حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء العاشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 13 - 11 - 2013


10
عشرة أيام مضت على زواج سعيد ، والفرحة طائر بأربعة أجنحة تُظِلُّهما بظلال الحب وهناءة العيش ، تحرسهم من الجهات الأربع ، فلا يتسلل إليهما شيء من نكد ، أو ما يشبه النكد. وفي ليل تعانقت فيه روحاهما تحت ضوء السراج ، استأذن سعيد عروسه للسفر في مطلع الفجر إلى الخليل ثم القدس لأمر جاءه من أبيه ، وما كان له أن يردَّ لأبيه سُؤْلاً ، أو يعصي له أمراً حتى وإن كان هو وزوجه عروسيْن مازالت الحناء تخضِّب راحتيهما . فالفلاحون أمثاله تتحكم فيهم ظروف العيش ومقتضيات الحال ، فلا تمهل عروساً ، ولا تؤجل له عملاً .
ودَّع سعيد زوجه ، وهَمَّ بالخروج فاستوقفته ، ومدَّت له يدها بشيء ، فأخذه وقبَّله ورفعه إلى جبهته ، وأودعه جيب قمبازه قريباً من قلبه ليدرأ به عن نفسه كل شر، ويحفظه الله من كل سوء ، ثم أمسك برأسها وقبَّلها في جبهتها قبلة ندية في فجر ندي ، واصطحبها معه في عباءة ذاكرته وخرج ، فشيعته بالدعاء وهي تعلم أن لا بد له من أن يطيع . ودلفتْ إلى الداخل ، وغلَّقتْ على نفسها الأبواب ، وأخذت تتتبَّع بخيالها كل خطوة يخطوها في طريقه ، وإنها مازالت تتوهم سماعها لأنفاسه ولهاثه فيُشْرِق عليها بوجهه الوضيء ، فتدمع عيناها فَتَشْرَق بدمعها كلما خلتْ إلى نفسها . وتطوف بها الأفكار وتتجاذبها المخاوف ، فتطرد عن نفسها هذه الوساوس ، وتنحر وقت فراغها بأعمال البيت، وينقضي يوم يتلوه آخر، وفي ساعة من هدوء تجلس في ركن من أركان البيت ، تُطَرِّز لنفسها شاشاً ، وتدندن ببعض الأغنيات لِتُسَرِّي بها عن نفسها . وإذا تسللتْ إليها إحدى هواجس الشؤم ، فإنها تصُدُّها وتطرُدُها بغناء قد ترتفع نغماته .
وفي يوم من الأيام ، وفي ساعة من نهار ، بينما كانت الشمس تسعى إلى مخدعها صوب الغروب، كانت سلمى قد فرغت من أعمال البيت وجلست لتستريح ، فإذا بها تسمع صوت مُنادي القرية " حمدان الأكتع " يرتفع نداؤه ، فيصفع به أسماع
أهل القرية بنبرة حازمة : ... " يا أهل القرية... بأمر من عمِّنا الشيخ العصفوري ،
فليخرج من كل بيت رجل إلى ساحة قصره ، وذلك غداً صباحاً للعمل في بناء عقد جديد ، فلا يتخلف أحد ، ومَنْ يتخلفْ يُعَرِّضْ نفسه لنقمة شيخنا ، وسيقوم المختار أبو فوَّاز والمختار أبو سفيان بإحصاء الحاضرين والإبلاغ عن الغائبين ، كلٌّ مِن حارته ، وعليه فالحاضر يعلم الغائب " .
هكذا كان صوت حمدان الأكتع يجوس في فضاء القرية ، على ضربات طبله الأجوف ، فيتسلل إلى مسامع أهلها عبر الأبواب والنوافذ ، ويخرج الأطفال في ركب المنادي وهو ينقر على طبله ، فيثير بذلك مكامن الخوف والفزع .
