إيفرتون يصعق ليفربول ويوجه ضربة قاتلة لسعيه للفوز بالبريميرليغ    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    الثالثة خلال ساعات.. عملية عسكرية للحوثيين في البحر الأحمر وتدمير طائرة    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الخامس بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2013


5
تنادى أهل القرية ، فأخذوا يُهرعون وهم يتساءلون : ما الخطب ؟ ولكنهم يتحسسون شعوراً داخلياً يهجس لهم بأن حدثاً جللاً قد حَلَّ ، أو أنه سيحِل قريباً ، وإنه على غير ما تَعَوَّدوا في المرات السابقة ، إذ كان من عادة العصفوري إذا أراد لهم جمعاً ، فإنه يطلق المنادي ليذيع فيهم أن اللقاء سيكون في اليوم التالي ، ويترك الأمر للمختار الذي يختار له ساعة مناسبة من يوم عمل شاق ، ولكن هذه المرة نودي أن يُهرعوا إلى ساحة المدرسة في الحال ودون إبطاء ، فما أبطأوا ؛ وإنما تسارعوا لئلا يُرَوَّعوا في أنفسهم وفي أبنائهم .
كان الوقت عصراً عندما اكتمل تجمهر أهل القرية على شكل حلقة كبيرة تجمع أخلاطهم ، ولا تسمع منهم إلا لهاثهم وهمهمات مبهمة . ولا ترى على وجوههم إلا ذلك الشبح الذي اسمه الذعر . وبدا كل منهم يسائل نفسه ويسائل غيره بنظراته ، ويلح كل منهم بتساؤلاته عن سبب هذا الحشر الذي دعاهم إليه العصفوري ، فخَمَّنوا وخَرَّصوا، وما استقر الرأي على شيء . فتزاحمت عليهم المخاوف تنهش أفكارهم ، وزحفت عليهم الظنون والشكوك تُلَوِّث صفوهم وتُعَكِّر أمزجتهم ، فلا يبرءون منها ولا تبرأ منهم . فالحياة تشتد عليهم ولا تلين ، وواقع حياتهم يقسو عليهم ولا يرحمهم ، ومع هذا فقد أَلِفُوا هذه الظروف الحياتية ، واعتادوا من العصفوري والدَّرَك والمختار الفظاظة والغلظة والقسوة ، وهل هناك أشد غضاضة من مهانة شيوخ القرية ، وترويع أطفالها وإذلال نسائها ؟!.
لقد عاش العصفوري فيهم بحكمة الأولين ، فعرف من الناس احتياجاتهم وتطلعاتهم في استكمال نواقصهم ، فأخذ يستقطبهم ويسترضيهم فيرضون ، ويُقَدِّر هذا الرضا فيهم ، كما كان يُقَدِّر سخطهم حين يسخطون ، ويبتسم وتتسع ابتسامته حين يضجُّون من أوجاعهم ، وحين يضرعون إليه ، فكان يبسط لهم من يده القابضة شيئاً من لذتهم حين يتاح له أن يلذَّهم ، وكانوا يشكرون له حين تتاح لهم من فضله هذه اللذة الآنية
التي سرعان ما تختفي بإشارة من بنانه ، أو بإيماءة من رأسه .
لم يكن الشيخ العصفوري فقيراً ولا محتاجاً ، ولكنه رجل ثري ، قد أُفْرِطَ له في الثراء ، وكان صاحب تجارة يزاولها دون أن تمنعه مسئولياته على ثقلها من مباشرة أعماله ومتابعتها ، وكان قادراً على أن يعيش عيشة رخصة راضية ، وله أن ييسر لأهله وبنيه حياة رطبة لينة فيها هدوء وفيها نعومة ، هذا إذا أُضيف له ما كان يملك من الأرض والخدم والعبيد ، وما كان له من زروع وضروع تَدِرُّ عليه الخير الوفير. ولكنه أخذ أهل القرية بالشدة والقسوة وبأبشع ما يكون عليه التسلط ، فتراه وقد حَفَّ نفسَه ببطانة تنتفع من عطائه كلما قَدَّمَتْ له جليل الخدمات وعظيم الطاعات ، هذه البطانة التي تمتهن نفسها وتُذِلُّها إلى أبعد حدود العبودية ؛ فهم الأعوان وهم الخُدَّام ، وهم اليد التي بها يُقَيِّد حركة الناس ويكمم أفواهم ، وهم المدافعون المهاجمون ، وهم الساهرون حُرَّاساً وعَسَسَاً ليل نهار لينام ملء جفونه ، ولينعم بالراحة وهدأة البال . ويُلْقُون بأيديهم إلى التهلكة حتى الموت فداء له وإبقاء على حياته الناعمة ، وحسبهم منه رضاه عنهم ، وإقباله عليهم ، ويكتفي منهم تقاريرهم بما رأوا وبما سمعوا ، وبما جال الخاطر في رءوس الفلاحين ، فيظل الجميع تحت عباءته ؛ فله الكلمة العليا ، وعليهم الطاعة ونفاذ الأمر دون إبطاء . والويل لمن يجرؤ على التمرد أو الاعتراض أو حتى التبرم بالشفتين ، لأنه كغيره من الحكام يخشى على نفسه من تمرد الآخرين ، وإنَّ أشدهم قسوة وعنفاً هو أحرصهم على البقاء متربعاً على العرش لئلا يهوي ويتحطم ، وينزوي من عليائه .
