* كانت نسيبة ضمن الصفوف الأولى للمسيرة التي انطلقت صباح أمس الأحد من ساحة التغيير بصنعاء، والتي شاركت فيها مئات الآلاف من الثوار للمطالبة بمحاكمة النظام وأركانه. قبل لحظات من انطلاق المسيرة وقفت عجوز في الخمسين من عمرها وحولها ثلة من النساء يلوحن بإشارة النصر، فيما كانت هي منهمكة بالدعاء والابتهال لرب السماء. كانت يداها مرفوعتين إلى السماء وبصوت مسموع نادت مولاها: أسالك بحق نبيك أن تحفظهم وأن تنصرهم وأن تجنبهم كل مكروه)). وزادت والدموع تنهمر على خدها: ((إلهي أتوسل إليك أن لا تخذلهم، فكن عوناً ونصيراً لهم)). *** يقرع الغزالي الرواج على طاسته طبلة شعبية بضربات متتالية، فتنطلق " أقدام الثوار قدماً نحو خط السير المقر سلفاً من قبل أعضاء اللجنة التنظيمية للثورة. بصنع غد أفضل، تتمكن فيه "وافر" من العيش كبقية أطفال العالم الحر. سألتها فأجابت: ((أنا جيت من أجل أناضل مع الثوار وأضع معهم يمناً جديداً)). يبدو أن الفرق شاسع بين الطفلة نسيبة وبين مثيلاتها المتشدقات بصالح، فهي تنهل في ربيع طفولتها الحرية والعدالة والكرامة، في حين تعترى قريناتها في السبعين معاني العبودية والذل والضعف وهن يهتفن: ((ما لنا إلا علي)). *** تمضى المسيرة نحو طريقها المحفوف بالمخاطر، ويقترب الزميل فتحي أبو النصر من الطفلة نسيبة، وبلطف يمسح على شعر رأسها: ((بكي سننتصر يا نسيبة)). قالها بصوت يملؤه الحماس. حينها تعلمت الثائرة الصغيرة درساً آخر، درساً لا يمكن لمعلمي الصفوف الأولى المتوارين عن هذه الحصة الثورية تدريسه للتلاميذ المرتعشة أجسادهم من البرد القارس لطابور الصباح. تقول ببرائه طفوليه: (( مستحيل أروح إلى مدارس الرئيس, لأنني لو رحت المدرسة كون خنت دماء الشهداء توفيق ومرام وأنس )). وتضيف بحزم وشدة: (( لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس،, حتى يحاكم الرئيس )). *** والمسيرة تنحدر من شارع الرباط باتجاه جولة عصر، كانت إحدى مكبرات الصوت القريبة من نسيبة تنبعث منها أغنية إذا الشعب يوماً أراد الحياة. نسيبة، والتي رفضت الالتحاق بزملائها الدارسين في الصف الرابع ابتدائي، قامت بالالتحاق برفاق نضالها، تحفظ جيداً قصيدة أبي قاسم الشابي، والتي كانت ترددها بحماسة مع شباب الثورة إلى درجة أنها كانت تتفاعل مع أبيات القصيدة بمشاعرها وتعابير وجهها وحركات يديها كما لو أنها تغني على المسرح. بوسعكم تخيل ذلك وهي تردد: ومن يتهيب صعود الجبال.. يعش أبد الدهر بين الحفر *** لم يتوقف الفنان الشعبي الغزالي والمعروف بمارد الثورة عن إثارة حماس الراقصين من حوله، ومع أن الكثير منهم لا يتقن تماماً رقصة البرع إلا أن طاسة الغزالي الرواج كفيلة بدفع أقدامهم للرقص. حينها اعترى الثائرة نسيبة ضمأ شديد، نتيجة استمرارها في ترديد الشعارات الثورية دونما توقف. ترمق أحدهم وهو يخرج من منزله حاملاً دبة كوثر ليسقى بها الثوار، تقترب منه وبهدوء. تنتظر دورها في الشرب، ثم تنصرف وهي تلوح لمن سقى ضمأها وترمى عليه