فيديو صادم: قتال شوارع وسط مدينة رداع على خلفية قضية ثأر وسط انفلات أمني كبير    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تعز.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في فقيد اليمن الشيخ عبدالمجيد الزنداني    امين عام الاشتراكي يهنئ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بنجاح مؤتمرهم العام مميز    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    فينيسيوس يتوج بجائزة الافضل    الدور المربك في "مجلس القيادة" واستمرار الكوميديا السوداء    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    "جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    هبوط المعدن الأصفر بعد موجة جني الأرباح    إيفرتون يصعق ليفربول ويوجه ضربة قاتلة لسعيه للفوز بالبريميرليغ    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    الثالثة خلال ساعات.. عملية عسكرية للحوثيين في البحر الأحمر وتدمير طائرة    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مع الوثائق عملا بحق الرد    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء التاسع بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


9
لفَىَ رجال الدَّرَك على ديوان المختار أبي فوَّاز، في صبيحة يوم استأْنَت فيه الشمس ، وخرجت من خبائها حَيِيَّة . كان الجو مازال حاراً جافاً ، وقد ظهرت آثاره على وجه المختار الذي تفصَّد عَرَقاً ، فنهض متثاقلاً يرحب بالقادمين ويحتفي بالزائرين . وكان من عادة هؤلاء أن يقيموا في القرية حتى الظهر، فيتناولون طعامهم قبل انصرافهم، وكان من الفرائض التي ينبغي للمختار أن يقوم بها ، هي مَدُّ الطعام ، وجمع الإتاوات ، وتقديم الهدايا من دجاج وبيض وحمام . ولكنَّ البرنامج قد أصابه شيء من التغيير هذه المرة ، فقد ظلوا على صهوات جيادهم ، وأمروا المختار أن يصحبهم لتفتيش حوانيت القرية ، فقد جاءهم بلاغ مفاده : أنَّ بعض المواد التموينية الممنوعة كالسكر والشاي والتبغ قد تسللت إلى القرية . وكان القانون يُحَتِّم وجود المختار معهم في مثل هذه الحملة التفتيشية التي استمر عملهم فيها بضع ساعات ، عاثوا فيها الفساد وانتهكوا فيها حرمات البلاد ، وقد أسفرت حملتهم هذه عن وجود صندوق فيه بعض أقماع السكر، ووجدوا عدداً قليلاً من علب الشاي ، وعدداً من علب السجائر، فصادروا هذه المواد ، وفرضوا على صاحبها غرامة باهظة تفوق ثمنها ، وانهالوا عليه ضرباً ولكماً ، ولما تعذَّر عليه الدفع ، ساقوه مقيداً إلى مركز الدَّرَك بتهمة حيازة مواد مُهَرَّبة وبيع الممنوعات . ومال جاويش الدّرَك إلى المختار ، وقال :
- هيا بنا .
- إلى أين ؟.
- إلى دار إسماعيل عبد الوهاب .
- وماذا عنه ؟.
- لدينا إفادة بأنه شريك في عملية سرقة بعض الأسلحة من مركز دير نَخَّاس .
ولم ينتظر الجاويش رداً أو تعليقاً من المختار، وإنما لوَى عنان جواده ، وتبعه رجاله وبصحبتهم المختار يَخُبُّ على برذعة حماره ، والناس تنظر إليهم بشيء من
الذعر، وبشيء من القلق الذي ساورهم ، فقد انحبست أنفاسهم يضرعون إلى الله بعيونهم أن يكفَّ عنهم بلاء الدَّرَك وسخطهم . وما إن يتجاوزون باب دار أحدهم حتى يتنفس صاحبها الصعداء ارتياحاً ، ويحمد الله على انصرافهم عنه ، ولكنَّ رجال الدَّرَك يتوقفون بباب دار إسماعيل عبد الوهاب ، فيترجلون ويطرق المختار الباب ، وينادي : ياإسماعيل ! ياأبا العبد ...
وما إن أطلَّ صاحب الدار حتى باغته الجاويش بلكنة تركية :
- أنت إسماعيل عبد الوهاب ؟.
- نعم يا سيدي !... خيراً إن شاء الله .
ويلتفت إسماعيل حواليه ، وينظر إلى المختار بعينين تتساءلان : ما الأمر؟!. وجاءه الرد من الجاويش الذي يأمر رجاله : قيِّدوه . وشرع المختار يُخلي لهم الطريق للدخول :
- دستور... يا أهل الله ... يا ساتر!...
