عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الريال يخطط للتعاقد مع مدرب مؤقت خلال مونديال الأندية    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    الحكومة تعبث ب 600 مليون دولار على كهرباء تعمل ل 6 ساعات في اليوم    "كاك بنك" وعالم الأعمال يوقعان مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري لدعم الشركات الناشئة    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    مئات الإصابات وأضرار واسعة جراء انفجار كبير في ميناء بجنوب إيران    برشلونة يفوز بالكلاسيكو الاسباني ويحافظ على صدارة الاكثر تتويجا    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    لتحرير صنعاء.. ليتقدم الصفوف أبناء مسئولي الرئاسة والمحافظين والوزراء وأصحاب رواتب الدولار    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الثاني بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 06 - 2013


2
جلس المختار أبو فوَّاز في ديوانه ، واتّكأ على حَشِيَّة من " القَصَل " ، وتراءت أصابع يده اليمنى تداعب حَبَّات مسبحته السوداء ، بينما اتخذ الساقي مقعده خلف " الكانون " يشعل النار استعداداً لصنع القهوة العربية .
لم يكن في الديوان سواهما إذ كان الوقت فجراً ، فأخذ يشاهد جحافل الظلام تنسحب من مواقعها أمام النهار الذي بدأ في إعادة انتشاره بضيائه الساحر، فبدا وجه القرية جميل الطلعة ، بينما لا يزال تحت غلالة رقيقة من إنارة الفجر بثغره الباسم المتوهج .
كان المختار مطرقاً ساهماً تتقاذفه أمواج يمخر عبابها مراكب التبرم والضيق ، ويعصرها شيء من الانكسار الذي لا يعلم مأتاه . وها هو يهز رأسه تارة ويرفع رأسه إلى أعلى تارة أخرى ، محملقاً في سقف ديوانه كأنه يقرأ أسطار كلام مستغلق عليه ، ويعود إلى إطراقة رأسه محاولاً أن يستجلي ذلك الأمر الغامض بالتذكر، فيجوس خلال ديار خياله ، لعله يقف على شيء يؤكد له سبب هذا الضيق ، وهذا السهوم الذي يغرق في أعماق بحره المالح .
كان الجو بارداً ، وكانت نسائمه تداعب الأجفان بحنان رقيق ، وكانت السكينة تلفُّ بدثارها جسد القرية التي ما زالت نائمة إلا من العاكفين على صلواتهم . وتتململ القرية ، وتهتز مساربها بالحركة الخفيفة التي لم تقوَ على تمزبق رداء السكون الذي يُغَلِّف أجواءها ، ولا يفضُّه إلا حمار ينهق أو ديك يصيح أو رضيع يبكي وهو يتحسس بيديه صدر أمه باحثاً عن ثديها يستجديه .
بدا المختار مطرقاً ، يفتش في لفائف ذاكرته عن أفكار قديمة يعج بها رأسه ، ويلج في حجرة التذكر، فتنبئه بما كان بينه وبين أهل القرية أمس ، وما أحدثه حديث سعيد من شرخ في نفسه ، حينها أخذ المختار يستعيد كل ما دار بينهما ، يسترجع كل كلمة ترددت على لسانيهما ، وبدا على وجهه طيف من الانفراج كلما راوده الإعجاب
بجرأة ذيَّاك الشاب اليافع ، مُغْتَبِطاً بما طرحه بقوة الحجة ، والثَّبَات دون خوف أو وجل ، على الرغم من قسوة الردود . فابتسم المختار واتسعت ابتسامته كأنه يلفُّ بها سعيداً ويحتضنه ، وأحس برغبة مُلِحَّة في استدعائه والتحدث إليه بعيداً عن عيون أهل القرية ومسامعهم ، لعله يتقرَّب إليه فيقرِّبه منه ويستميله إلى جانبه . ولِمَ لا ، وهو شاب ذكي جريء ، قوي العريكة ، وهو قبل هذا وذاك شاب خَطِر إذا تُرك دون تدجين ، وهو مُؤَهَّل ليلعب في عقول أهل القرية دَوْرَ المُحَرِّض والداعي إلى العصيان، لا سيما أنَّ الناس فيها قد اجتمعوا على الفقر والذل والحرمان والخوف وعدم الأمان. وفوق ذلك كله فإنَّ سعيداً وأترابه مُهيأون للتمرد والثورة على تعدد الآلهة .