خرج الناس يجلسون القرفصاء أمام بيوتهم يتهامسون ، فيجهر الشباب منهم بالسخط على هذه الذِّلة التي يحيونها في ظلال هذا الطاغية الذي يتسلط عليهم . وتعالت بعض الأصوات الرافضة من هنا وهناك ، وأظهرتْ ألسنتهم ألواناً مختلفة من صور التمرد . ولكنَّ أصوات الشيوخ قد انبرتْ تَرُدُّ عليهم ، وتُهَوِّن عليهم مما يُحِسُّونَه من أذى الذِلَّة والهوان. فهم يذكرون أياماً قد ذاقوا فيها القسوة والعذاب ، وهم لهذا لا يرغبون لأبنائهم أن يذوقوا ما ذاقوه من مرارة وألم ، ولا يودُّون أن تتعرى أجسادهم فتُكْوى بسياط العصفوري ورجاله بلا رحمة من أحد . وقد انتقل هذا التوجس إلى نساء القرية اللاتي جلسْنَ في حلقات يتحدثْنَ فيما يتعاقب على هذه القرية من أحداث ، وسلمى خلف باب دارها تطل برأسها من فرجة ضيقة ، تسمع ما يدور على الألسنة ولا تشارك فيه ، فقد تجاذبها شعور بالقلق لغياب زوجها سعيد، وشعور آخر بالارتياح لغيابه ، فهو في مأمن من العصفوري مادام خارج القرية .
دلفت كل أسرة إلى داخل منزلها ، وتكدس أفرادها في بيوتهم التي ضاقت عليهم كما ضاقت عليهم حياتهم . ودخل الهمُّ في القرية على غفلة من أهلها ، فانتابهم الرعب وناوشتهم الوساوس ، وسرقوا من الليل بعضه في إغماضة خفيفة حتى تسلل ضوء الفجر يفتح نوافذ عيونهم ، ويسقي نبتة الفزع في قلوبهم فتكبر. وتتوافد جموع
الرجال من القرية إلى قصر العصفوري ، فيتلقفهم المختار أبو فوَّاز الذي سبقهم إلى
هناك ، فيجمعهم ويقسم الأعمال بينهم ، ويسلِّمهم الفئوس والمعاول والمقاطف وكل ما يلزم من أدوات . ودقت ساعة العمل ، فبدأت جماعة التجريف بإزالة مخلفات البهائم من روث وأعلاف ، وأخذت جماعة أخرى تحمل هذه المخلفات في سلال ومقاطف إلى واد ليس ببعيد ، يهيلون فيه أحمالهم . أما المجموعة الثالثة فكانت تجبل الطين وتصنع منه قوالب البناء ، فتتركها تتنشَّر تحت الشمس لتجف وتيْبس .
كانت الشمس قد تربعت على عرشها في كبد السماء ، فأخذت ترسل أشعتها وتنشر ضياءها ، ويشتد الحر حين الضحَى ، وما ترى إلا الهِمَّة والنشاط ، وما لهم لا يجدُّون وينشطون وقد كان المختار يرقبهم ويتفقد أعمالهم ، ويحثهم على الإتقان والسرعة في الإنجاز، وكان يخوِّفهم بمجيء العصفوري الذي لايتوانى في إنزال العقوبة بكل مقصِّر كسول ، فتراهم في حركة دءوب ؛ ترتفع الهامات وتنخفض ، وتعلو السواعد وتهبط مع نغمات رتيبة تخرج من أفواههم فتنظِّم سير العمل وتشحذ الهِمَّة بين أفراد المجموعة الواحدة .
ها هي جباههم قد تفصَّدت عرقاً ، وها هي أجسادهم ترشح كأباريق الفخار، وها هو المختار يقرفص تحت شجرة يلف سيجارة الهيشي بيديه ، بينماعيناه تبرقان يميناً وشمالاً ، وها هو العصفوري يتهادى على جواده الأشهب وقت الضحى ، وقد اشتعلت الأرض حراً وحرارة حيث جلس جميع العاملين في ظلال الأشجار يرتاحون ، ويقضمون ما حملوه معهم من خبز وزيتون وأطباق زيت يغمسونه بالزعتر، ومما تنبت الأرض من بندورة وفلفل وبصل .