فيرد صوت نسائي :
- دستورك معك ... مستورة ... تفضَّل يا مختار!.
ولكنَّ الجاويش ورجاله يدخلون ، ولم يتركوا شيئاً إلا جَسُّوه وتحَسَّسُوه ، فقد مزقوا الفراش واللحافات والأغطية ، وكسروا صناديق الثياب ، وأفرغوا أكياس القمح والذرة والشعير، وأفرغوا خرائط العدس والحمص والفول والبرغل والأرز.
وعندما هَمُّوا بالخروج ، اتجه أحدهم إلى قُنِّ الدجاج بنية سرقة مافيه من فراريج ، فمال إليه ، وأخذ يفتش فيه حتى عثر على لَفَّة ، ما إن فتحها حتى صاح قائلاً : " فَرْد ... فَرْد " (مُسَدَّس) .
تهلَّل وجه الجاويش لهذا الصيد الثمين ، فقد كان مُسَدَّسَاً من نوع " براوننج " عيار 9 مم ، ولكنَّ الجاويش يعيد الأمر لرجاله :
– نَقِّبُوا جيداً، فلديه بارودة (بندقيَّة).
ثم يتحوَّل بالسؤال إلى إسماعيل عبد الوهاب الذي بدا عليه الخوف من سوء
المصير:
- أين البارودة يا ولد يا إسماعيل ؟.
- أية بارودة ؟!.
- التي سرقتها من مركز دير نَخَّاس .
- أنا لم أسرق بواريد ( بنادق ) ياسيدي .
- إذن ، أين باقي المسدسات ؟.
- لا سلاح لدي أكثر من هذا الفَرْد الذي بين يديك .
- ومن أين لك هذا الفَرْد ؟.
حار إسماعيل ، فماذا يقول وهو يعلم ظلم الدَّرَك ، ويعلم أيضاً حجم العقوبة التي تنتظره بتهمة تهريب الأسلحة وبيعها في البلاد ، فلزم الصمت ولم يتكلم ، فاستثار عليه غضب الجاويش ، فلطمه على وجهه ، ثم توعَّده قائلاً :
- سأنتزع منك الاعتراف... هناك في مركز الدَّرَك .
خرج رجال الدَّرَك من بيت إسماعيل يحملون معهم بعض المحتويات التي أعجبتهم : فهذا يحمل ثوباً فَلاَّحِيَّاً مُطَرَّزاً ، وهذا يحمل سيفاً أثرياً أو شِبْرِيَّة فِضِّيَّة منقوشة برسومات تُنْبِئ عن زمانها الغابر، وذاك يحمل عدداً من الدجاج ، فأغضبوا المختار بأفعالهم ، وأسخطوه عليهم ، وقد أعلن عن عدم رضاه إلا أنَّ الجاويش نهره فسكت .
سار الركب إلى مركز الدَّرَك والناس ينظرون إلى إسماعيل عبد الوهاب الذي يسوقه أحدهم ، وما إن تلتقي عيونهم بعيني هذا الإسماعيل حتى تنكسر نظراتهم حسرة عليه ، وتندُّ عن ألسنة الرجال والنساء عبارات الإشفاق من المصير. وقطع الركب الشوارع والأزقة ، وكأنهم يعرضون إسماعيل بضاعة يُخَوِّفون به أهل القرية .
وصل الجاويش ورجاله وبصحبتهم المختار مركز دَرَك بيت جبرين ، وألقوا إسماعيل خلف الباب في حجرة التوقيف ، وجلس الباقون يرتاحون ، ويطلب الجاويش القهوة فيحتسونها ، ويهمُّ المختار بالانصراف ولكنَّ الجاويش يستبطئه قائلاً :
- انتظر يا مختار ، ألا ترغب في حضور التحقيق ؟.
ويأمر الجاويش بإحضار إسماعيل عبد الوهاب الذي كان مُعَفَّر الوجه والأقدام ،
مُهَلْهَلَ الثياب ، قد اكتسى وجهه بغلالة سوداء توحي بالفزع والاضطراب . ويتقدم إسماعيل وهو مازال مُقَيَّداً ، فيجلسه أحد رجال الدَّرَك على كرسي خشبي هزيل ، ويقف الجاويش أمامه وكرباجه بيده يتلوى في الهواء وكأنه يريد أن يُخَوِّفه ، ويقول :
- إسماعيل عبد الوهاب !.