تلصصت حدقة الشمس من بين المنافذ ، ومن خلال الفجوات بين أغصان الشجر وأوراقه ، فعكست أشعتها الذهبية على وجوه الواقفين الواجمين هالة من الخشوع المشوب بالذعر، وبرقت في عيونهم أشعة مُرْتَدَّة تُنْبِئُ عن شيء لابد خطير، وأخذ الهواء بنسماته الجافة يداعب الرموش والشفاه وخصلات الشعر في مقدم الرأس من تحت الأغطية ، ومع هذا فحَبَّات العَرَق تتدحرج بطيئة في أخاديد الوجوه ، تتناثر على الجباه ، وتصب في العيون ، وإنه لموقف عسير .
وما هي إلا لحظات حتى سُمِع صوت جَلَبَة ، فتحوَّلت إليه العيون تبحث عن مشهد تنبعث منه هذه الأصوات المتزاحمة ، فاستقرت على الشيخ العصفوري يتهادى به جواده الأشهب ، فيقترب شيئاً فشيئاً في خيلاء ، ويتقدم في موكب مهيب ، يتبعه رعيل من عشيرته ، ويتبعه المختار أبوفوَّاز على ظهر حماره ، وما إنْ أطلَّ العصفوري من أحد الأزقة حتى لكز جواده فطار به ، فأجبر كثيراً من الواقفين على التراجع والهرب من أمامه . ولكنَّ الجواد يقف في منتصف الحلقة ، ولم يَقَر بل أخذ يحمحم ويتحفز للوثوب ، ويدور حول نفسه بشيء من العصبية ، كعصبية صاحبه ، فكلاهما به نزق ، وكلاهما يُؤْثر العنف ، ويستمطر الشر، حين ينقدح الشرر من العيون . ويتصدع الجدار الآدمي حين تراءى للناس هذا العصفوري الذي يثبت كالصقر فوق صهوة جواده ، لا يهتز ولا يزول ولا يميل ، وينظر في كل اتجاه ، وينظر معه جواده إلى الجهة التي يصوب إليها العصفوري نظره ببريق حاد ، ويقرأ الحاضرون عنوان الغضب على وجه العصفوري ، الذي ينظر ويطيل النظر إلى كل تجمع ، وشارباه يتغامزان من شدة الغضب ، وشفتاه تختلجان بكلام غامض لا يبين منه شيء ، أو هكذا يبدو في أعين الحاضرين الذين لا يرون إلا الرعب في كل مشهد تقع عليه أبصارهم . والجواد الأصيل تحته لا يستقر على وقفة يرتضيها لنفسه ، فهو دائم الحركة ، ودائم الدوران ، وكثير الحمحمة ، وكثير الالتفات بالرأس ذات اليمين وذات الشمال ، وقوائمه تضرب الأرض بعنف ، فتثير غباراً يُعَفِّر وجوه الحاضرين ، والحاضرون في وجوم ، والحاضرون في هلع شديد قد يدوم ، إذ أعياهم الانتظار، كما أعياهم الموقف الذي لا يجدون له تفسيراً ولا تأويلا .
والعصفوري مازال على ظهر جواده صامتاً وقد أطبق شفتيه ، وأخذ يصفر بالهواء أنفُه ، ويئزُّ كالمرجل صدرُه ، فيزيد من هلع تلك القلوب الواجمة الراجفة ، ترتجف من ذلك السوط الذي يلوح به العصفوري ، ويضرب به الهواء ، فيَصْفِقُ صفقات تنكمش لها الأبدان من بعيد ، ويجفل منها الفلاحون ، وترتعد فرائصهم ، وترتعش أطرافهم ، ويدبُّ الفزع في أفئدتهم ، ويتحفز الجواد للوثوب ، وترتفع يداه ، ويقف على قائميْه
الخلفييْن بحركة ينتصب معها هذا الجواد . ولولا فروسية الفارس وخبرته في امتطاء ظهور الخيل وسَوْسِها لأطاح الجواد به . ويجفل حمار المختار؛ يكاد يُدْبِر براكبه ويترك المكان ، ولكن المختار يشكمه ويكبح جماحه ، فينهق وما أبشع نهيق الحمير لاسيما حين يصيبها الفزع الأكبر .
وما إنْ أحكم العصفوري سيطرته على جواده الهائج ، وهو يمسك عنانه بقبضة يده اليسرى ، بينما يتدلى من يده اليمنى سوطه الذي لا يفارقه مثل السيف الذي يلازمه ، حتى أشار بيده أن استمعوا وكُفُّوا عن الهرج والمرج ، فترتجُّ الساحة من تحت أقدام هذه الجمهرة من أهل قرية بيت جبرين .
