توقف عند آخر شبر من تراب الوطن. إلتفت إلى الوراء ليلقي نظرة أخيره. ما من شيء هنا يودعه سوى الحجر والشجر. عاد بخياله إلى البيت الذي احتضنه طوال خمسة عشر سنة مضت ، أي منذ ولادته حتى هذا اليوم المشؤم ، ولم يدر أبدا في خلده أن الأقدار ستنتزعه من دفئه ذات يوم. تذكر عيني أمه حين ودعته ، وتوقع أنها لم تجف بعد. تذكر مدرسته ، مدرسيه ، زملائه.. وأيقن أن نصفهم سيلحق به لا محالة وراء الحدود! فحالهم لا يختلف كثيرا عن حاله. أنسحب من ماضيه المفقود إلى حاضره المفزع.. تمعن في الوجوه التي حوله. كانت تبدو ما بين حزين ومهموم ومكفهر وواجم وساهم ووجل.. ووجوها أخرى حالت الأقنعة بينه وبين قراءتها.؟ رن هاتف أحدهم. كان المتصل من وراء السياج الشائك يخبرهم أنه الوقت المناسب للتسلل واجتياز مكامن الخطر بسلام. حمل الجميع أغراضهم على وجه السرعة وانطلقوا وانطلق معهم في درب يسلكه لأول مره. تجول في ذهنه أوهام وأحلام وينشطر قلبه بين الخوف والرجاء. لكن سرعان ما اختفت كل تلك المشاعر والظنون ليخلفها إنهاك يقيد ساقيه وتعب يمزق جسده ، دوار ، ضيق تنفس ، غثيان.. ألقى بنفسه تحت شجرة وارفة الظلال. وبعد أن هدأت أنفاسه وارتاح قليلا من تعبه ، شعر بالجوع يلسع معدته ، فحدث نفسه قائلا: عندما ألمح أول بيت سآتيه لأستطعم أهله. إنهم إخواننا لولا ذلك السياج اللعين؟! ثم أخذ حقيبته السوداء كحضه تماما.. وسار يقتفي آثار رفقته الذين تركوه وحيدا. كان وراء السياج مجموعة من شرطة حرس الحدود يتناولون وجبة الغداء، ولم يأبهوا للعابرين.. وقبل أن تنتفخ بطونهم ، تطلع أحدهم إلى الوادي ، ثم أهاب بزملائه: انهضوا. هناك متسلل وفوق ظهره شيئ أسود ، لعله مهرب خطير. حملوا أسلحتهم وأسرعوا نحو الوادي.. صاحوا به أن يتوقف وأطلقوا طلقات تحذيرية في الهواء. اشتد رعبه وفزعه، وأطلق ساقيه للريح. أطلق القناص ضحكة فاحشة واستدار إلى زملائه قائلا: عودوا إلى غدائكم. ودعوا هذا الأحمق لي؟! سأوقفه إلى الأبد.!!