- نعم سيدي !.
- من أين لك هذا الفَرْد ؟.
- لقد وجدته .
- أين ؟.
- في طريقي إلى الحقل أيام الحصيد .
- هل كان معك أحد يشهد بذلك ؟.
- كنت وحدي .
- أنت تكذب ، فلا تتعبني... وإلا...
- لقد قلتُ صدقاً .
- الفَرْد حكومي ، ويرجع لأحد رجالنا الذي خرج عليه قُطَّاع الطرق وهو في طريقه إلى بيته ليلاً، فانتزَعوا منه فَرْدَه وسلبوه حافظة نقوده ، فأين الحافظة ؟. ومَنْ شركاؤك يا إسماعيل ؟!.
فَعَلَّق المختار هامساً :
- هذه مصيبة أخرى جاءت عَرَضِيَّة .
اضطرب إسماعيل وزاد اضطرابه عندما سمع مقالة الجاويش ، فوجد نفسه قد وقع في مصيبة أكبر مما توقع ، وحاول أن يدافع عن نفسه ويدفع عنها التهمة ، فانهالوا عليه ضرباً ، فرفع يديه المقيدتين يتقي بهما ضربات العِصِيِّ التي تعلو وتهبط على رأسه وظهره ، ولم يشارك الجاويش رجاله الضرب، فقد اكتفى بما ألحقوا به من أذى ،
ثم يشير إليهم بيده أن توقفوا، فيتوقفون . ثم يسأل :
- أين كنتَ ليلة الجُمُعَة الماضية يا إسماعيل ؟.
- في داري .
- أنت تكذب يا إسماعيل .
- لم أخرج من داري في تلك الليلة .
- بل خرجتَ وقضيتَ ليلتك في دير نَخَّاس ، وعُدْتَ في صباح اليوم التالي .
ثم يلتفت إلى رجاله قائلاً :
- " اِطْرَحُوه أرضاً ، وأَحْضِروا الفَلَقَة " .
وأخذ إسماعيل وجبة قاسية مؤلمة جعلته يتأوَّه مدة ليست قصيرة ، ولكنَّ هذا
التوجع أَمَدَّه بشيء من الصبر وقوة الاحتمال .
- إسماعيل !.
- نعم !.
- إياك والكذب !.
- لا أكذب .
- مَن رافقك إلى دير نَخَّاس ؟.
- لم أذهب إلى دير نَخَّاس .
- وفي أي دار نزلتَ تلك الليلة ؟.
- لم أذهب إلى دير نَخَّاس في تلك الليلة .
ويهوي السوط فجأة على جسد إسماعيل يلهبه ، ولم يكن في مقدوره أن ينأى عن لدغاته .
- قلتُ لك لا تكذب... يا كلب !.
وتبرق في ذهن إسماعيل بارقة ، ويقول بصوت واهٍ ضعيف :
- لديَّ الدليل على صدق قولي .
- وما دليلك ؟.
- لقد أمضيتُ بعض الوقت في ديوان المختار حتى صلاة العشاء ليلة
الجُمُعَة الفائتة .
– أي مختار منهما ؟.
فأشار بعينيه قائلاً :
- المختار أبو فوَّاز.
فيتجه الجاويش إلى المختار أبي فوَّاز يسأله :
- أصحيح ما يَدَّعي هذا الرجل يا مختار؟.
نظر المختار إلى الجاويش ، ثم حَوَّل بصره إلى إسماعيل عبد الوهاب ، وتساءل في نفسه : " ما هذه الورطة التي أوقعني فيها إسماعيل بهذه الكذبة المفضوحة ؟. وماذا سيكون موقفي أمام الجاويش وأمام القائمقام إن ظهر يوماً تَسَتُّري على مجرم يتاجر بالأسلحة ؟. إنه بإمكاني أن أصادق على قوله ، وأشهد بما قال فأنقذه من سجن قد ينغلق عليه بابه ولا يفتح إلا بعد طول سنين ، ولكني سأظل تحت طائلة القانون بالتَّسَتُّر على المجرمين ، فليس في القرية رجل ولا امرأة إلا ويعلم أنَّ إسماعيل عبد الوهاب تاجر أسلحة ، ولكنه لا يسرق أحداً ، ولا يقطع الطريق على أحد ، فأخشى ما أخشاه أن يفضح أمري واحد من أهل القرية ، وما أكثر الكارهين لي الحاقدين عليَّ ! إذ ليس مستبعداً أن يشي بي أحدهم مدعياً أني أشارك إسماعيل في متاجرته بالسلاح المهرَّب ، حينها سأكون موضع ريبة تجلب عليَّ نقمة جاويش الدَّرَك وسخط القائمقام ، وتضيع المخترة ، ولكنْ مالي وما لإسماعيل هذا ! فليذهب إلى الجحيم . ويفيق المختار على صوت الجاويش يسأله :
- ما ردُّك يا مختار؟.
