لوحة ترحيبية على مدخل مدينة زنجبار نصبها أنصار الشريعة - عدن أون لاين عدن أون لاين/ استطلاع/ جهاد محسن - نقلا عن صحيفة "خليج عدن" الأسبوعية: مدينة.. يخيم عليها شبح الموت، وشوارع مكفهرة وأحياء مهجورة ومنازل مدمرة، ونازحين سيدفعون لاحقاً تكاليف كارثة إنسانية أكبر من إمكانية دولة.
"زنجبار" مدينة دكت معالمها وتاهت في تفاصيل الوغى، وأطلال شاهدة تحكي عن قصة مدينة وضعوها بين طواحين الردى، حين سرنا في شوارعها سمعنا صوت الألم الساجي بين الحطام، لم يعد لعبق الفاكهة والخضرة رائحة غير رائحة البارود والدم، لم نشاهد غير شبح الموت وحده يمشي بين الأزقة والشوارع، جميعهم هناك يقتل بعضهم، باسم الوطن والسياسة والآخر باسم الدين والشريعة، وكلاهما يقول لقاتله "باسمك اللهم نشهد بأننا مسلمين" !!. في "زنجبار" تجد أطياف لرجل فقير يجمع طوب منزله المصنوع من طين متهالك، وامرأة مكلومة تحتضن صورة لفلذة كبدها ابتلعته المعارك، ليس في "زنجبار" سوى صواريخ وقذائف تسقط فوق رؤوس الأشهاد دون هوادة، منازل تدمر وعائلات تشرد بين رحلة الشتات والمهانة، ولا تعنيها لمن توجه الاتهام عن المسؤول في سفك دماء أبنائها، بقدر ما يعنيها السؤال لماذا "أبين" وحدها تدفع الثمن، وتنام على صوت المدافع، وتصحوا مع نداء المآذن !!
"خليج عدن" زارت مدينة "زنجبار" التي لازالت تحيطها أسوار الدبابات والبنادق، ويرابط على تخومها آلاف الجنود والعساكر، وفي داخلها تجوب عناصر "القاعدة" وتتولى مقاليد القيادة، حتى يتم الانتهاء من سيناريو المرحلة القادمة !!.
حاولنا كثيراً ولوج "زنجبار" غير أننا كنا نواجه في كل مرة صعوبة، بسبب حالة الحصار الذي تفرضه السلطات الرسمية بعد سقوطها في 27 مايو من العام المنصرم تحت قبضة مسلحي "القاعدة"، ومنذ ذلك الوقت والمدينة لازالت ساحة حرب مفتوحة على مصراعيها، حيث تواصل 6 ألوية عسكرية تطويقها على طول امتداد الشريط الساحلي، بدءا من نقطة "العلم" وحتى أخر نقطة لها في "وادي حسان" على مشارف مدينة "شقرة"، فيما يمنع "أنصار الشريعة" الذين يسيطرون على العديد من المحاور الهامة في محافظة "أبين" وتخضع تحت سيطرتهم مناطق مثل "عمودية والكود وباتيس والحصن ودوفس وشقرة" من دخول مدينة "زنجبار" إلا بتصريح من أمرائهم المهيمنين عليها.
وحين تسنى لنا دخول المدينة، لم نرى غير مشاهد قاتمة من الصمت والخوف والرعب يخيم سمائها، ورائحة البارود والأوبئة والروائح المنبعثة من بقايا جثث لقتلى وجيف لحيوانات نافقة تلوث نقاء التربة والماء والهواء، شاهدنا في "زنجبار" أحياء هامدة ومهجورة وشوارع مكفهرة أضحت ملاذاً للأشباح، بعد نزوح الآلاف من مواطنيها، على الرغم من سماح السلطات الرسمية للمواطنين النازحين بالعودة إلى ديارهم، غير أن عملية النزوح السكاني تتصاعد مع كل إنذار توجه السلطات العسكرية لمسلحي "أنصار الشريعة" بإخلاء المدينة، خشية من تجدد المعارك في أحياءهم، ما يجعل المواطن وحده في "أبين" هو الضحية الأضعف في هذه المعركة الغامضة، والتي ينحشر فيها بين كماشة تهديدات القوات الحكومية وبين استعدادات مقاتلي "القاعدة" في مواجهة العمليات العسكرية المرتقبة ضدهم.