اعتدل المختار في جلسته فجأة ، وبحركة عصبية لا شعورية وبصوت فيه نبرة الصياح ، نادى أحد أبنائه ، فأتاه مسرعاً وهمس إليه بكلمات انطلق الصبي على أثرها صوب دار الشيخ زيدان يحضُّ على حضور سعيد إليه في الديوان . وأخذ هو يُصَفِّف أفكاره التي يرى وجوب طرحها إذا وجب الأمر، فتنازعته مشاعر متباينة : فتارة يرى سعيداً مُحِقاً فيما قاله بالأمس ، وتارة يرى نفسه مُكْرَهاً على القسوة عليه لأنه مُكْرَه على تنفيذ الأوامر، وتارة أخرى يرى نفسه مترفعاً عن أهل القرية ، يباديهم بخليط من المشاعر المفعمة بالازدراء ، ويبادلونه بالكراهية ، لأنه قد رسم لنفسه طريقاً ، واختط لها منهاجاً من أجل أن يتربع على عرش القرية سيداً لها ، وزعيماً على أهلها بالمخترة التي ورثها عن أبيه ، وأقَرَّها القائمقام وباركها.
ولكنه يعلم – وقد يتجاهل- مقدار ما يضمره أهل القرية له من هذا الازدراء وذاك الكُرْه ، ويفسر ذلك بما يرضيه من تفاسير؛ أنهم يحسدونه ، وينفسون عليه هذا المنصب وهذا الجاه الذي يتوهمه ، وإنه لن يبلغ رضاهم إلا إذا أناب إليهم وألان لهم جانبه ، ووصل بهم وده . ولكنه لا يفعل إلا ما يصل بينه وبين القائمقام من التودد إليه ، وإلى جاويش الدَّرَك ، وإلى الملتزم الشيخ العصفوري الذي بيده أملاك أرض لا حصر لها ، وبيده القوة ، وهو وحده يكفيه شر الكارهين ، ويقيه من غوائل الأيام . فهذا العصفوري سيد من سادات العرب ، وزعيم قبيلة تحتكم إلى السيف والبارود في
مجابهة ما يستعصي من مشكلات ، وفي حل المُسْتَجَد من منازعات ، ولكن هل من التوسط في الحلول ؟. هذا ما طرحه المختار على نفسه ، فهو يتمنى أن يواسط بين رضا الحكومة وبين رضا أهل قريته ، على الرغم من أنه لا يستطيع أن يفعل لهم شيئاً يُحمد عليه لكونه مختاراً يمثل الحكومة في تنفيذ أوامرها دون إبطاء أو تأجيل ، وليس بيده أن يخفف عنهم ، أو يبدي رأياً يوافق الإرادة الكامنة في نفوسهم . فهل ينهض المختار في وجه الملتزم أو رجال الدَّرَك ، ويرفض أمراً يراه ظالماً ؟ . هل يتوقع أهل القرية من هذا المختار أن يتمرد على القانون الجائر الذي يرهق كواهل الفلاحين من أبناء القرية ؟ . هل في مقدور هذا المختار أن يستقيل القائمقام من المخترة ؛ فيعتزلها لأجل الوقوف إلى جانب أهل القرية وإنصافهم من الجور الواقع عليهم ؟ . الجواب : لا... ولا... ثم لا... إذن ستبقى الكراهية حاجزاً سميكاً بينه وبينهم ، يصعب عليهم اختراقه ، ويصعب عليه النفاذ فيهم . فهل يهون عليه ترك المخترة ؟ وهل يتركها لمنافسيه ؟ وهل يلقي نفسه على قارعة الطريق ليكون تابعاً بعد أن اعتاد أن يكون متبوعاً؟. كلا إنه لن يترك المخترة التي حققت له الكثير، وجلبت إليه المال الوفير والمنصب الكبير. إنه الآن واجهة القرية ، وقد طوى باقتداره مختار الحارة الشرقية وحجَّم دَوْرَه ، ثم إنَّ له معارف وعلاقات حميمة مع رجال الحكومة، وإنَّ أمواله لتزيد وأملاكه تتكاثر، أضف إلى كل هذا أنَّ القرية كلها تأتمر بأمره . فهل حصل على تلك المكاسب لأنه عامر درويش " أبو فوَّاز" ، أم لأنه المختار المُفَضَّل والمُقَرَّب من الحكومة التي يمثلها في القرية ؟. أليس هو يدها التي تبطش ولا ترحم ، وهو الساعد القوي للشيخ العصفوري مالك هذه القرية والقرى المجاورة بما فيها ومَنْ فيها ؟ . أَمِنَ العقل أن يخسر كل هذا الرصيد ، ويفقد كل هذه المنجزات لأجل التقرب من أهل القرية وكسب ودهم ورضاهم ومحبتهم ؟. فماذا يفيده ذلك ؟. وماذا سيجني من رضا قريته عليه ؟. إنَّ المخاتير في بلاد العرب مفروضون فرضاً على عشائرهم ، وإنهم ليعلمون ما يبادونهم من سخط وكراهية ، ومع ذلك هل رأيتَ أحداً منهم قد طلع يوماً
وقال: " يا قوم ، إني أترك عرش المخترة إرضاءً لكم وتحقيقاً لرغباتكم ، فلا أمضي
في طريق نبتت على جانبيها أشجار تلوح بالرفض الساخط ، وتصرخ كارهة بقائي وتسلطي ؟." كلا !... بل إنهم باقون على صدور عشائرهم كالجدار يقهرونهم ويذلونهم ويغرقونهم في الديون ، ويُلَوِّحُون لهم بالتجويع مرة ، وبالسجن مرة أخرى . والعَوَام ينهضون أحياناً بالهتاف لمخاتيرهم ، يلهجون بالثناء عليهم وبالمديح لهم في مساجدهم ومنتدياتهم داعين لهم بالبقاء، فلا حيلة للضعيف العاجز إلا الخضوع والركون إلى فرج يعتقدون أنه آتٍ في أقدام مشاريع وهمية ، صُمِّمَتْ لإلهائهم . وهذا ما فكَّر فيه المختار أبو فوَّاز إذ قال كمن يحدث نفسه : " وهذا ما سأفعله ، وسأخرج عليهم بمشاريع وهمية ، وسَأَعِدُهم بحل مشكلاتهم التي سأختلقها لهم ، حينها سينصرفون إلى أشياء يحلمون بها في ليلة صيف، وما أجمل الأحلام في ليالي الصيف وما أكذبها! ".
- السلام عليكم !.
نفض المختار رأسه طارداً أفكاره ، ورفع عينيه ينظر، فإذا سعيد يقف بالباب .
- وعليكم السلام . تفضَّل يا سعيد !.
نظر سعيد إلى المختار وقال بلهجة فيها شيء من الجفاف وهو ما زال واقفاً على عتبات الديوان لم يتقدَّم .
- أراك قد أرسلتَ في طلبي... خيراً إن شاء الله .
وحدَّق المختار في وجه سعيد ، وقال له وهو يرسم على شفتيه ابتسامة باهتة :
- تفضَّل ! اجلس ولا تقلق .
جلس سعيد وهو يحس شيئاً من الاضطراب وشيئاً من الغثيان ، وتساءل في نفسه: " تُرى ماذا حدث للمختار؟ . وما الذي دفع به ليستقدمني في مثل هذا البكور؟. لعله يريد أن يُنْزِلَ عليَّ غضبه ، فيهددني ويتوعدني بإحدى التهم انتقاماً مني على ما واجهتُه به من حديث الأمس في المقهَى على مرأى ومسمع من رواده . لقد خرجتُ من البيت تاركاً ورائي قلقاً وخوفاً عليَّ ، ولكن لا خوف ولا قلق ، لأنَّ المختار قد استدعاني بوساطة ولده لا بوساطة العسكر " .