- أيها الناس ، يا أهل بيت جبرين :
خيم الصمت على الجميع ، وارتفعت أعناقهم وتشوفت عيونهم ، وكل منهم يستنفر أذنيه ، ويشحذ عقله ليسمع ويعي الكلام الذي يجري على لسان هذا العصفوري الذي يبدو أمام الجميع صقراً جريئاً :
- أيها الناس ، يا أهل بيت جبرين : إني أخاطبكم ، وأخاطب من خلالكم أهالي القرى المجاورة . من : دير نَخَّاس وكُدْنا ودير الدِّبَّان ، إلى : رَعْنَا وعَجُّور وزَكَرِيَّا.
ومن : تَلِّ الصَّافي وبَرْقُوسْيَا وزِكْرِين ، إلى : زِيتا وصُمِّيل وبِعْلِين ، وإلى سائر القرى التي تنضوي تحت لوائي وتعيش في جواري .
- أيها الناس : يسألونكم : مَنْ وَلِىُّ نعمتكم ؟ ومَنْ يُميركم ويسقيكم ؟ ومَنْ يمنعكم وينصركم ؟.
يسألونكم : لمن تُهرعون إذا أرمدت الأرض وأظلمت حواكيركم كإظلام لياليكم؟.
وإني أسائلكم : هل قَصَّرتُ يوماً عن واجب اللجوء لطريد ، أو تخاذلتُ في إيواء
شريد ؟. هل وفَدَ إليَّ أحدكم بظُلامة ، فرأى مني تباطؤاً ومناورة ؟. هل قَدِمَ إليَّ
أحدكم بشكاية ، فوجد مني تلكؤاً ومداورة ؟.
- أيها الناس : أنا لم أدْحَرْ أحداً جاءني ، ولم أَرُدَّ أحداً بما يكره ، ولم أترُك أحداً يسألني إلَّا وأجبت سُؤَله ، فَيُسَرُّ مني ويفرح . فلماذا تتنكرون وتنكرون؟!.
أم أراكم تتمردون ؟ أم أراني فيكم كما تتوهمون ؟. فلا ورب الكعبة ، ما
أرتضي لأحدكم أن يخذلني أو يعصي لي أمراً ، حتى لا آخذه من العنق . ولا
ورب الكعبة ، لا أبتغي لأحد منكم أن يتجاسر عليَّ بالتمرد ، والخروج على
قانون الطاعة والولاء الذي سيَّرته فيكم ، حتى لا يثور غضبي فأُقَطِّعَنَّ أيديَكم
وأرجلَكم من خلاف ، وأُصَلِّبَنَّ ما تبقى من أجسادكم على جذوع النخل تنقر
الجوارح أمخاخكم من أقحاف رءوسكم، وألقي رفاتكم في إحدى خرائب الجبل ،
تنهشه السباع والضباع .
- أيها الناس : ألستُ سياجكم حيثما حللتم ، وتاجكم أينما نزلتم ، وعزكم كلما
نفرت منكم الدنيا ؟. ألم أُهيئ لكم أسباب الحياة الوادعة ، والعيشة الرغدة
الراضية؟. أتذكرون! أم أراكم قد نسيتم أياماً ضاقت عليكم الدنيا بما رحبت ،
وتزاحمت عليكم الكُرَبُ والأرزاء ؟! وسعيتم إليَّ راجفين ، ففرَّجْتُ عنكم
كربكم ، وأوسعتُ لكم في الأرزاق ، سعة لم يكن يحلم بها أحد في هذه الديار،
فأطلقتم ألسنتكم تلهج بذكري – صباح مساء – ثناء ودعاء وولاء .
- أيها الناس : لا رحمة ، لا شفاعة ، لا عفوَ عندي لمن يجترئ عليَّ أو
يعصي لي أمراً ، بل الويل والثبور وعظائم الأمور لمن يعتدي على شيء
أملكه ، أو يتآمر خفية لينتقص شيئاً من حرمات ما أملكه : أرضاً وزرعاً وماء
ودُوراً وقصوراً معمورة بالأنام ، وحظائر ترتع فيها الأنعام . أمّا إنْ سألتم عن
الضرائب التي لي عليكم بعد موسم الحصاد من كل عام ، أقول لكم : ادفعوها
وأنتم صاغرون ، ادفعوها وقد آن أوانها ، ولا تُنقِصوا منها شيئاً ، وإنَّ عقابي
لشديد ...
وتوقف لحظة ثم علا صوته ، وترددت نبراته في أرجاء المكان صدى مرعباً ، ولوح بسوطه في الهواء ، رافعاً يده إلى أعلى ما يمكن أن تصل إليه ، وكأنه يريد أن يراه كل الحاضرين .