واقتربت حوافر الخيل تهزُّ الأرض من تحتهم ، تملأ المكان عجيجاً وصهيلاً، فتشرئب الرقاب نحو القادمين ، وتتشوف عيونهم ، فتزيغ أبصارهم من شدة الحر ومن العَرَق الذي يكحل عيونهم ، ولكنهم استطاعوا أن يتبينوا الشيخ العصفوري يتقدم رجاله ، فيستقبلهم المختار مرحباً ، وتتوقف قوائم الجواد . وتمتدُّ عينا العصفوري تنظر إلى مواطن العمل ، وتتفرَّس في وجوه العمال الذين مازالوا يقضمون طعامهم ، ويجرعون الماء من أباريقهم . وسأل العصفوري عن سير العمل ، فيجيبه المختار
بصوت ينبئ عن عدم الرضا :
- كل شيء بحسب أوامرك .
- ومالي أراك تَرُدُّ وكأنَّ شيئاً يغضبك ؟.
- لا شيء .
- هل أحصيتهم ؟.
- نعم .
- ألم يتخلف منهم أحد ؟.
- لقد أعفينا المسنين والمرضى .
- إني أسألكَ عمن تخلَّف من القادرين ولم أسألك عن العجزة .
- واحد فقط .
- مَنْ ؟.
- سعيد بن الشيخ زيدان .
- وما به ؟.
- إنه خارج القرية .
- منذ متى...؟.
- قبل أن ينادي المنادي ، وإخوته صغار .
- فلتحضر زوجه للعمل .
- إنها امرأة ، ولا يليق بالمرأة أن تعمل بين الرجال .
- إنها تنوب عن زوجها .
- ما رأيك في أبيه الشيخ زيدان ؟.
- قلت لك استدعِها فوراً .
- إنها عروس ، ولم يحن موعد إفرادها .
فيردُّ الشيخ رداً يُشتمُّ منه العناد :
- أعلم ذلك ، ولا تجادل .
قال المختار مستعطفاً :
- قد يثير حضورها سخط القرية .
- سأنزل سخطي على كل من يرتفع صوته بالتذمر .
ويزداد توسل المختار بلهجة مشفوعة بالإشفاق :
- أتوسل إليك... دعنا نستقدم الأب نيابة عن ابنه حتى يعود .
- وماذا لو أرسلتَ في طلبها ؟.
- أنت أعلم مني بأعراف القرية وحساسية المساس بالمرأة .
فتجهَّم الشيخ العصفوري ، وقال في عناد وبإصرار:
- لا تستمطر غضبي أيها المختار ، وهيَّا نفِّذ الأمر في الحال ، أم تراكَ نسيتَ أنَّ نساء القرية يعملْنَ في الحقول مع أزواجهن ، وبعضهن يخدمْنَ في قصري .
ولوَى الشيخ العصفوري عنان جواده ، وانطلق راجعاً وقد ترك وراءه المختار في دَهَش وحيرة ، إذ لاحت على وجهه مسحة من الأسى تواكبها علائم القهر . وجلس في ظل شجرة زيتون وحيداً مع نفسه ، يفكر فيما يصنع وقد سُدَّتْ عليه الأبواب والمنافذ ، وها هو في ورطة كبرى ، وليس له إلا أن يطيع . وبينما هو في وحدته تلك ؛ انطلقت عيون الرجال العاملين تجاهه ترقبه ، فرأوه يضرب كفاً بكف ، ويتمتم بصوت مسموع ، خُيِّل للرائين أنه يحدث نفسه :
- كيف أستقدم امرأة للعمل مع الرجال وبينهم في قصر العصفوري ؟ . ولكنْ ماذا أفعل ؟! فالأمر أمره ، ولابد من إنفاذه .
