القصائد العمودية في مناسبات شتى، رثائية او مديحية. وكان معروفاً عنه عداؤه المستميت لقصيدة النثر التي لم يستوعب ثورتها مع انه كتب في مطلع مساره في الستينات، مقطوعات نثرية في برنامجه الاذاعي «مع الغروب» (إذاعة لبنان) وهو اصدرها في كتاب ثم أخفاها وكأنه تنصل منها. كانت لعبة التفاعيل وحدها قادرة على حفزه على الكتابة وبمثل هذه الغزارة، فهي قادرة فعلاً على إخفاء العيوب الشعرية والركاكة والتكرار. اما في اللغة العامية، فكان جوزف حرب قرين نفسه شاعراً بالفصحى. المعجم الشعري نفسه والنزعة نفسها واللعبة التقنية نفسها وكذلك الصنعة والتركيب على طريقة سعيد عقل، ولكن على قدر من الوجد والألم والغنائية المجروحة والنزعة الطبيعية والذاتية التي وسمت الشعر الرحباني. ولعل فيروز هي التي فتحت له ابواب الشهرة الشعبية عندما غنت له نحو خمس عشرة اغنية لحّن بضعاً منها زياد الرحباني وبضعاً آخر فيلمون وهبي. وعلى غرار ما كان في الشعر، كان جوزف حرب في السياسة: يساري ولكن من غير التزام حزبي، صديق الشيوعيين، لا سيما من خلال صديقه زياد الرحباني وصديق المناضلين الجنوبيين جميعاً، قومي عربي على رغم نزعته الشعرية اللبنانية الصرف، وبعثي بالروح والقلب، وقد وجد في البعث السوري المثال الذي يُحتذى، فكان الصديق الوفي لهذا البعث فكراً ونظاماً. كتب جوزف حرب الكثير من الشعر، اكثر من ثلاثة آلاف صفحة، لكنّ بعض هذا الشعر إذا جُمع في ما يشبه «المختارات» هو حتماً من عيون الشعر التفعيلي ذي النزعة الجمالية الصافية، الكلاسيكية المنابت، المغرقة في غنائيتها الانسانية والطبيعية والوجودية.