- إنه كاذب ، أنا لم أره طيلة أيام الأسبوع الفائت... لا ليل ولا نهار.
وهنا يصيح إسماعيل في وجه المختار مستعطفاً بنبرة لا تخلو من تهديد : - تذكَّر يا مختار، تذكَّر ليلة أن تحدثتَ إلى الحاضرين عن وجوب التخلص من
مختار الحارة الشرقية أبي سفيان ، ومن بعض رجال القرية ممن يثيرون
عليك الناس ويؤلبونهم ضدك .
- أنت تكذب .
- أتريدُني أن أُذَكِّركَ بما هو أخطر من ذلك ؟.
فصاح به المختار قائلاً :
- اخرس أيها الكلب ! ثم يلتفت إلى الجاويش قائلاً بثبات وإصرار :
- كما قلتُ لكم : أنا لم أره ، ولم يأتِ إلى الديوان طيلة الأسبوع الماضي ، فلا تصدقوه .
وينهال الجاويش على جسده بالضرب المبرح ، ويشاركه رجاله مستخدمين الفلقة مرة ثانية ، ثم يُساق ذليلاً وهو يصرخ بعد أن زَجَّ به رجال الدَّرَك في حجرة التوقيف لترحيله إلى مركز الدوايمة ثم نقله إلى الخليل لمحاكمته .
- لن أنسى لك يا مختار هذا ما حييت ، وسيأتي يوم أخرج فيه من عقالي وألقاك .
وجلس الجاويش وجلس المختار قبالته يحتسيان القهوة ، ثم يقول المختار:
- استأذنكم سيدي للإنصراف ، فسأعود ومعي طعام الغداء .
- سأعفيك اليوم من الغداء ، ولكني أحار فيما سمعتُ من إسماعيل يا مختار.
- فيم ؟.
صَفَنَ الجاويش قليلاً، ولاك شيئاً مما سمعه ثم قال :
- هل في نيتك التخلص من المختار أبي سفيان ؟.
- كلا يا سيدي ! إنه يكذب .
- ولكنْ ، ما الذي دفع إسماعيل إلى اتهامك كذباً بهذه التهمة ؟.
- مجرد افتراء ؛ لأني لم أشهد بما يبرِّئُه .
ولوَّح الجاويش بإصبع يده ، وقال وفي صوته نبرة تحذير :
- أرجو أن يكون كلام إسماعيل اتهاماً كاذباً... ولكنْ ، تذكَّر يا مختار أنَّ
أبا سفيان مختار مثلك يخدمنا كما أنت تخدمنا .
- كيف ؟.
- لا تَسَألْ كيف ، ولكنه يخدمنا ، وإني أحذرك من تجاوزاتك أن تصيب أبا
سفيان بجهالة .
- ولكنه مبعث القلق ومصدر الاضطراب والتمرد في القرية ، وكثيراً ما يؤلب أهل القرية عليَّ وعليكم .
- خصوماتكم الشخصية لا تهمنا ، ولكنْ الذي يعنينا حفظ الأمن ، وسيادة القانون . وأنت يا مختار رجل حكومة ، وهو مثلك رجل حكومة ، وكلاكما يحفظ الأمن في القرية ، فإياك مما تفكر فيه .
- لا يا سيدي ! أنا لا أفكر في التخلص من أبي سفيان بيدي ، وإن كنتُ أتمنى أن تجردوه من المخترة ؛ لأنه محرِّض ويدعو إلى التمرد والخروج على الدولة العليَّة ...
فقاطعه الجاويش وقد ضغط على كل كلمة بنبرة حادة :
- يا مختار! نحن حريصون على بقائه وسلامته ، كما نحرص على بقائك وسلامتك . أفهمت ؟.