وهَبَّ فجأة ، ونادى أحد معاونيه ، ولما اقترب منه قال له بلسان يتعثر:
- اذهب يا حسن إلى دار الشيخ زيدان ، وأخبره أنَّ الشيخ العصفوري أمر بحضور زوج سعيد للعمل نيابة عن زوجها ، ولم يقبل بغيرها لحين عودته .
وتردد حسن ، وحاول أن يتملص من هذه المهمة ، ولكنَّ المختار صدَّه بعنف ، ونهره بقسوة المغلوب على أمره :
- أسرِعْ ولا تتلكأ في الطريق ، لعل هذا اليوم يَمُرُّ بخير!.
وانطلق حسن يخبُّ به حمار المختار ، وما إن ابتلعته الطريق وغاب عن الأبصار حتى نهر المختار الرجال من حوله قائلاً :
- هيا يا رجال!... هيا إلى العمل !.
وقام الرجال يتزوَّدون بجرعات من الماء لينطلق كل منهم إلى موقع عمله ، ويبقى المختار أبو فوَّاز حسيراً ، يمشي متثاقلاً وقد أعياه التفكير: " ماذا يقول الناس في حقي ، وهم لا يعلمون موقفي ؟ تُرى أفإنْ علموا ، هل يصدِّقون ؟!. آه يا مختار! إنك لم تترك جسور الثقة تمتد بينك وبينهم ، وسيضعونك الآن في " بوز المدفع " , ويتهمونك أنك صاحب فكرة استقدام سلمى بدلاً من زوجها سعيد..." .
أضحى النهار واشتدت حرارة الصيف ، والعمال قد أعياهم التعب ، والمختار يتفقد العمل ويحثُّ العاملين ، ويرمي بصره في الطريق فيرى حسن وقد أقبل عليه ، فيسارع إليه بالسؤال :
- ما وراءك يا حسن ؟ .
- لقد بَلَّغتُ الرسالة لزوج سعيد ، إذ لم يكن الشيخ زيدان في داره .
- وماذا قالت ؟ .
- ستحضر .
- متى ؟ .
- إنها تنتظر عودة الشيخ زيدان إلى داره لتستأذنه للخروج ، وقد لا يطول ذلك .
- ليتها حضرتْ معك !.
- لا ينبغي لها أن تخرج من بيتها دون أن يأذن لها صاحب الدار .
- إني أخشى عليها من نَزَق العصفوري إن هي تأخرت .
- لا تقلق !.. إنها لن تتأخر .
انتصف النهار وأعطى المختار عمَّاله فرصة للراحة ولتناول طعام الغداء ، فانتشروا تحت الأشجار يستظلون بظلها ، والمختار يجلس غير بعيد يرقب الطريق
التي تسلكه سلمى ، فألقى بصره في خاصرة الأفق ، فزاغ منه النظر من شدة الانتظار والترقب . وانفرجت أسارير وجهه لحظة أن رآها تتهادى وقد تقدَّمها عطر امتلأت به رئة المكان ، فتتأرَّج الطريق بريحها المفعمة بشذا الأزاهير البَرِّيَّة . وما إن وصلتْ حتى تلقاها المختار كسيفاً ، فوقفتْ قبالته ، وأخذ ينظر إليها بشيء من الانكسار ، يتفرس في وجهها ، فيرى فيه شموخاً وكبرياء ، بينما أخذتْ هي ترصد وجهه ، وتخترق بنظراتها أعماق نفسه ، فساءه منها ذلك ، ولكنه لم يُعَلِّق .
كانت تلبس ثوباً حريرياً بلون الليلكي ، قد زُيِّن بتطريز زاهي الألوان بما يوافق أذواق أهل قرى الخليل ، وكانت تضع على رأسها شاشاً أبيض يحيط بوجهها ، فيبدو وجهها صورة جميلة في إطار أنيق ، وقد انتعلت صندلاً جاءها في صندوق جهازها .
