حاولت زميلاتها إقناعها بالعدول عن المشاركة في مسيرة القاع صباح الثلاثاء الماضي، وألحوا على «ندى محمد» الالتحاق بالمسيرة الثانية التي اتجهت إلى شعوب.. لكنها رفضت ذلك، وانطلقت برفقة عشرات الآلاف نحو قاع العلفي, في الوقت الذي كان فيه نبيل الحاشدي ومعه مئات الآلاف يشقون طريقهم, حيث استوقفتهم قوات صالح في تقاطع شارع العدل مع شارع تونس وطلبت منهم تعديل مسار المسيرة المليونية التي كان يفترض أن تمر من جوار وزارة الأوقاف والقيادة العامة للقوات المسلحة. إصرار الشباب على المضي في خارطة طريقهم المعلنة سلفاً, قابله ضباط وجنود الجيش بابتسامة هادئة, ليقوم بعدها عدد من الضباط بخلع رتبهم العسكرية.. «هذا جاه الشرف عندكم» قالها عقيد في الجيش. بعدها يلوح نبيل الحاشدي ومن برفقته من شباب الثورة لأولئك الضباط والجنود, ويتخذون مسار آخر.. «لأجلكم أيها الضباط والجنود البواسل سنعدل طريق المسيرة, وهذه المرة هي لأجل خاطركم.. لكننا سنعود في الغد وستفتحون الطريق أمامنا، مرة لكم ومرة لنا».. قالها أحدهم وهو يتحدث عبر مكبر الصوت.
كان الشباب يحملون صور الشهداء علها تحول دون تكرار القاتل لجريمته, يستعطفونهم بصور الشهيد الدكتور أحمد قطران، وخالد السفياني، ونصار الميموني، ومهنا القباطي وغيرهم من شهداء مسيرات الورود. تمضى ندى ومنار وإشراق وغيرها من الثائرات جنباً إلى جنب مع إخوانهن من الشباب التواق للحرية والمواطنة المتساوية. يمضي الثوار رويداً رويداً من جولة القاع باتجاه شارع التوفيق وسط هتافات تهز أرجاء المكان. تتمكن ندى وثلاث فتيات أخريات بهمة الآلاف من الشباب من تجاوز حديقة العلفي, في ذات الوقت الذي كان عشرات الآلاف من الثوار يتعرضون لاعتداءات وحشية من برابرة على صالح.
يبدو أن تلك الطحالب كانت تخشى من اعتراض مقدمة المسيرة لقناعتها بأن الشجعان هم في صفوفها الأولى فتركتهم يمضون نحو خارطة طريقهم, لكنها تجهل بأن الإيمان الصلب لدى الثوار بأهداف ثورتهم يعترى أفئدتهم واحداً تلو الآخر, وأن ذلك لا يقلل من أهمية أن تكون في مطلع المسيرة أو نهايتها. كان شباب الثورة صبيحة الثلاثاء الماضي على موعد مع بلاطجة جدد, لم يسبق لهم التعامل مع الورود، ولم يتسن لهم التعرف على سلمية الثورة. صباح الثلاثاء، لم تكن الأعيرة النارية وحدها من اخترقت أجساد الثوار, ولا القنابل الغازية والمسيلة للدموع، ولم تكن أنات الجرحى من رصاصات استقرت بكيانهم المنهك, ولم تكن وحدها الزنارين من ضمت المختطفين, ولم يكن الشباب وحدهم هم ضحايا مجرزة القاع. لم تكن تلك الغازات التي قذفتها كذلك بعض أيادي أفراد الأمن المركزي ومن معهم من البلاطجة هي من ذات النوع المألوف, لكونها أدت إلى شل حركة العشرات من الشباب الذين تعرض الكثير منهم للاختطاف والاعتقال القسري.
ببشاعة وإجرام وحشي تعرض عمار وسعد وصلاح وغيرهم من جرحى الرصاص الحي للضرب بالفؤوس والركل بالأقدام. لم تبالي تلك الطحالب البشرية لا وجاع عمار من الرصاصة المخترقة لفخذه الأيمن, فهرعوا تباعاً لركله في موضع ألمه «بصعوبة أنقذنا عمار من بين أقدامهم» قالها محمد غالب. الاعتداءات الوحشية على الذين تمت محاصرتهم في شارع التوفيق, دفعت الكثير للبحث عن ممرات وأروقة للالتحاق بالمسيرة التي كانت تمضى خطاها قدما. ومع ذلك تعرض العشرات من شباب المسيرة للاختطاف والاعتقال القسري, ولم تكن زنازين شرطة الشهيد العلفي بالقاع وحدها من اقتيد إليها المختطفين, فمنازل ثلة من سكان حي القاع, كانت قبلة للخاطفين, الذين لم يكتفوا باختطاف من لم يتعرضوا للإصابات, ليقوموا باختطاف جثامين ستة شهداء وعشرات الجرحى بتفاوت إصاباتهم, وليس ذلك فحسب؛ فقد قام حثالة على صالح باختطاف خمس شابات، بينهن جريحتان، إصابة إحداهن خطرة.