ولوى المختار شفتيه ، ووقف ثم ألقى عباءته على كتفه وقال :
- لقد بدأتُ أفهم الآن .
- إذن ، لا تجادل ، ولا تتجاوز حدود ما نرسمه لك .
- أمْرُكَ يا سيدي !.
* * * * *
ليس سراً ما يُذاع على مرأى ومسمع من العشرات من أهل القرية ، فقد تناقلوا ما تَسَرَّبَ من أقوال إسماعيل عبد الوهاب خلال التحقيق معه، وأضافوا على ما حدث ما لم يحدث ، ودفعوا بها فأسرعتْ حتى وصلت الأخبار إلى أبي سفيان مختار الحارة الشرقية ، وطارت إليه تفاصيل التحقيق في مركز الدَّرَك ، فكتم هذا الرجل الوجيعة ،
ولم يتحدث في شيء منها أمام الملأ في ديوانه، بل إنه كان من طبعه ألَّا يُعِير اهتماماً لكل ما يتناثر على الألسنة من قول لم تثبت صحته بعد ، وخاصة ذلك الذي يشعل الفتن ويثير الخصومات ، لهذا فإنه دائماً حريص في أقواله ، كتوم
لنواياه ، لا يجاري من يأتيه ينقل إليه كلامًا يؤذيه ويؤلمه كهذا الذي سمعه عن لسان أبي فوَّاز أو ينسب إليه .
ونام أبو سفيان تلك الليلة وهو يقلب الأمور على وجوهها ، وإنه لم يكن يتوقع أن تهبط الخصومة بين المختارين إلى هذا الدَّرْك الأسفل من البغضاء ، وكم كان يتمنى أن يكون كل ما سمعه مجرد افتراء وكذب ، ولكن ألسنة كثيرة قد لاكت هذه الأقوال ، وقد سمعها من أناس كثير . أيكذبون عليه بكلام خطير كهذا الكلام؟!. أيكذبون عليه وفيهم رجال عُرِفوا بصدق القول والأمانة ؟! . ويُمضي المختار أبو سفيان تلك الليلة وهو مُفَزَّع النفس ومُوَزَّع الوجدان ، قد استعصَى عليه لملمة شعث أفكاره .
وينبلج الصبح وترتفع الشمس بضيائها ، فيرسل في طلب بعض رجالاته الذين يَهُمُّهُم أمره ويَهُمُّه أمرهم ، ويتباحث معهم في أمور القرية ، ثم يُعرِّج بهم على حادثة اعتقال إسماعيل عبد الوهاب ، ويعيد عليهم ما جرى وما وصله من أخبار. ويَنْفَضُّ الجمع لينطلقوا إلى دار الحاج حسين أبي النور لحضور عقد القران على ابنته سلمى، ثم الانتقال إلى دار الشيخ زيدان لتناول طعام الغداء ، ثم المشاركة في حفل زفاف ابنه سعيد الذي دعاهم وألحَّ عليهم في دعوتهم .
وصل الشيخ رجب خطيب مسجد القرية إلى دار والد العروس وبصحبته الشيخ عبد السلام والمختار أبو سفيان والحاج زكي والشيخ زيدان وابنه سعيد ولفيف من الأقرباء والأنسباء والجيران . وما إن أطلُّوا حتى هبَّ الحضور وقوفاً لهم ، فسلَّموا ثم أخذوا لهم مجلساً في صف واحد ، وتسابقت إليهم التأهيلات والتسهيلات من كل رجا ، وقد خصَّوا مختار الحارة الشرقية ومَنْ صَحِبه من أهله بحفاوةٍ بالغة .
ورحب بهم صاحب الدار أيّما ترحيب ، وبدأوا مراسيم عقد القران كما تقضي به أعراف القرية ، وقد علت الفرحة الوجوه ، وطافت الابتسامات على الشفاه ، وأشرق البشر والرضا من العيون ، وكانت فرحتهم عظيمة لحضور رجال الحارة الشرقية بصحبة المختار أبي سفيان الذي طبع خاتمه على مضبطة الزواج حين تأخر مختارهم
أبو فوَّاز، إذ اعتقدوا بعدم حضوره . وقد استبشر الشباب بهذا الوصال الذي فارق القرية زمناً ، فكانوا يُقَدِّمون آيات التباريك لسعيد بعروسه ، ويباركون هذا النجاح الذي تكلل بجمع شمل القرية .