تلفت سعيد حواليه ، ثم حَوَّل بصره عن وجه المختار، ثم عاد يختلس إليه النظر،
فإذا به يستدنيه بإشارة من يده ، ويبتسم له مرحباً به ، فيرى منه سعيد ما يطمئنه : " المختار لا ينوي لي شراً ، فلعله يريد أن يسترضيني ويقربني منه، وربما سيفاوضني. إذن ، كُنْ حذراً يا ولد ، واجذبه إليك قبل أن يتغلب عليك ". تنحنح المختار ورحب بضيفه ، ثم طلب له من الساقي فنجاناً من القهوة العربية السادة ، وارتشف سعيد قهوته ، بينما كانت الشمس تنهض من رقدتها وراء رءوس الجبال المتناثرة حول القرية ، فنثرت نسيجاً من الضوء أنار السفوح والوديان ، حتى بدت سنابل القمح والشعير لامعة صفراء كأنها مروج من ذهب يُغري المنجل باحتضانها ومعانقتها.
قال المختار متلطفاً :
- لقد أرسلتُ في طلبك لأتحدث إليك .
ابتلع سعيد ريقه ، وقبل أن يتحرك لسانه ، استرسل المختار قائلاً:
- لعلك تتساءل : ما الأمر؟ وسأعفيك من التخمين .
- لعله خير!.
- خير إن شاء الله ! . رأيتُ نفسي وحيداً هذا الصباح ، فأرسلتُ إليك حيث لا
جليسَ ثالث معنا .
قال سعيد بصوت متزن لا يخلو من ثقة صاحبه بنفسه :
- إذن ، فالأمر خطير.
- ليس إلى هذا الحد ، ولكنه حديث أبثه إليك ، وربما دفعني إليه شيء من
القلق قد علق في نفسي .
فابتسم سعيد ابتسامة فيها لون من أطياف الهُزْء ، وتساءل :
- أَوَ مِثلُكَ يا مختار يقلق ؟!.
- ولِمَ لا ، ألستُ إنساناً ؟.
تراجع سعيد ، وبسط يديه يعتذر عن سوء ظنه بالمختار:
- عفواً يا أبا فوَّاز، ما قصدتُ شيئاً يسيء إليك ، ولكني أعتقد أنَّ مثلك لا يقلق ،
فأنت في عيشة راضية : بلا هموم ولا ديون ولا مشكلات ، فمن أين يأتيك
القلق ؟.
- من الراحة ومن العيشة الراضية التي تتحدث عنها .
لوى سعيد شفتيه وقال :
- هذا شيء لا أفهمه .
- ستفهم ، ولكن لا تتعجل الأمور ، وأصغِ إليَّ .
- تفضَّل !.
وتهيأ سعيد لسماع المختار الذي قال :
- يا سعيد ! أنت شاب متعلم ، ابن مدارس ، محمود الخلق ، كريم ابن أكارم ، قد
انتقيتك من بين أترابك ، لأني أعرف أنَّ إنساناً مثلك أسرع للفهم ، وأدعى للتقدير
والاستجابة ، ولقد أعدتُ على نفسي كل ما دار بيننا من حديث الأمس ...
فقاطعه سعيد مخترقاً سريرته :
- وأثار حديثي غضبك عليَّ !.
- كلا يا سعيد ! ، بل جعلني انجذب إليك ، وكنتُ أتمنى أن تكون لي ولداً ، أو
يكون أحد أبنائي في فهمك وجرأتك وفصاحة لسانك .
- هل أنت راض حقاً عني يا أبا فوَّاز؟ .
- أراك لا تصدق إن قلتُ لك إنك بفصاحتك قد شققتَ صدري ، وسكنتَ بين
طيَّات نفسي ، وإني لشديد الإعجاب بصراحة قولك ، وإن كان ذلك مصحوباً
بشيء من النفور وعدم الرضا .