لم نجد إحصائيات أو بيانات واضحة بشأن عدد الوفيات الذين سقطوا في صفوف المدنيين منذ اندلاع المعارك في أبين، أو بشأن الأضرار التي تعرضت لها المباني والمنازل المدمرة، غير أن الشواهد وحدها تشير إلى حجم الكارثة والمأساة الحقيقية التي حلت على هذه المدينة المنكوبة بعد أن هجرها كامل سكانها، ولم يبقى في ديارها وشوارعها إلا صوت الخراب ينعق من حيث الرعب الراجف من رحى المعارك الحائمة حولها.
"زنجبار" هي عاصمة محافظة "أبين" وفيها توجد أهم المباني والمرافق الحكومية العامة، منها القصر الرئاسي والإذاعة المحلية والمجمع الحكومي الذي يشمل مكاتب تمثيل لأكثر من 15 وزارة مركزية، إلى جانب مباني المجالس المحلية و8 منظمات مدنية، وكلية التربية التابعة لجامعة عدن، و12 مصنعاً للحكومة والقطاع الخاص، وملعب الوحدة الرياضي و12 نادياً رياضياً، بالإضافة إلى ميناء "مقاطين" في "شقرة" الذي يعد من أقدم الموانئ اليمنية، ومصنع 7 أكتوبر للذخيرة الذي يتضمن مجموعة ورش لصناعة الذخائر الحية لبعض أنواع الأسلحة، وتم بناءه عام 1970م، في عهد الرئيس/ سالم ربيع علي.
والكثير من هذه المرافق تعرضت للعبث والتخريب والدمار، بسبب حدة القصف المدفعي والجوي المركز عليها، فهناك مباني ومكاتب حكومية تعرضت لأضرار كبيرة ونهب كامل لمحتوياتها، من أجهزة ومعدات ووثائق وأثاث وغيرها من الأصول العامة للدولة، بالإضافة إلى أضرار كبيرة وكثيرة لحقت بممتلكات المواطنين، وشاهدنا العشرات من البيوت والمنازل المدمرة بشكل كامل وجزئي، وأملاك ومحتويات خاصة نهبت وسلبت في العديد من المنازل والمحلات التجارية، بسبب المعارك وحالة الفوضى الدائرة فيها، ومثلت البنية التحتية لمدينة "زنجبار" الحصيلة الأولى من حجم كثافة الأضرار التي تعرضت لها، فالخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والصرف الصحي، تضررت بشكل كبير، كما أن "مركز البحوث الزراعية في منطقة "الكود" الذي تأسس عام 1955م، ويعتبر أقدم مركز بحثي وعلمي على مستوى الخليج والجزيرة العربية، تعرض أيضاً للتخريب والدمار، بالإضافة إلى تدهور البنية الاقتصادية بشكل واسع في قطاعات الزراعة والأسماك، بعد أن كان يعمل ويقتات منها غالبية سكان المحافظة، وتمثل لهم مصدر دخل لإعالة أسرهم.
هناك الكثير من الخراب والدمار تشاهده في "زنجبار" ربما الأسوأ فيها ضراوة الأضرار المعنوية والخسائر المادية الكبيرة التي تكبدها المواطنين في ممتلكاتهم ومنازلهم المدمرة، ونفوق العشرات من أغنامهم وأبقارهم، ما يهدد أن سكان محافظة "أبين" حين يعودون إلى ديارهم، فأنهم سوف يعانون من توسع رقعة الفقر والفاقة أكثر مما كان عليه في السابق، فالخسائر التي لحقت بالاقتصاد المحلي للمدينة، كبيرة وهائلة، وتحتاج إلى مبالغ طائلة وأعوام طويلة حتى تتعافى من نتائج المعارك وأثارها، فيما سيظل فقراء المدينة يبحثون عن بقايا مساكن مطمورة تحت الركام والأنقاض، ويدفعون لسنوات كثيرة ضريبة باهظة تتجاوز حدود تكاليف كارثة مأساة إنسانية، تفوق حجم إمكانية مدينة بكاملها أو ربما ميزانية دولة.