القبلات كتعبير عن امتنانها وشكرها. *** في جولة عصر توقفت نسيبة لبرهة من الزمن، نظرت بعينيها الرماديتين هنا وهناك، وبدت كمن يتفقد شيئاً في النفس ذكرى، رفعت كفيها وقرأت فاتحة الكتاب. مضت وهي تلوح مبتسمة لجنود الأمن المركزي وتهتف مع الثوار. يا مركزي يا كبير... الحق بشباب التغيير. تذكرت حينها وسائل الإعلام الرسمي وهي تزرع الكراهية والحقد في نفوس القوات الموالية لصالح، وهي تثير البغض بين أبناء الشعب الواحد عبر بث الأخبار الكاذبة والمزيفة عن شباب التغيير. شباب التغيير الذين مضوا من جوار من أطلقوا عليهم الرصاصات بالأمس، مضوا دون أن يرموهم بحجر أو يلقوا عليهم اللعنات، بل إنهم قاموا وبكبرياء ثوري بمصافحتهم ورسم القبلات على رؤوسهم، وبصنيعهم تعلمت نسيبة درساً آخر (( نحن لانكهرهم فهم أباؤنا وإخواننا )) فصدت بها القوات الموالية لصالح. *** (( شوف عمو )) قالتها وهي تشير إلى البلاطجة المتمركزين في وزارة الخارجية. يعتريني الخجل وأنا أتذكر خبر اجتماع وزير خارجية صالح بسفراء الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن السبت ، فكيف تسنى لهذا الدبلوماسي استضافة سعادة السفراء إلى مبنى الخارجية الواقع تحت قبضة البلاطجة. أي دبلوماسية يدعيها وهو يقدم اليمن بهذه الصورة البشعة، أي إنسانية لديه وهو يدافع عن هؤلاء القتلة والمرتزقة، ولكن الطيور على إشكالها تقع حتى وإن حملت شهادة الطب، فما دام وهناك ملائكة للرحمة فهناك ملائكة للعذاب. *** تعتلي دونما تعب يذكر نسيبة جسر كنتاكي، وتستمع لأصوات الرصاص وهي تنهمر على مؤخرة المسيرة، لتصيب ثلاثة من شباب التغيير: (( صورت البلاطجة ما قدروش يصبروا يشتوا يكسروا الخرام )). قالتها ساخرة. تمضى خطاها نحو الأمام، وتدنو من طاسة الغزالي التي لا تقاوم فتصفق للراقصين بكلتا يديها. تنحدر المسيرة نحو شارع السمك فباب القاع ويقوم شباب الثورة بتوزيع الورود والمشروبات الغازية على بعض جنود الأمن المركزي والفرقة الأولى مدرع، كما قام بعض الشباب برمي علب البيبسي على تلك الأسطح والنوافذ التي أطل منها ثلة من سكان الحي. تلك المشروبات الغازية كان شباب الثورة قد قاموا بشرائها لتدارك الاختناقات الناتجة عن استنشاق دخان القنابل الغازية، ولعدم قيام القوات الموالية لصالح برميها عليهم قاموا بتوزيعها على من سلف ذكره. **** الابتسامة والحماس الثوري لم يفارق الطفلة نسيبة التي مضت مشياً على الأقدام لما يربو عن الستة كيلو متر. سألتها فأجابت: (( ما بش تعب يشعر به أي واحد وهو في المسيرة... أنا فارحة بما حدث اليوم في المظاهرة، ونفسي يكون كل الأطفال موجودين في مثل هذه المسيرة من أجل يتعلموا حب الوطن صح )). صافحتها ومضيت لحال سبيلي، لكنها نادتني بقولها: ((نلتقي بكرة مش ترجع تنام مثل عمي ))... ضحكنا.. *** على بعد أمتار من مدخل الساحة وقف صاحب أحد العربيات وقام بتوزيع بضاعته مجاناً لشباب الثورة: ((عتر يا أحرار، عتر يا ثوار)) نادى بها والابتسامة تملأ محياه.