وقال سعيد بلهجة لا تخفَى على المختار بما تحمله من سخرية :
- وهل يحب المختار الجرأة والصراحة ؟.
- لا تسخر مني يا سعيد !.
- ولكن الصراحة تبدو قاسية ، والجرأة عند الآخرين تسمى وقاحة .
- قل ما تريد ، ولا تخشَ من شيء .
- قد يوجعك قولي ، فلا تستطيع معي صبراً .
- سأحتمل الوجع ، وستجدني إن شاء الله صابراً .
رفع سعيد عينيه وقال :
- كان الله في عون أولئك الذين لا يستطيعون الاستشفاء من موجعاتك يا مختار.
- تقصد : أهل القرية ، أنا لم أصبهم بشيء يثير أوجاعهم .
- وهل سلِمتْ دارٌ منكَ يا أبا فوَّاز؟.
- سعيد ، لا تُثْقل عليَّ بأحكامك المتسرعة .
- ألم أقل لك أنَّ الصراحة قاسية ، قد لا تطيق لها احتمالاً .
- ولكنك تتهمني وتحاكمني .
- هل تُنكر دورك المساند في استيلاء العصفوري على كثير من أراضي القرية بحجة تقصير أصحابها عن دفع الديون والالتزامات الضريبية ؟.
- العصفوري هو العصفوري ، لا يحتاج إلى مساندة مني أو من غيري في تنفيذ مآربه .
- هل تتنصل من العاهة التي استدامت في ظهر الشيخ علي حمدان ؟.
- أنا لم أضربه ، ولكنَّ العسكر ضربوه .
- أنتَ الذي أغريْتَ به عسكر الدَّرَك ، وتركته تحت العِصي الغليظة والسياط
اللاسعة . كما تركتَ زينب بنت عبد الهادي ، وهي ترفع يديها تتقي الضربات
عن رأسها وصدرها ، فيعلو صراخها تتوسل إليك لنجدتها وإعفائها من ديون
زوجها الذي لم يمضِ على وفاته سوى ثلاثة شهور، وكانت النتيجة انتزاع
الحاكورة من يدها . وهل تدفع عن نفسك تهمة الاستيلاء على الحجوزات
والرهونات لعدم سداد الديون المستحقة على كثير من الناس؟. هل تذكر
سليمان العطار وعمر الخطيب وسليم الحداد وتفاحة زوج إدريس السكران ؟.
أَنسيتَ فاطمة عِز الدين ؟ تلك الصَّبِيَّة التي أكرهتها على الزواج من أحد
أتباعك بلا رغبة فيه ، متوعداً أهلها إن اعترضوا ، فأرغمتَ وجه خاطبها الأول
التراب ليتركها ، فتركها وهو يدعو الله أن ينتقم له منكم ...
وصرخ المختار في وجه سعيد وهو بادي الانزعاج ، عندما التفت ذات اليمين وذات الشمال فرأى ديوانه يعج بالحاضرين الذين توافدوا عليه ، فقال كأنه يضع حداً
لهذ االحوار:
- كفى يا سعيد !... كفى!... إنك لحاقد ، وإنَّ مثلك لخطر وأي خطر!.
- لستُ وحدي كما تصف يا مختار.
- وهل غيرك كثير ممن يضمرون لي ما تضمره من أحقاد وكراهية ؟.
- لقد أسأتَ يا مختار إلى كثير من أهل القرية .
فيحتد المختار ويشير حواليه قائلاً :
- ها هم أهل القرية ، فليقولوا قولك إن كنتَ من الصادقين في دعواك ، ولكنك مدفوع .
- دافعي أن ترجع إلى الحق وتستقيم .
- وهل أنا أعوج يا ولد ؟.
- لقد أجرمتَ في حق نفسك ، وفي حق أهلك .
- أنا ؟!.
- ترهقنا وتعادينا ، وتخطب ودَّ القائمقام .
- أنا ؟!.
- لأجل أن يمنحك " ورقة عفارم " .
- أنا ؟!.