في جانب آخر من فصول المأساة في "أبين" نجد آلاف المواطنين الذين شردوا قسراً من بيوتهم وديارهم هرباً للنجاة وأتون المعارك الضارية، يعانون في مواقع إيوائهم من واقع مؤلم وأوضاع مأساوية، تجدهم يجمعون أشتاتهم في مدارس عدن ولحج، وبين أوجاع التشرد والشتات يشحذون قوت طعام ويحصلون على الفتات، هناك من يبتلع همه والأخر ينام على الطرقات، بعد أن سلبتهم المعارك وغياب الوضع الأمني، أبسط أمنيتهم في العيش بسلام وأمان واستتباب.
تقول إحصائيات تبنتها مؤسسات وجمعيات حقوقية في عدن، أن عدد النازحين من أبناء محافظة "أبين" تجاوز نحو 161924 نسمة، وتبلغ عدد العائلات التي تم إيوائها في مدارس عدن وحدها، ما يزيد عن 3915 أسرة، بمعدل من 4 إلى 5 فرد للأسرة الواحدة، وبمجموع إجمالي للفرد بلغ نحو 21141 فرداً، جميعهم يعانون الشقاء والمهانة في أكثر من 84 مدرسة من مدارس عدن، فيما السكان الذين نزحوا من مناطق الاشتباكات المسلحة ومن تجمعات سكنية واقعة بالقرب من المواجهات إلى مديريات ومناطق آمنة في محافظة "أبين" فإنهم أيضاً يحصون بالآلاف، ولا تتوفر بيانات دقيقة وواضحة حول عددهم، باستثناء مديرية "رصد" التي يتواجد فيها نحو 2750 أسرة نازحة.
يؤكد بعض المواطنين الذين نزحوا إلى مناطق آمنة في محافظة "أبين" أن الحكومة اليمنية لم تقدم لهم مساعدات كافية، غير ما تجود به بعض الأيادي البيضاء من توفير الطعام والكساء، وما تقدمه لصالحهم لجنتي "الهلال الأحمر" و"الصليب الأحمر" من مساعدات طبية، وشكا البعض من تصرفات بعض أعضاء "جمعية الإصلاح الخيرية" التي قالوا بأنهم لا يوزعون معونات ومساعدات الجمعية، إلا للأشخاص المنطويين ضمن عضوية حزبها، حد قولهم.
ويوضح "نائف عبدالله" نائب رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن في محافظة "أبين" توجد 5 مناطق منكوبة هي، زنجبار والكود وعمودية والخاملة والمسيمير، ومدينة "جعار" تندرج ضمن 53 منطقة يتواجد فيها نازحون، يقول "نائف" أن أعضاء اللجنة الأهلية في المدينة وبإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، قاموا بصرف وتوزيع مساعدات غذائية ومواد صحية وغيرها، في المناطق المنكوبة التي يوجد فيهاً عدداً من السكان، وذلك على ثلاثة دفع، الأولى كانت في شهر رمضان وشملت 1100 عائلة نازحة، والدفعة الثانية شملت 3056 عائلة، والدفعة الثالثة 4000 عائلة، إلى جانب 15000 ألف أسرة من الأسر الفقيرة المقيمة في مدينة "جعار" تشملها باستمرار المعونات والمساعدات.
بيد أنه من المؤسف أن الأضرار المدمرة التي لحقت بمنازل المواطنين الهاربين من مناطق المواجهات، مثلت الركيزة الغانمة لحصول مراكز السلطة على مصادر دعم وأموال كبيرة تجنيها من بلدان ومنظمات إنسانية دولية باسم الإغاثة للنازحين والمنكوبين من سكان "أبين" والتي وفرت أيضاً فرص استرزاق لشخصيات نافذة ولأشخاص وسماسرة استفادوا من الاتجار بمعاناة سكان "أبين"، وليس أمامك سوى أن تذهب إلى الأسواق السوداء في عدن، لتشاهد كيف تنهب المعونات وتباع بأبخس الأسعار !!.
فيما يزداد الوضع تعقيداً لدى آلاف النازحين مع استمرار المعارك في مناطقهم، وغياب الجهد الرسمي الذي لم يتعدى غير تشكيل (الوحدة التنفيذية للنازحين) وباعتماد مالي لا يتجاوز 300 مليون ريال فقط، ولا يقتصر دور الوحدة التنفيذية سوى على جمع معلومات وبيانات العائلات النازحة، دون إدراك ووعي عن حجم التبعات النفسية التي تعانيها.