وقفتْ مرفوعة الرأس بقامتها المتوسطة الطول وبِقِدِّها الممشوق وبصدرها الناهد الذي يموج بالثورة ، تنهض في حناياها روح التمرد والغضب الذي لا يقاوم . وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ساخرة ، وبدت أسنانها منضَّدة كعقد من صفين من اللؤلؤ في صدر ملكة سبأ ، وقالت للمختار وهي " تشتِل " طرف ثوبها في حزامها استعداداً للعمل :
- لقد استدعيتَني ، فلبيتُ الدعوة .
طأطأ المختار رأسه وقال كسيفاً :
- ليس بأمري ، بل بأمر من الشيخ العصفوري .
- السمع والطاعة لأمر سيدك ، يا سيدي المختار .
لدغته الكلمات ، وابتلع ريقه ، ونظر إليها فأيقن من هزئها وسخريتها التي أطاحت بما تبقى له من كبرياء .
- لا تسخري مني يا سلمى ، وأنتِ تعلمين أنَّ القرية وأهلها ملك يد الشيخ العصفوري .
فقالت بصوت أقرب إلى المداعبة منه إلى اللوم والتوبيخ :
- أوَ تقبل على نفسك يا مختارنا أن تكون متاعاً يملكه العصفوري ؟ .
فنهرها بشيء من الرفق قائلاً :
- لا تكابري يا ابنتي ، ولا تتكثري بكلام لا يفيد .
- وما المفيد إذن ؟ .
- أنْ تذهبي إلى العمل قبل أن يأتي الشيخ العصفوري ويراكِ لا تعملين ، فاختاري موقعاً يلائمك .
نشرتْ بصرها وجالت بعينيها تستكشف مواقع العمل ، فاختارت المجموعة التي تجبل الطين وتدق الطوب . فخلعت حذاءها ، وشمَّرتْ أكمامها عن ساعديها ، وحسرت ثوبها عن ساقيها، وألقت شاشها عن رأسها ولفَّت به رقبتها، فانكشف وجهها ، وانسدل شعرها فتهدل على كتفيها يسرج في ضوء الشمس ، ويفوح من ثناياها عطر رقيق ، فيعبق المكان برائحة زكية . انحنت سلمى تجبل الطين بيديها وبقدميها في هِمَّة ونشاط ، وكانت تختلس النظر إلى مَن حولها ، فترى علائم الاستنكار قد ارتسمت على وجوههم ، وأطلت من عيونهم وأفواههم الفاغرة . إنهم ينكرون عليها هذه الجرأة التي ظهرت في تبرجها والكشف عن مفاتنها أمام رجال القرية ، وهم يستنكرون أن تُدعَى امرأة للعمل مع الرجال وبينهم ، فيلاحقونها بعيونهم التي لا تخلو من الاستمتاع بملاحة الوجه الجميل والطلعة البهية ، ولا تخلو أيضاً من اشتهاء هذا الجسد البض الناعم الذي يُغري الآكلين .
كانت تختلس النظر إليهم ، فتستقرئ عيونهم وشفاهم ، وترى ببصيرتها ما يسترون في نفوسهم من الدَّهَش والانبهار أمام هذا الجمال الناعم الرقيق الذي يفتقدونه في أزواجهم ، وتفتقده كثير من النساء في قريتهم .
وتقدَّم صوبها المختار وقال بصوت ينمُّ عن الأسى والأسف :
- اعذريني يا ابنتي !.
فقالت هازئة وهي ما تزال تجبل بقدميها الطين :
- عذرناك يا مختار مذ كنتَ ظلاً ملوثاً من ظلال العصفوري .
فعضَّ على شفتيه ، واستدار قافلاً يتحسس شاربيه ، والرجال من حول سلمى
يلهثون ، ويلهجون همساً بعذوبة صوتها وبجمال عينيها وقد أحيطتا بأسلاك شائكة من الأهداب . ويستزيدون النظر إليها ، فيسيل لعابهم اشتهاء ، ويسيل دمع مآقيهم حسرة على سقطات كرامتهم .