- تخذلنا ، وتنصر العصفوري علينا لأجل حفنة من الليرات .
- أنا ؟!.
- تنتزع الأراضي ، وتضمها إلى أملاك العصفوري .
- أنا ؟!.
- اتقِ الله يا مختار!... فما ذكرتُ إلا القليل ، وما أكثر الباقيات السيئات ! وما أكثر العيون التي نحرتها ، فأجريتَ دمعها، وجرَّدتَ أصحابها ، وحرمتهم من
خيرٍ ورثوه ، فأصبحوا أُجَرَاء فقراء مُعْدَمِين .
- أنا لم أَحْرِم أحداً من شيء يملكه .
- والمال الذي استنزفته من عرقهم ودمائهم ؟!.
- المال للدولة وليس لي يا ناس .
- ولكنْ ، لك نسبة إضافية ، تضيفها من عندك ، هذا عدا ما ينفحك به العصفوري من " بقشيش " و " سمسرة " .
- هي أتعابي التي خولها لي القانون كوني مختاراً ، ثم هي مصالح ، وهي منافع نتبادلها ، فما دخلك أنت ؟!.
- يا سبحان الله ! وهل تقبل أتعاباً على تجويع الناس وتدعي أنها مصالح ومنافع ؟.
- لا تلمني يا سعيد ، نعم إنها مصلحتي ، فعلاقات الدول فيما بينها تقوم على المصالح المتبادلة ، والحُكَّام دائماً يتحايلون بشتى السبل لجمع الثروة درءاً من غدر الزمان بهم ، مع أني لا أُهرِّب أموالي إلى خارج حدود قريتي . فهيا قُوموا بانقلاب عليَّ وخذوا كل شيء ، حينها ستتقاسمون الغنائم والأسلاب فيما بينكم وتنسون أهليكم .
ضحك سعيد ، فأزعجت ضحكته المختار الذي قال :
- علام تضحك هكذا ؟.
- يضحكني أنك تدافع عمَّن سرق القرية وجارَ على أهلها ، أفترضَى أن تكون مثلهم فتقتدي بهم وتقتفي أثرهم ؟.
طأطأ المختار رأسه قليلاً ، وتناول مسبحته يداعب حباتها بشيء من الذهول والشرود ، وانعقدت على شفتيه زُرْقَة تؤكد عجزه أمام مُحَدِّثه ، فهو يعلم أنَّ أهل القرية
يحفظون عليه سيئاته ، وليتهم يحفظون له حسناته ، وبمقدوره أن يمد لهم يد النجاة ، إذ مازال في الكأس بقية من رمق يعيد الحياة لمن هو على مشارف الهلاك .
وهَمَّ سعيد بمواصلة الحديث ، ولكنه أمسك عندما اقترب منه الساقي وصبَّ له
القهوة ، وحينما علت في أجواء الديوان همهمات لا يبين منها شيء ، فمَنْ ينظر إلى وجوه أصحابها يعلم أنَّ بعضهم يناصر المختار وينافح عنه حَمِيَّة وعصبيَّة ، وأنَّ
أكثرهم يؤيد سعيداً فيما سمعوه منه ، وينظرون إلى المختار بشيء من الأسف ، يودون أن يتخلى عن مواقفه وأدواره في حق أهل القرية ؛ تلك التي عاصروها أو التي لم يحضروها لحداثة سنهم . وكلما كانت تتلاقى عيون الحاضرين بعيني سعيد، كان يرى فيها الرضا والتأييد ، ويسمع كلمات الاستحسان تحثه على المزيد ، وسكنت الحركة إلا من همس هنا وهمهمة هناك .
قال سعيد وقد تغيرت نبرة صوته :
- هل سمعتَ آخر الأخبار يا مختار؟.
هَزَّ المختار رأسه بالنفي دون أن ينظر إلى محدثه ، وهو ما زال متكئاً على مرفقه الأيسر، ويده اليمنى تعبث بحبات مسبحته بشيء من العصبية والاضطراب .
- لقد أعلنت الدولة العثمانية الدستور.