وقد اعترف سعيد بفضل أترابه من شباب الحارة الشرقية على دورهم في محاورة آبائهم وأعمامهم وكبرائهم ، ونجاحهم في إقناعهم بالحضور والمشاركة ، ونَزْع فتيل الخصومة التي كادت تقضي على جميعهم .
وتَقَدَّمَتْ بين يدي الحضور أكواب الشاي ، وأطباق من القطِّين والحَلْقُوم ، وبينما هُمْ في غمرة فرحتهم حتى دخل عليهم المختار أبو فوَّاز، ينشر السلام ويبارك ثم يجلس ، وقد بدا عليه شيء من الدَّهَش حين رأى مختار الحارة الشرقية ورجالها حاضرين ، وقد ساءه ذلك إلا أنه كتم في نفسه استياءه ، فأكل وشرب ، وطاف مرة ثانية يتفرس في وجوه الحاضرين ، وتلتقي عيناه بعيني أبي سفيان ، ويقول بلهجة أقرب إلى السخرية :
- أهلاً بالضيوف الأكارم .
فيرد أبو سفيان بهدوء :
- وبك أكثر يا أبا فوَّاز... ولكننا لسنا ضيوفاً في قريتنا .
- كلنا على هذه الأرض أضياف .
- هذا شيء آخر، وقد صدقتْ ، ولا يبقى إلا عملُنا فهو مقيم .
ويتوجه الشيخ زيدان إلى المختار أبي فوَّاز يرحب به ، ويسأله :
- لماذا تأخرت يا أبا فوَّاز ، لقد انتظرناك طويلاً ؟.
- لقد شُغلتُ عنكم في أمر، وقد سرقني الوقت .
- حسبناك من الغائبين ، فقام المختار أبوسفيان وسد مسدك .
فاغتاظ أبو فوَّاز وكتم غيظه قائلاً بصوت مسموع :
- كِلانا يَسُدُّ مَسَدَّ الآخر.
فانبعث صوت يقول بشيء من التهكم :
- ما كان له أن يأتي إلا في مَعِيَّة الشيخ العصفوري .
وتتقد عينا المختار أبي فوَّاز ، يبحث بهما عن مصدر الصوت ، ولكنَّ الشيخ زيدان يعيده إلى رشده الذي أوشك أن يفرَّ منه .
- وأين الشيخ العصفوري ورجاله ؟. لماذا لم يلبوا دعوتنا ؟.
- لم يَدْعُهُم أحد منكم .
- إني أرسلتُ في دعوتهم .
- برضا سعيد ؟.
- بل على كُرْهٍ من سعيد .
- ولماذا ترسل في دعوتهم إذن ؟.
- إني أخشى العاقبة ، وأنت تفقه قولي .
- لقد كنتُ في حضرة الشيخ العصفوري ، ولم يأتِ على ذِكر هذه الدعوة ، بل إنه لم يتحدث في هذا الأمر، وإذا وصلته دعوتكم ، فإنه لابد آتٍ للمباركة إنْ لم يكن اليوم فغداً ، فأَطْرِفْ له ولرجاله من الطعوم إلى حين قدومهم .
وما إن فرغ الخطيب من مراسيم عقد القران حتى أعلن الشيخ زيدان دعوتهم لتناول طعام الغداء بعد أداء صلاة الظهر إن شاء الله في داره ، حيث تجمَّع المدعوون من أهل القرية ومن القرى المجاورة ، واصطف عدد من الشباب يحملون البواطي الملأى بالفتيت واللحم ، يتقدمهم الشيخ زيدان يمدُّ الطعام أمام الأضياف . وأُطعِم الجميع وشربوا وحمدوا الله ، ولهجوا بعبارات التبريك والثناء ، وشكر لهم الشيخ زيدان حضورهم ومشاركتهم ، وتمنى أن تدوم نعمة الوفاق والاتفاق على أهل القرية بشطريْها .