- يا سلام ! انظروا كم هي جميلة ! إنها ليست كأزواجكم الغَفَر.
- كنتُ أراها كثيراً قبل الزواج ، فلم تكن بهذا الجمال .
- كانت جميلة ولكنك كنت أعمى ، والآن أصبحتْ مِلْكاً لرجل آخر " فلا تَشْتَهِ امرأة غيرك " .
- أستغفر الله العظيم!... لا تذهب بك الظنون بعيداً .
- المهم ، إنها تعمل في الطين، ويلقي العصفوري كرامة القرية كلها في الطين .
- صَهٍ ... إنه قادم .
فتلتفت سلمى صوب ضجة أحدثتها قوادم الخيل ، فترى العصفوري مقبلاً بفرسه الشقراء " ميسون " ، فإذا بها ترفع شاشتها وتغطي بها رأسها ووجهها ، وتستر يديها ، وتسدل الثوب على ساقيها ، فلم يبدُ منها شيء إلا عيناها الكحيلتان ، وتقف الفرس قريباً منها ، ويبتدرها العصفوري :
- ما اسمك يا امرأة ؟.
قالت على استحياء منها ، وبصوت هامس :
- سلمى ، يا سيد الرجال .
- وهل أخبرك المختار عن سبب استدعائك للعمل هنا ؟ .
- نعم يا سيد الرجال ! جئتُ نيابة عن زوجي سعيد .
- حسناً فعلتِ ، فلا تتخلفي يوماً ما دام زوجك غائباً .
- أَمْرُكَ يا سيد الرجال !.
استحسن العصفوري منها قولها وهي تنعته بسيد الرجال ، وأحسَّ في صوتها شيئاً يسري في أوصاله ، وهو لا يعلم كنه هذا الشيء ، ويستدير بفرسه تخطو به في زهو وخيلاء ، وينتحى جانباً يتحدث إلى المختار. وما إن فارق العصفوري موقع العمل
حتى عادت سلمى كما كانت ، فألقت عن رأسها الغطاء ، وكشفت عن وجهها ، وحسرت ثوبها عن ساعديها وساقيها ، وتكرر منها ذلك في زيارات العصفوري التفقدية التي قام بها خلال ساعات العمل في ذلك النهار ، فتستتر وتحتشم في حضوره ، وتنكشف وتتحرر من غطائها في غيابه ، فيتطاير شعرها على وجهها ، فتغيظ به الرجال . ويزدادون حنقاً على نسائهم اللاتي لا يعرفن إلا إحماء الطابون ثلاث مرات يومياً ، ورفع الجَّلَّة من تحت البقر في البوايك العفنة مرتين يومياً ، هذا عدا الأعمال الأخرى التي تلزمهن نسيان أنفسهن ونسيان التجمُّل لبعولتهن ، ويأتي المساء فتلقي كثير منهن نفسها على الفراش بما تحمله في لفائف ثيابها من روائح الدخان والطين والتبن والجلَّة ورائحة المطامير المعتقة ، أما سلمى فليست مثلهن وليست منهن . وها هي تجبل الطين وعيون الرجال من حولها تفترسها إعجاباً بها وغيظاً منها ، وإنها لتحسُّ غيظهم وتزيد فيه ، فقد تمنت أن يباديها أحدهم بلوم أو عتاب ، ولم يطل بها الانتظار حتى تقدَّم أحدهم منها بعد انصراف العصفوري آخر النهار، فيسألها وقد تجرَّأ على مخاطبتها ؛ وما كانت جرأته إلا بسبب جِيرة جمعت بينهما .
- سلمى !... هل تأذنين لي بسؤال ؟.
انتبه الرجال وأصغوا الأسماع لتعليل سلمى لسلوكها المحيِّر .