اعتدل المختار في جلسته ورفع حاجبيه ، وتوقفت يده عن اللعب بحبات المسبحة ، ونظر مذهولاً وكأنه يطلب المزيد من الإيضاح .
- نعم ! وستعطينا الاستقلال .
- من قال لك هذا ؟.
- قرأناه في الصحيفة... أمس .
- خبر سار حقاً ، ولكنه كلام جرايد .
- أفلا تحسب لهذا اليوم حساباً ؟.
احتد المختار وكاد يطرد سعيداً ، ولكنه امتلك نفسه عند الغضب حتى لا يظهر
مهزوماً أمام الحاضرين .
- ماذا تقصد يا سعيد ؟!.
- ماذا سيكون مصير أولئك الذين تخلوا عن البلاد ، وقهروا أهلها ؟.
- ماذا سيكون مصيري ؟ أليس كذلك ؟... أراك تتهمني ، وكأني بِعْتُ المسجد
الأقصى للغرباء ؟!.
- ألا تعتقد أنه سيأتي يوم يُحاسب فيه الإنسان على كل خطيئة ارتكبها ، وسيكون العقاب بحجم الخطأ ... ؟.
فتح المختار عينيه دَهِشَاً ، واتسعت حدقتاه ، ولمع فيهما بريق خاطف سرعان
ما ذاب واختفى ، وما هي إلا لحظة حتى اضْيَقَّتْ عيناه ، وانطفأ السراج الوهّاج الذي كان منيراً منذ قليل ، وقال بشيء من العناد وعدم الاستسلام المُبَطَّن بالسخرية .
- إذا ...
- إذا ... ماذا يا مختار؟ .
- إذا تحقق شيء مما قرأت ، وأعطتكم الدولة الاستقلال .
- وهل تشك في ذلك ؟.
- الشك موجود وقائم .
- ومن أين يأتيك الشك يا مختار؟.
- ومن أين يأتيك اليقين يا سعيد ؟.
- يقيني أنها إرادة أمة ، وثمرة كفاحها الطويل .
- الاستقلال لا يُعطَى ولا يُوهَب ، بل يُؤخَذ عنوة واقتداراً .
- أنت تقول حقاً ، ولكني ظننتك قد سُرِرتَ بالخبر، فإذا به يزعجك ، ويُدْخِل الرعب في قلبك .
- وهل تعتقد أنَّ أحداً يعضُّ يده بأسنانه ؟.
- صدقتَ .
توقف سعيد لحظة ، ثم استأنف قائلاً :
- وكيف تنظر إلى الدستور؟.
- تهدئة خواطر كالعادة ، وتاريخ بلادنا يقرُّ رأيي .
- إذن ، دعني أنصرف فقد تركتُ ورائي خوفاً عليَّ قائماً .
ابتسم المختار ابتسامة تفصح عن مكر قادم .
- ما زلتُ أرغب في الحديث إليك ، وأنا أعلم أنك تجفوني .
- يا مختار أنت لستَ لي عدواً ، وبيدك أن تكون لي أباً وصديقاً .
- أتعرف يا سعيد...؟.
- أسمعك .
- لقد عنَّفتني كثيراً ، سامحك الله ، ومع هذا فإني أستعذب حديثك ، فلا تحرمني منه ، وكن عوناً لي أجزل لك العطاء .
- يا مختار ، ابحث عن غيري يعينك على أهل قريته ، فأنا لا أكون لك حليفاً أنصرك على أهلي ، ولا أكون تابعاً لتابع أسايره في تخريب قريتي .
- لا تظن بي الظنون يا سعيد ، بل أريدك أن تتردد على ديواني ، علَّني أسترشد برأيك في أمر يفجؤني .
نهض سعيد ، واستأذن للإنصراف ، فودعه المختار وشيعه الحاضرون بأحلى الكلام وبأجمل الابتسام ، ملوحين بأيديهم تعبيراً عن قواسم مشتركة أنبتها الحوار الذي دار بينه وبين المختار.