- أيها الناس ، رجالاً ونساء ، شباباً وشِيبًا :
ونظر مُغْضَباً في وجوه الحاضرين ، ومن تحته جواده الذي يتقافز يمنة ويسرة ، ويدور برأسه كلما أحس من صاحبه التفاتة إلى هذه الناحية أو تلك ، ويستدير بحركة دائرية عَرْضِيَّة بشيء من العنف ، ويتلمظ العصفوري قليلاً ، ويمد يده يزيل الجفاف الذي لحق بشفتيه ، ثم يردف قائلاً وهو يتطلع بعينيه كالصقر الجائع الذي يتربص بفريسة تُهَدِّئ من ألم الجوع الذي يعصره :
- أنا هنا وحدي شيخ المشايخ الذي يأمر وينهَى ، يعاقب ويعفو ، يُعِزُّ ويُذِل . أنا ولي أمركم جميعاً لأني ولي نعمتكم جميعاً... فهل تنكرون ؟!.
وأخذ ينظر بحدقتيْه اللتين غارتا في وجهه من شدة الانفعال ، ويطوف بهما من ركن إلى آخر وفي كل اتجاه ، فلم يَرُد أحد ، ولم يَسمع شيئاً من أحد ، فقد انحبست الأصوات في الصدور، وفقدت الحناجر وظائفها في تلك الساعة الحاشرة ، ولم يكن يَسمع سوى ضربات قوائم جواده في الأرض وهو يدور بما يناسب المقام .
وهَدَأ العصفوري قليلاً فهَدَّأ من صوته وقال :
- أيها الناس ، يا أهل القرية : لقد أمسك رجالي بأحد شباب قريتكم ، وهو يخترق سياج أرضي وزروعي ، ومعه خِرْفان وجِدْيان ، وقد تركها تُفسد في حرثي ، وترعى في زرعي وهو لاهٍ عنها بِنَايِهْ ، وعندما سيق إليَّ ادَّعَى أنها أرضه وزروعه .
وهنا تعالت الهمهمات مستفسرة ، فيجيب العصفوري عن استفسارات نظراتهم وهمهماتهم ، قائلاً وهو يشير إلى رجل يختفي وجهه تحت حَطَّة أُسْدِلَتْ عليه ، يرتدي قمبازاً قد مُزِّق عن جسده ، ويداه مقيدتان بحبل ينتهي بأيدي الحرس الذي يطوِّق الحاضرين :
- قرِّبوه ، واكشفوا عن وجهه الغطاء ؛ ليراه الملأ في هذا المحشر.
فيسوقه الحراس من رجال العصفوري ، ويجعلونه في مكان الوسط من الحلقة الكبيرة ، ثم ينزعون الغطاء عن وجهه ، فيبين للرائين . وهنا يُسمع دوي وطنين ، وتُسمع من وراء جدار الصمت أصواتٌ متناثرة هنا وهناك ، تحمل بين طياتها
خوف أصحابها وفزعهم مما يرون ، فيشيرون إليه بأبصارهم ، ويتَّجهون إليه بأفئدتهم ، ويقولون بألسنتهم مشفقين : " إنه سعيد.. يا للمسكين!". ونهر العصفوري الحاضرين أن يكفُّوا عن همهماتهم ودندناتهم ، فإذا بهم يصمتون ولا يتكلمون .
ويستأنف العصفوري حديثه وقد اصطنع هدوءاً ورقة وهو يشير إلى سعيد :
- ثم نُمي إليَّ أنه يبث دعاية ضدي ويحرِّض الشباب ويغريهم على التمرد والخروج على طاعتي ، وعلى إثارة الفوضى في قراكم . لهذا ، فقد قررت أن أقدمه لكم ، وأعاقبه أمامكم ليكون لكم عبرة يا أولي الألباب لعلكم تتعظون .
ثم يصمت قليلاً ، ويلكز جواده فيدور حول سعيد ، وسعيد يقف ثابت القلب ، مرفوع الرأس ، معتدل القامة في شموخ ، يقبض على عينيِّ العصفوري بنظراته الثاقبة التي لا تفارق وجهه . ويستنهض العصفوري صوته قائلاً :
- لعلكم تَوَدُّون سماع رأي هذا السعيد - استغفر الله- هذا التعيس الذي رمى نفسه بين يديَّ هاتين ، فإني أكفيكم ذلك .
وتحوَّل ببصره إلى سعيد ، وهو يصرخ بنزق شديد ، وبصوت يدوي في كل الأرجاء ينبئ عن غضب حارق :
- ماذا تقول يا ولد فيما اقترفتَ من آثام ؟.
وهنا ينهض سعيد غير هيَّاب ولا مضطرب ، فينبري قائلاً بصوت يعلو فيُسكِت كلَّ الأصوات في تلك الساحة الكبيرة :
- أنا لم أرتكب إثماً فأعاقب عليه .