مفارقة ساخرة يدلي بها معتصم عبد السلام: «صباح اليوم الأحد أفرج المحتل الإسرائيلي عن 400 من المعتقلين الفلسطينيين, فيما العصابة المغتصبة للحكم باليمن تعتقل في قاع العلفي 400 من الشباب المتظاهر». في خضم ذلك سعى محمد على المشاني لفك الحصار الخانق على شباب المسيرة السلمية: «يا شباب تعالوا بعدي «فيلحق بعد المشاني ما يزيد عن مائة شاب, ويستعصى على البقية فعل ذلك، يتقدم المشاني ومن خلفه الشباب نحو تلك الأروقة الضيقة في حي القاع. «أووه... هنا بلاطجة» فيتوقف الشباب لبرهة ومن ثم يلحقون به. تنهمر عليهم الرصاصات من أسطح المنازل, فيمضون دونما إدراك بالمصير الذي سيؤولون إليه. «أخيراً خرجنا» ويلتفت المشاني لمن خلفه فإذا هم بعدد الأصابع, «خلاص يا شباب أنتم الحقوا بالمسيرة وأنا سأرجع أبحث عن البقية». قالها بصوت عال.
في تلك الأثناء يفتح أحد أصحاب الأفران باب محله للشباب «تعالوا اتخبوا لكم هنا من البلاطجة لا يختطفوكم»، فتلتصق الأكتاف مع بعضها البعض بداخله!! عند الظهيرة لم تتوقف بعد أصوات الأعيرة النارية، ولا يزال هناك العديد من الشباب محاصر, وفي ذات اللحظة كان الإعلامي عمار البحري منهمكاً في توثيق تلك الجرائم البشعة التي تحدث أمام عدسته. أصوات النار تصدر من أحد الأزقة المجاورة, «يا الله عاد الشباب دخلوا من هناك» قالها بصوت مسموع ليجري بعدها نحو مصدر الصوت, يصوب عدسته نحو تلك الدماء والأشلاء الطاهرة وفجأة: «بتصور يا ...!! إدي الكاميرا أو أقتلك» قالها بلطجي ويده على الزناد. يضيف آخر وقد وضع بندقيته بين مقلتي عمار البحري «صورتك تشتي تموت.. هات الكاميرا» قالها بصوت جهوري, يمد الثالث يده فيأخذها عنه, فيقوم الأول بوكزة بالبندقية فيما الثاني يطلق النار في الهواء لإرعابه. لم يكن البحري وحده من تعرض للنهب والسلب ولكنه أكثرهم خسارة على ما يبدو فقيمة الكاميرا السوني 1000 دولار, لكنها هينة في نظرة أمام تلك الدماء الغالية التي انهمرت على تراب وطننا الحبيب.
عملية السرقة بالإكراه تعرض لها العديد من شباب التغيير, حيث قام بلاطجة قاع العلفي بنهب دراجة نارية كانت تتولى إسعاف أحد الجرحى السائق بنقل الجريح على متن طهره دونما أسف لما تعرض له كما تعرض أخر لسرقة كل ما لديه من مال البالغة 30.000 ألف ريال. في خصم ذلك كانت مقدمة المسيرة قد شقت طريقها نحو شارع العرشي, بعد أن اجتازت نيران البلاطجة المتمركزين في حديقة الشهيد العلفي. حينها كانت الثائرة ندى محمد بنت العشرين ربيعا تصر على البقاء مع شباب التغيير حتى يتم فك الحصار عن رفقاء نضالها. لحظات ويشتد القصف.. يقترح أحدهم بأن تعود ندى ورفيقتها إلى الساحة «ما بش فرق بيننا وبينكم, الشباب بلا سلاح واحنا مثلهم سلميين, هم معاهم خناجر واحنا معنا حناجر». تقولها ندى وتخرج مع صديقتها من الحاجز البشري الذي التف حولهن. تخرج شروق عن صمتها: «المرأة شقيقة الرجل ونحن لن نتراجع ولسنا أقل من الشهيدة الغالية عزيزة عثمان».