فابتسمتْ وقالت :
- تفضَّل يا شعبان !... ماذا تريد ؟.
تلعثم الرجل ، وأخذ ينظر إلى مَن حوله فيرى في عيونهم الحث والتشجيع .
- نراكِ يا سلمى تحتشمين في حضرة العصفوري ، فإن غاب فإنك تسفرين ونحن حاضرون .
- وما الغرابة في ذلك يا شعبان ؟ .
- هل تتفضلين علينا بتفسير ما نرى ؟ .
- لا يحتاج الأمر إلى تفسير .
- كيف ، ألسنا رجالاً يستوجب عليك الاحتشام أمامنا ؟! .
توقفتْ عن العمل ، ونظرتْ إلى مُحَدِّثِها وقد اتسعت ابتسامتها ، وقالت في هدوء وقد علا صوتها قليلاً ليسمع الجميع ، وكأنها تريد أن تحقن أوردتهم بمفاهيم متمردة ، لعلها تسري في دمائهم ، فتشعل نار الحَمِيَّة في نفوسهم :
- وهل كل من نبتَ شاربه ، وارتدى قمبازاً ، ووضع على رأسه العقال ، يكون
رجلاً ؟! .
بُهِتَ شعبان ، كما بُهت جميع الرجال ، وندَّت عنهم ضحكة خفيفة تدعم صحة رأيها فيهم ، وهنا انبرى لها عباس قائلاً في شيء من الغضب :
- ومَن نكون إذن يا سلمى ؟.
وهنا تجهَّم وجهها ، وانسحبت ابتسامتها ، وعلا صوتها حاداً وهي تقول بشيء من الهزء والغضب معاً :
- اسألوا أنفسكم أيها... أيها الرجااال !!! .
- ما دمتِ تعترفين بأنَّنا رجال ، فلِمَ لا تحتشمين منَّا ؟ .
فردَّت بتهكم يشعل غيظ سامعيها :
- أوَ مثلكم تحتشم منهم النساء يا عباس ؟!.
- أنا لم أرَ امرأة تتبرَّج وتنكشف على مرأى من رجال يجوزون لها وتجوز لهم إلا أنتِ يا سلمى .
- أرأيتَ امرأة تستحيي من مثيلاتها...؟! .
- ماذا تقصدين يا ابنة الكرام...؟ .
- أنتم نساء مثلي ! .
- أَوَ تَرْضَيْنَ لنفسكِ أن تبادينا بالإهانة ؟ .
- أَوَ تَرْضَوْنَ لأنفسكم أن تعيشوا الذِّلة والمهانة ليل نهار...؟. أخبروني مَنْ أنتم ؟!...
توقفتْ لحظة ، تفرستْ خلالها في وجوههم ، فرأت عليها الوجوم والسهوم ، وقد أطلَّ من عيونهم الانكسار وسال منها الانبهار دون أن تنطق ألسنتهم بشيء ،
واستطردتْ قائلة :
- سأجيب نيابة عنكم : ما أنتم إلا عبيد لسيدكم ومولاكم العصفوري ، يملككم كما يملك متاع بيته ، ويسخِّركم كما يُسَخِّر البهائم في حظيرته ، أفلا تخجلون من أنفسكم حين تطلبون ما ليس لكم فيه أدنى حق ؟!.
سكت الرجال وهَزُّوا رؤوسهم ، فترجرجت عيونهم ، ولكنَّ شعبان يسألها برفق لا يخلو من انكسار :
- الحقوق ضائعة ، ونحن لا نعرف وجهتنا .
- لا يا شعبان ! إنَّ لكم حقوقاً لدى العصفوري ، والرجولة تقتضي انتزاعها من براثينه ، وإنه ليغبطني أن أراكم تثأرون لأنفسكم ولي ولأهل القرية .
ونظر كل منهم إلى الآخر ، وقد تهامسوا فيما بينهم حتى لا يسمعهم أحد من رجال العصفوري ، فقال شعبان كمن يخاطب نفسه بصوت مسموع :
- والله إنها ما زادت على قول الحق كلمة .