بدا سعيد للناظرين طَوْدَاً لا يُقَاوَم ، وصخرة تتكسر عليها كل الجماجم مهما استغلظ عظمها ، ولكنَّ سعيداً بروحه الكفاحية خصم عنيد على الرغم مما بدا عليه من علامات الإعياء وآثار الضرب على وجهه وجسده ، وها هو قميصه قَد قُدَّ من قُبل ومن دُبر، ما يعطي دليلاً يقينياً أنه قد خاض معركة مع أناس أشاوس قد احترفوا القتال وإذلال الرجال . وكانت نظراته لا تبرح وجه العصفوري ولا تنزاح عن عينيه ،
تتحدى جبروت الجبابرة ، فيضطرب لها العصفوري ورجاله ، ويوقن مَن يراه أنَّ روح التحدي مازالت قوية لا تنثني، والعزيمة لا تنثلم ، بل تزيد مضاء كلما أمعن
العصفوري في غَيِّه ، وغلا في عنفه وقسوته .
ألهذا الحد من القوة والثبات كان سعيد جريئاً ؟. علام كان يعتمد ؟. هل كان اعتماده على أهل القرية ليسعفوه ويساندوه ويناصروه ؟. هل كان ينتظر قوة خارجية تسعى إليه فتدعمه وتدعم موقفه ؟. على أي شيء كان يراهن هذا الشاب ؟. إنه أكثر الناس علماً بأهل قريته الضعفاء وأهالي القرى المجاورة البسطاء . فها هو مكبل اليدين وفي موقف كسيف تُذَل له الرقاب وتنحني له الرءوس ، وتُعَفَّر بترابه الجباه . إنه في قبضة الطاغية وداخل سياج من الحرس الفوارس الذين لا يتورعون ولا يترددون في قتل النفس وإزهاق الروح بكلمة أو بتأشيرة من شيخهم العصفوري ، ولن تجد أحداً يجرؤ على أن يُقدِّم إليه عوناً إلا عويلاً وعواء . فماذا لو أنه هادن وطأطأ قليلاً لتمر العاصفة من فوق رأسه فيترك هذا الموقف الذي يقفه لإنسان آخر؟. ألم يسمع بالمثل المَغْرِبِي الذي ذاع على ألسنة الناس وتناقلته الأجيال " اِخْطَى راسي وقُصْ" ؟. أي : تَخَطَّى يا سيَّاف رأسي ، واقطع ما تشاء من الرءوس . ماذا يجني الناس من حصائد ألسنتهم ؟. وماذا جنى سعيد من كلامه الذي تناثر هنا وهناك ، يدعو إلى التمرد والخروج عن سُنَّة الذل والهوان ؟. ولكن جبروت العصفوري أقوى من أن يقاومه رجل مثل سعيد ، أو مجموعة من أهالي القرى الفقراء الضعفاء الجبناء . هل يقوى الكف على مجابهة المخرز؟ . فلماذا لم تقرأ يا سعيد درس الحياة قراءة واعية فاهمة ، بعيداً عن وهم المؤرخين وخيال الشعراء ونبوءات العرَّافين ؟ . فأين الحق وأين الباطل ؟ وأين صاحب كل منهما ؟ ولمن الغَلَبَة والنصر؟ . إنَّ الأيام قالت كلمتها : الأقوياء هم أصحاب الحق ، والأقوياء هم المنتصرون . إذن ، دَعْ عنك هذا الأمر يا سعيد ، وعش كما عاش أبوك وجدك ، وجد جدك . ولكنَّ سعيداً يأبى ويرد : بل " دَعْ عنك لومي فإنَّ لومك يغريني ، ويحثني على المكافحة والمنافحة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا "... تُرَى بأي النتائج ستنتهي هذه المجابهة...؟. وماذا سيفعل به العصفوري؟.
إنه لاشك طاغية ، ولأنه كذلك لا يجرؤ أحد على وصفه إلا " بشيخنا المنعم المتفضِّل
علينا بالأرزاق ".
ولقد تغلغل الخوف في أعماقهم ، فإذا لم يهلِكوا الخوف في صدورهم فلن يهلَك الطاغية ولن يزول ، بل هم الهالكون . فالظالم يستمد قوته من ضعف المحكومين وخوفهم وخورهم ، إذ ليس صعباً اقتلاع الحاكم الظالم إذا ما تحررت الرعية ، وخلعت عن نفسها الخوف ، ونزعت الضعف والخور من دواخلها ، واتحدتْ على قلب رجل واحد .
ويواصل العصفوري تحقيقه مع سعيد باستعلاء المالك الإقطاعي الذي يحيي ويميت :
- وماذا تصف مَنْ فعل فعلتك أيها التعيس ؟.
- وماذا فعلتُ حتى تأتي بي هكذا مغلول اليدين ، معصوب العينين؟.
- ألم تخترق سياجي ، وتطأ حماي ؟ . ألم تعث إفساداً في أرضي وزرعي؟.
وهنا ترتسم على وجه سعيد علائم السخرية ، ويقول هازئاً غير آبه لمقام العصفوري :
- أما زِلْتَ تَدَّعِي أيها الشيخ أنَّ الأرض التي وجدتَني فيها هي أرضك ؟!.
ويترفق العصفوري ، ويضغط على حروف كلماته الخارجة من فمه بغيظ شديد :
- أما زِلْتَ – أنتَ يا ولد - تَدَّعِي أنَّ الأرض التي كنتَ ترعى فيها غنماتك ؛ هي أرضك ؟.