وتساءل سعيد فيما هو في طريق عودته إلى داره : تُرَى هل أراد المختار أن يسبر غَوْرَه ليعرف كنه المشاعر التي يُكنُّها تجاهه ؟. وهل أراد المختار أن يستميله إلى صفه فيكون له تُرساً يدرأ به عن نفسه عنف الغاضبين منه وسخط الساخطين عليه؟. وهل كان المختار على هذا القدر من الذكاء بحيث استدرجه في الكلام ليقف على حقيقة أفكاره ومدى الخطر الذي يصدر عنه ، ومدى العداوة التي يكنها له وللدَّرَك وللشيخ العصفوري ؟. وهل سيتركه المختار إذا اكتشف خطره ، أم أنه سينصب له الأفخاخ حتى يقع ، ثم يسلِّمه إلى أيدي الدَّرَك ليكيلوا له الصاع صاعين ، وإن شاء فثلاث ؟.
إنها أشباح مخيفة رسمتها هذه التساؤلات وهو ما زال يخطو ويمد في خطوه سراعاً ليصل إلى داره . وأخذ يُردِّد في نفسه قول الله سبحانه : " قل لن يصيبنا إلا ما
كتب الله لنا ". فالرب واحد والعمر واحد .
فتح برفق باب الدار وما إن ولجت قدماه وأطل رأسه حتى فوجئ بوالديه وإخوته
يتلقونه متلهفين ، ترتسم على وجوههم علائم الهلع والاضطراب ، فطافت الكلمات ترتجف على شفاههم تسأل وتستفسر، فأقبل عليهم سعيد وهو يرسم على وجهه وشفتيه ابتسامة باهتة ، تحاول أن تفرَّ من مكانها ، وانبرى متسائلاً :
- ما بالكم وكأنكم ترقبون شراً مستطيراً ؟.
فاستجمع الأب قوته ، وانتزع الكلمات من جوفه انتزاعاً :
- ماذا يريد المختار منك ؟.
فردَّ بلهجة مُطَمْئِنَة :
- لا شيء يزعج .
فأعاد الأب سؤاله بشيء من عدم الاقتناع ، ومن عدم الرضا :
- لا شيء ؟! وهل يخفى علينا هذا الهم الذي يفترش قسمات وجهك يا سعيد؟.
يضحك سعيد ، وربما تضاحك وهو يقول :
- صدقني يا أبي ، ليس هناك شيء يُخشَى منه ، فلا تضطربوا هكذا !.
فتقدمت أمه تستعطفه وتتوسل إليه :
- أَخْبِرْ أباك يا ولدي ، ولا تكتم عنه سراً حتى يمكنه أن يتدبر الصَّدْع قبل
استفحاله .
- لاعليكِ ياأمي ! اطمئني ولا تجزعي ، فقد أعود إلى ديوان المختار إذا لزم الأمر.
يشهق الأب شهقة خفيفة تحمل من جوفه ذلك الإشفاق الأبوي . وقال معاتباً بصوت محزون :
- ماذا تقول يا سعيد ؟. أرضيتَ لنفسك أن تكون أحد أتباعه ومناصريه على أهل قريتك ؟.
- معاذ الله يا والدي ! أنا ابنك... تربيتك ، ولن أضع يدي في يد ملوَّثة ، ولن
أخون أهلي وقريتي .
- إذن ، لماذا أرسل في طلبك ؟.
- تحدثنا في هموم القرية ، وبخاصة عن زيادة الضرائب وإمكانية إسقاطها عن أهل القرية في المواسم القادمة .
- وماذا عن موسم الحصاد الحالي ؟.
- لا بد من إنفاذ الأوامر.
- لا يخدعنَّك كلامه ، واحذر مكره .
يبتسم سعيد لوالديه ويرد قائلاً :
- لا تُوصِيا حريصاً .
يرفع الوالد يديه متضرعاً إلى الله سبحانه :
- كان الله في عوننا !.
وترفع الأم يديها وعينيها إلى السماء :
- يا رب ليس لنا غيرك... يا رحيم... ارحمنا !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.