واستطردت سلمى قائلة :
- ألا إني أذكِّركم بمن جاء بي إلى هنا ؛ إنه ضعفكم وغياب مروءتكم والتخلي عن رجولتكم وكرامتكم التي عفَّرتها حوافر خيل العصفوري ، وهذا تفسير لرضاكم عن وجودي بينكم هنا .
فخرج صوت ضعيف لم تتبين صاحبه :
- إنها تقول حقاً وصدقاً .
ثم استأنفت تخاطب الرجال بثقة تتعاظم شيئاً فشيئاً : - إنَّ صوتي ، وارتداد طرفي ، وخصلة شعري ، وشذا عطري ، كل ذلك كنتُ
عنه مسئولة ، فليس له أن يتوارى إلا عن العصفوري ، فهو وحده الرجل ،
والرجال قليل .
ابتلعت ريقها وتوقفت هنيهة ، ولكنها ما فتئت تصيح لحظة اقتراب المختار الذي أقبل يصحبه اثنان من معاونيه :
- أفيقوا أيها المماليك ، واطردوا الغفلة عن عيونكم وقلوبكم ، ولا تجعلوا أنفسكم رهن الوهم بأنكم أسياد ، بل أنتم دُمَى في يد سيدكم وسيد مختاركم هذا الذي باع نفسه ، وركن إلى العبودية ، واستمرأ وإياكم الذِّلة والمهانة .
وما إن سمع المختار أبوفوَّاز مقالتها حتى تسمَّر في مكانه ، وفغر فاه ، ودارت رأسه لحظة ، سرعان ما تمالك نفسه ، ثم قال :
- ماذا تقولين يا سلمى ؟. أتحدثينها تمرُّداً وتحريضاً على وليِّ نعمتك...؟ .
ضحكت سلمى ساخرة ، وقالت :
- لا تُنْكِر عليَّ قولي يا مختار ، وأنت الذي أفسدت علينا حياتنا كما أفسدها العصفوري .
وهنا تطلَّع المختار حوله ، وتفرَّس في وجوه الحاضرين ، ثم جال ببصره في السماء ، ثم أخذ يخاطب مَن حوله من الرجال بشيء من العصبية ، ويقول وهو يشير بإصبع يده إلى سلمى :
- أتسمعون ، أتشهدون...إنه سعيد هذا الذي حشَى رأسها بهذه الأفكار الحاقدة ، ولكني أعرف كيف أنزع كيس السم من الحَيَّة .
تراجعت سلمى إلى الوراء قليلاً ، وقد بدا عليها الخوف ، وقالت وقد ضَعُفَ صوتها إلى حد الاستعطاف :
- اتركْ سعيداً وشأنه... أرجوك ، فلا تَزُجَّ بالغائب في معترك لا يتواجد فيه .
- بل هو ، وليس غيره الذي يسخط عليَّ وعلى الشيخ العصفوري ، ولكنني لن أتركه يثير عليَّ القرية ، ويجعلها تتمرد على شيخ البلاد .
فانبرى له أحمد صارخاً في وجهه :
- اسمع يا مختار ، إنَّ في قريتنا مئة سعيد .
فردَّ عليه المختار هازئاً بطريقة لا تليق بسِنِّه ومكانته :
- منذ متى يا فارس الفرسان ؟ .
- منذ هذه اللحظة .
وأمَّنَ شعبان وجابر وعدنان ومرزوق وسائر الحاضرين على كلام أحمد قائلين :
- نعم ! كلنا سعيد .
وعاد المختار يتوعَّد ويتهدَّد صارخاً :
- ليس عليَّ حسابكم ، ولكني سأجعلكم تقفون في موقف ترتعد من هوله أوصالكم ، فانتظروا يوماً تُذْهَلُون فيه من عُسْرٍ لا يُسْرَ بعده .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.