- نعم ، بموجب " الطابو" وشهادة أبي مالك الأرض ، وشهادة مخاتير القرية وشيوخها وعجائزها ، وإذا لم تكتفِ بهؤلاء شهداء ، فاذهب واسأل أشجار الجميز والتوت والدُّوم تخبرك بالنبأ اليقين الذي نحن فيه مختلفون .
ويهزُّ العصفوري رأسه ويقول في تهكم ظاهر:
- أبوك !.
- نعم أبي !.
وجال سعيد بصره حتى استقر على كومة من شيوخ القرية من بينهم أبوه والشيخ
عبد السلام ، ومختار الحارة الشرقية وخطيب المسجد وغيرهم الكثير.
- ولكنَّ أباك قد باع لي الأرض ، وأنا صاحبها .
- هذا كذب ، هذا تزوير للحق التاريخي .
- اِخرسْ يا كلب !.
وصفقه بالسوط ، ولكنَّ سعيداً قد تجنب الضربة واستدرك العصفوري قوله ، وهو ينقل نظره إلى جموع الحاضرين ، وقد أخرج ورقة من جيبه ، ولوح بها قائلاً وهو يدور بها في كل اتجاه :
- لقد اشتريتُ الأرض من زيدان النمر، وهذا سند الملكية بإمضائه حين باع
وقبض الثمن، وقد شهد عليه وعلى صحة المبايعة رجال من أهل القرية
تعرفونهم وتعرفون مكانتهم فيكم . وأشار بيده إلى خطيب المسجد أن يتقدم
قائلاً :
- تفضَّل أيها الشيخ الإمام ! خذ سند المبايعة ، واقرأ على مسامع الحاضرين .
وتقدَّم الشيخ رجب على كُرْهٍ منه بخطوات متثاقلة ، وتناول الورقة وقرأ على مسامع الحضور نص المبايعة ببصمة الشيخ زيدان النمر، وبإمضاء الشهود وختم وتوقيع المختار على صحة ما جاء في هذا السند ، ثم طواها ، وأعادها للعصفوري الذي بادره بالسؤال :
- ما رأيك أيها الشيخ الإمام في صحة السند ؟.
- من حيث هو سند مبايعة فهو شرعي وسليم .
ثم نظر العصفوري إلى حيث يقف الشيخ زيدان وسأله :
- هل تنكر بصمتك يا زيدان النمر، وتدعي زيفها أو تزويرها ؟.
وهنا استرجع زيدان النمر صوت الساقي وهو يُحذِّره من الشَّرَك الذي نصبوه له ، فعلا صوته ، وفيه بُحَّة المبحوح الذي أخذ منه البكاء والحزن الدفين مأخذاً عظيماً :
- خَدَعْتَنِي يا عصفوري ، فأنا لا أقرأ ولا أكتب . ولكنْ ، حسبي الله ونِعْمَ
الوكيل !.
وهنا ثارت ثائرة سعيد ، فقال بصوت يجلجل في أجواز الفضاء :
- مَن السارق يا عصفوري ؟. ومَن الآثم أنا أم أنت ؟.
فنظر العصفوري إلى سعيد وقال بهدوء مصطنع :
- يبدو أنَّ أباك قد ألزمه الخجل ، فلم يُقِرَّ بالحقيقة ، وادَّعَى ما تَدَّعِيه أنت . ولكنَّ أباك جبان ، كما أنت جبان .
وصفقه بالسَّوْط فأصاب منه موجعاً ، ويرفع سعيد وجهه ، ويمرِّر بصره فيمرُّ على وجه يألفه ويثبِّت عليه نظره ، إنه وجه سلمى، فتتلاقى العيون وتتصافح القلوب ، فآنس منها قبساً من قوة تعينه على الثبات والتحدي . ولكنه سرعان ما يتحول عنها متجهاً إلى العصفوري ليقول له في كبرياء وشموخ :
- أنا لست جباناً... وأنت تعلم ذلك ، وحاشا أن يكون أبي كما وصفت ، وستعلم أيّنا الشجاع وأيّنا الجبان .
ويهوي السوط على جسد سعيد ، وسعيد ثابت لايزول ولا يميل ، ولا يئن ولايتأوه ، ولكنه يقول في تحدٍّ صارم :
- اضرب أو لا تضرب ، فلن استعطفك .
استثارت كلماته حفيظة العصفوري الذي طمس الغضب بصره وبصيرته ، فراح يضرب بالسوط بعصبية بالغة ضربات متلاحقة ، ويتأزم الموقف ، وصورة العصفوري بدأت تهتز، وهو لا يريد لها أن تهتز، فأخذ يكيل الضربات الموجعة لهذا الجسد المتعَب ، ولكنَّ سعيداً يتجنب ما يمكنه اجتنابه من هذه السياط التي تهوي متعاقبة متتابعة ، إذ لم يبقَ في جسده مكان لم يتجرَّح ولم يتقرَّح من لسعات السياط الحارقة . وبدا الإعياء على وجه سعيد ، وأخذ جسمه يترنح ، فدفع منظره بعض النسوة إلى الولولة ، وصفق الأكف بالأكف ، وقد سُمعت همهمات بعض الرجال تختلط بهمسات النساء ، ثم يتصاعد صوت متمرد يشبه الهتاف الجماعي " كفى يا عَصفوري... كفى " !.
