محافظة الحديدة حتى اسمها دليل سكونها وهدوء وطيبة أهلها، لم تكن سيول الأمطار وحدها ما جلب إليها الكارثة، وانتزعت الأب من بين أبنائه، وحليب الأم من فم رضيعها لتروي به الأرض تحت ركام المنازل حيث شعر الرضيع ببرودة قاسية رغم حرارة المنطقة. هجوم السيل الذي أعلنها حرباً على منازل المحافظة دون صفارة إنذار تسمح للأهالي بالخروج وأخذ أمتعتهم لأنه كان مباغتاً فقتل من قتل وأعاق من أعاق وجعلها أثراً بعد عين. الانتحار تزامن هو الآخر مع كارثة سيول الأمطار فكان اليوم الأول من الشهر الجاري يوماً أسود في منزل الحاج إبراهيم فتيني سرور ببيت الفقيه ذي السبعين ربيعاً والذي ترك عذاب الأرض حيث كان يعاني من حالة نفسية إلى اللذة تحت الأرض، كما كان يعتقد فحفر قبره على خشبة منزله وألوى الحبل الذي طالما احتفظ به كثيراً واعتنى به حتى لا يصيبه الزمن، ألواه جيداً على عنقه مودعاً الدنيا. وبعد يومين فقط من انتحار سرور فكر راعد منصور ناصر ملياً في التجربة وكأنما اتفاق أبرم بين الاثنين، وإن كان فارق السن لا يشير إلى ذلك فراعد في ريعان الشباب حيث عاش "25" عاماً في المنصورية إلى يوم الوعد بتاريخ 3/11 فاغتصب سلاحه الناري من زاوية المنزل وأفرغ ناره على جسده وودع هو الآخر الدنيا والتي أوصاها بإيصال سلامه إلى شركة درهم حيث كان يعمل حارساً هناك، يبدو أن قلبه تعلق بها كثيراً. يوسف محمد قشيبر جابر استكثر عشرين عاماً فوق الأرض ببيت الفقيه وحكم على نفسه بالموت وجرب نار الدنيا ليس ليتحدى نار الآخرة وإنما ليتذوق حلاوة لسعها فصب الغاز على جسده النحيل واحتفل باشتعال جسده ليكون فحماً ورماداً وودع هو الثالث أرض الحديدة ليلحق سرور وراعد. الأكثر إيلاماً للنفس أن الثلاثة كانوا أوفياء مع الدنيا فأقرؤوها سلامهم في آخر لحظة من حياتهم ولم يكن مستبعداً انتحارهم فثلاثتهم يعانون الحالة النفسية .. من خلفها وزرعها في نفوسهم لا أعلم بعد إن نجح الثلاثة في تجاربهم فشل الرابع الذي لم يتلق تدريباً مكثفاً حتى ينافس بجدارة في ملعب الانتحار فحاول مروان عزي الحطامي قبل أن تجف دموع أهل جابر خوض المنافسة واختار النار، يبدو أنه أكثر تحدياً لكن الدنيا ظلت متمسكة به ولم تتسمح له بالرحيل فأنقذه أهله في الساعات الأخيرة وقبل أن يقرئ الدنيا السلام وتحمل إصابات وحروق بليغة جعلها وشماً على جسده. لماذا شباب وشيوخ الحديدة ينتحرون ويتهافتون إلى تحت الأرض واحداً تلو الآخر، فهؤلاء الثلاثة وكاد الرابع يلحق بهم انتحروا في عشرة أيام من الشهر الجاري وجميعهم كانوا مصابين بحالات نفسية ربما رأوا ذلك في المنام.