وما هي إلا دقائق حتى خرج الشباب يتحلقون ، فيدبِكون ويهزِجون على أنغام الشِّبَّابَة تارة وعلى الأرغول تارة أخرى ، وقد اختلطت أصواتهم بأصوات النساء اللاتي يرقصن ويغنين للعروسين ، ذاكرات الصفات والمناقب ، ويلهجن بعراقة الحَسَب والنَّسَب ، ويمتدحن كلاً من والديِّ العروسين بما هو أهل ، وتتدافع الزغاريد ويعلو الغناء ، وتَرْتَجُّ الأرضُ تحت أقدام " الدَّبِّيكَة "، وتخرج كوكبة من النساء يتحلين
بأجمل الثياب ، تقرع إحداهن الطبلة وتغني بصوت عالٍ ، ويردد سائرهن من ورائها بأصوات عذبة وبألحان شعبية جميلة وبأنغام تداعب العواطف وتطرب النفوس ، ويصل الركب دار أسامة صديق سعيد حيث يُستضاف " العريس " ليغتسل ويتزيَّن فيها ، ثم يخرج منها إلى الزفَّة كما هي عادة القرويين منذ القِدم .
ويتجمَّع الشباب في صحن الدار وفي خارجه ينتظرون ويترقبون خروج العريس ، وما إن أطل وجهه حتى هُرِعُوا إليه يحفُّونه من جانبيه ومن أمام ، وقد تأبط أحدهم ذراعه من اليمين وآخر من اليسار، وكلاهما يحمل بيده ضُمَّة من الريحان ، ومن هنا تبدأ زفة العريس حيث يتقدمه جماعة من أترابه يصطفون متقابلِين، يَسْحَجُون بأكُفِّهم ، وتنطلق ألسنتهم يغنون :
- " طلع الزين من الحَمَّام ، الله واسم الله عليه " .
ويُرَدِّد سائر الشباب هذا الغناء ، وتَرِنُّ الطبلة بيد إحدى الصبايا وقد ارتفعت الزغاريد ، وانطلقت الأغاني تتصاعد في أجواز الفضاء . ويخرج سعيد إلى الناس وقد ارتدى قمبازاً من الحرير، ينسدل على جسمه ، فيبِين قوامُه الممشوق في أجمل مشهد، وكان حليق الذقن ، مُهَذَّب الشاربين ، ناصع الجبهة ، مُتَوَرِّد الخدين حياء وخجلاً ، يضع على رأسه الحَطَّة والعِقال ، وتتدلى من حزامه شِبْرِيَّته الفِضِّيَّة . ويُزَفُّ سعيد من دار أسامة في الحارة الشرقية إلى داره في الحارة الغربية ؛ بهذا الفرح وهذا الرقص وهذه الدَّبْكة المصحوبة بالغناء . وكانت كوكبة من النساء تسير خلف العريس ، تحمل إحداهن على رأسها طبقاً من سعف النخيل مملوءاً بخليط من الملح والشعير، فتنثر منه على رأس العريس وعلى رءوس الشباب الذين حوله وهي تدعو بغنائها أن يصلي السامعون على النبي محمد " عليه الصلاة والسلام " ، وكأنها بهذا تطرد الحسد عن سعيد ، وعن الحضور جميعاً . وكانت للعريس محطات يستريح فيها تحت قبة من جريد النخيل ، فيجلس على كرسيه الذي يحمله أحد الصِّبْيَة ، وتنعقد الدَّبْكَة بعض الوقت ، ثم يواصل الموكب سيره من جديد .
كان الوقت قبيل غروب الشمس حين وصل موكب العروس سلمى دار الزوجية ، فتترجل من فوق الفَرَس ، حيث ينزلها أبوها وعمها ، وتتلقفها النساء من أهلها ويُدْخِلْنَها الدار وهي مُغطاة بعباءة كشميرية ، فترتفع الزغاريد وتعلو دقات الطبلة ، وتتعالى نغمات الأغاني . وتهبط الشمس ، وينطفئ ضوء النهار، وتُستضاء القناديل ، ويهجع السامرون ويصطفُّون للسلام على " سعيد "، ثم يدفعونه إلى باب أحد البيوت ، وينهال عليه أعز أصحابه يضربونه ، وكان الضرب بالخيزرانة موجعاً ، ولكنها عادة القرويين . ويهرب من لسعاتها ، ويدلف إلى داخل البيت يتحسس طريقه خائفاً يتهيَّب . وتُغَلَّق عليهما الأبواب والنوافذ ، والأصحاب يتضاحكون ويُردِّدون بصوت واحد : " شِنْ قليله شِنْ قليله – الله يعينه على هالليله ! ".
وتنفضُّ الجموع ، ويَسْبُتُ العروسان وتَسْبُتُ القرية كلها بعد أن طاف دعاؤها لسعيد مردداً : " الله يعينه على هالليله " !.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.