ولم يحفل العصفوري بالأصوات التي تطالبه بالتوقف ، ولم يأبه لها ، ولعله لم
يسمع منها شيئاً لما هو واقع فيه من شدة الانفعال والغضب على هذا السعيد في هذا الموقف العصيب . ويتقدَّم العصفوري نحو سعيد بصدر جواده ، ولكنَّ سعيداً ألقى
نفسه بعيداً ، وتدحرج بحركة رشيقة استطاع من خلالها أن يتفادى قوائم الجواد الهائج كهيجان صاحبه ، فقد أوشكت تلك القوائم أن تطأ رأسه ، ولكنَّ العصفوري يلوي عنان جواده ويدهمه ، إلا أنَّ سعيداً انزاح عنه فنجا بأعجوبة .
- أيها الكلب !. سأعلمك كيف يكون أدب الحديث مع أسيادك .
- أدبني أبي ، فأحسن تأديبي...و...
وقاطعه العصفوري قائلاً بغيظ شديد :
- أيها الحقير!. تحرِّض الأولاد في القرية وتستثيرهم ضدي .
قال سعيد في شجاعة نادرة ، تمنَّتْ عليه قلوب الحاضرين أن يسكت حتى لا يستفزَّ العصفوري أكثر مما هو فيه من غيظ ، وحتى لا يصيبه العصفوري بمزيد من الإيلام :
- لماذا تُحقِّرني ، وتُصَغِّرني أيها الشيخ الظالم ؟ . أَلِأَني أدفع عن نفسي مظالمك ؟. أَلِأَني أدافع عن أرض الآباء والأجداد ؟. أَلِأَني أرفض سطوتك واستبدادك ؟. ألا تعلم أيها الشيخ أنَّ الجُبن والحقارة أن تُبقي عليَّ مقيداً هكذا ؟. ولكن هيهات أن أنِخَّ لك كالبعير مستسلماً !.
وهنا برقت عينا العصفوري ، وانقدح منهما شواظ من النار الحارق ، وانتفخ شدقاه شراً مستطيراً ، واستجمع كل ما لديه من احتياطي القوة ، فأخذ يضرب هذا الجسد ، ضربات سريعة دون توقف ، وحاول سعيد أن يتجنب كثيراً من ضربات هذا السوط الذي يلهب هذا الجسد شبه العاري . وقاوم سعيد ما استطاع إليه سبيلاً، وصمد بما كان لديه من قدرة على الصمود ، ولكنه استنفذ كل قوته ، فانهار تحت أعباء السوط ، وشعر بالإعياء ، فسقط مطروحاً على الأرض جثة يخالها الرائي أنها هامدة لا روح فيها ولا حِرَاك إلا ذلك النَّفَس الذي يضطرب به صدره . وهنا هجم العصفوري عليه بجواده وقد جَرَّد سيفه من غمده ، ولوَّح به في الهواء ، فتعالت الأصوات ، وتعالت
الولولات ، وصرخت العيون فنحرت ما بها من دموع ، وانحبست الآهات في الصدور، وأطلقت الفاجعة قدميِّ الشيخ زيدان ، فأسرع الخُطَى وهو يصيح :
- يا شيخ... لا تفعل... حد الله بينك وبينه .
ووقف أمام العصفوري رافعاً ذراعيه ، يحول بينه وبين ولده المُلْقَى على الأرض ،
وأخذ يرفع صوته ضارعاً متوسلاً تدفعه غريزة الأبوة :
- خذ الأرض ، وخذ ما تبقى لي من أرض ، وخذ الدار، وخذ كل ما أملك... لقاء أنْ تُبقي على ولدي حياً .
ويهتز صوت الشيخ زيدان ، ويقول ما بين المخافتة والجهر، بحيث يسمعه
العصفوري وحده :
- فأنا - كما تعلم – محزون ، فلا تُجَدِّد حزني .
ويتقدم فيمسك بعنان الجواد ، وهو ما زال يستصرخ العصفوري ويستشفعه في ابنه ؛ كسير الوجدان والخاطر:
- ارحم شيخوختي ، واترك ابني يعشْ !.
ولكنَّ العصفوري لم يأبه لتوسلات الشيخ زيدان ، ولم يلتفت إلى تضرعاته ، ولم تُؤَثِّر فيه استرحامات شيخ عجوز. بل لم يرحم شيخوخة هذا الأب المكدود الحزين الذي أنحفه العمر، وأضعفه الهم وحجم المسئولية . ويتقدم العصفوري ويقترب من الشيخ زيدان الذي ما زال يضرع متشفعاً لابنه عنده ، ويرفسه بقدمه فيصيب منه صدره فيلقيه أرضاً، ويصفعه بالسوط يلهب به جسده الذي أوهنه الزمن، فأثار ذلك المشهد غضب الشيخ عبد السلام ومختار الحارة الشرقية وخطيب المسجد ، فاندفع ثلاثتهم نحو الشيخ زيدان يلملمونه ، ويرفعونه عن الأرض ، ويحملون حطته وعقاله الذي أطاح بهما العصفوري على الأرض . ثم توجهوا نحو العصفوري غاضبين ، وقد أبدوا غضبهم حيث جاء على لسان الشيخ عبد السلام :
- ما كنا نأمل – أيها الشيخ – أن نعيش هذه الساعة فنرى كبراءنا يُهانون
ويُضربون أمام صغارنا. وما كنا نتوقع أن يُساموا الذل ويلحق بهم الهوان على
مرأى ومسمع من أهالي القرية رجالاً ونساء ، صِبْيَة وصَبايا .
فردَّ العصفوري بقسوة الجبابرة ؛ وهو ينظر إليهم وهم يسعفون الشيخ زيدان، ويهدئون من روعه ، ويسندونه بأيديهم :
- سأقضي على الأب والابن معاً بسيفي هذا .
- دعك من غريزة الانتقام ، والعن الشيطان الذي ينفخ في الصدور، واعفُ عنهما ، فالعفو من شيم الأكارم .
وهنا يعتدل العصفوري بقامته وهو على ظهر جواده ، ويرفع رأسه ويديه قائلاً في استعلاء وكبرياء :
- أيها الناس ، ألا تخشَوْن أن أخسف بكم وبداركم الأرض . فمن ذا الذي يشفع لكم عندي يومئذ ؟. أخبروني إن كنتم به عالمين ؟.
ويصيح به الشيخ عبد السلام :
- اهدأ يا شيخ فرحان ولا تندفع وراء الغضب المقيت .
- إنَّ في قتلهما هدأتي وهدوئي يا شيخ عبد السلام .
- إكراماً لنا نحن شيوخ القرية... اعفُ عنهما ، والعفو من شيم الأكرمين .
وهنا أغمد العصفوري سيفه ، وحسبها جيداً . فرأى أن يترك في نفوس شيوخ القرية أنه عفا عنهما إكراماً لهم ، وبذلك يُبقي على أكثر من شعرة واحدة من " شعرات معاوية " لتصله بهم ، وهم بهذا الوهم يحسبون له ألف حساب ، فتظاهر باللين حيث قال مخاطباً الحاضرين من خلال الشيخ عبد السلام :
- أستطيع أن أقتلهما الآن ، ولا يمنعني أحد ، وألقي جثتيهما في ذلك العراء لنهش الذئاب والكلاب . ولكنْ ، إكراماً لكم ، ورأفة بصغارهما وأهليهما ، سأتركهما هذه المرة ، وأتمنى عليكم جميعاً ألا تتكرر إثارة غضبي مرة أخرى من أحد منكم ، لأني سأكون مضطراً لإنفاذ حكمي ، ولن يُجدي معي توسلٌ أو شفاعة . فمَنْ يتولَّ منكم بعد اليوم ، أعذبه العذاب الأكبر.
وأمر رجاله أن يفكُّوا القيد من يدي سعيد ، فتركوه يتحسس جروح نفسه ، ويتفقد
قروح جسده . وأدار الشيخ العصفوري عنان جواده ، وقد تقاطر رجاله الأشِدَّاء ، وتناثر فرسانه البواسل حافِّينَ من حوله ، فيأخذونه أَخْذَ السِّوار للمعصم ، ويمشي به
الجواد مشية يرتضيها له صاحبه ؛ فيها زهو وخيلاء ، وفيها ترفع واستعلاء ، وقد تجسَّدت فيها معاني القوة والقسوة معاً . وينصرف العصفوري ، ويتبعه رجاله ويتبعهم
المختار أبو فوَّاز على ظهر حماره يخبُّ به كما تتخبط أفكاره في رأسه ، فتحين منه التفاتة إلى الوراء ، فيرى القوم وقد تربع الخوف على وجوههم ، وأعاد يدقق فيهم النظر، فرأى في عيونهم شواخص الاحتقار له ، وسمع ألسنتهم ترميه بأقذع النعوت ، وهم لا يعلمون كم هو حزين وغاضب مما جرى للشيخ زيدان ولابنه سعيد على يدي الشيخ العصفوري .
وعادوا إلى بيوتهم يجرُّون أذيال الحسرة ؛ يتجرَّعون كأس المرارة ، ويعصر قلوبهم شيء من الضعف والخوف ، وينهش صدورهم شيء من القهر والعسف . فقد تثاقلوا في الخطو ، خائري القوَى والعزيمة ، يسيرون في بطء وصمت يشبه صمت الجنازة ، وقد بدا عليهم الاضطراب والانكسار، وكأنَّ كل واحد منهم قد نكزته أفعى ، لا يدري كيف يسعف نفسه مما أصابها من ذل وهوان .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.