استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    مليار دولار التكلفة الأمريكية لإحباط هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    الحكومة تطالب بتحرك دولي لوقف تجنيد الحوثي للأطفال تحت غطاء المراكز الصيفية    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    الدوري الاوروبي ... ميلان وليفربول يودعان البطولة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    "طاووس الجنان" و"خادمة صاحب الزمان"...دعوة زفاف لعائلة حوثية تُثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مافيها(صورة)    "ابتزاز سياسي واقتصادي للشرعية"...خبير اقتصادي يكشف سبب طباعة الحوثيين للعملات المزيفة    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    إصابة 3 أطفال بانفجار مقذوف شمالي الضالع    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الثالث بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 24 - 12 - 2013


3
توارى الخوف وانزوى الاستحياء من نفس " سلمى " ، تلك الصَّبِيَّة التي ابتدرت أبويها بمخالفتهما رأياً كانا ماضيين لتنفيذه ، ولم تجد حرجاً في بسط رأيها وطرح ما لديها من أسباب دفعتها لمثل هذه الوقفة الجريئة , وقد بدا منها ذلك وكأنه تمرد على القوانين الاجتماعية التي تحكم وتتحكم في المجتمع الأسري على مختلف الطبقات من ريف وحضر وبادية .
ولكنَّ سلمى ليست عَصِيَّة ، ولا هي عاصية ، وهي لا ترضَى لنفسها أن تكون كذلك . وإنما هي من النوع البشري الذي يرفض تلك القيود والأغلال التي تفرزها تلك العادات والتقاليد المتوارثة . فهي تأبى أن تتزوج من رجل لا ترغب فيه ، وترفض أن تكون سلعة تُسام من صاحبها بثمن بخس ، وينتهي الفصال بين الشاري والمشتري على كلمة " يفتح الله " ثم يفترقان ، والسلعة ما زالت معروضة للفرجة لعلها تغري من يكون له فيها نصيب . إذن هي ترفض أن تكون تلك السلعة دون أن يكون لها رأي أو رغبة في هذا النصيب القادم الذي يرشحه قلبها ويصوِّت له عقلها ، ولا غرو في ذلك ، فسلمى شابة ناضجة ، تحسن إعمال الفكر، وتثق بنفسها من غير غرور ولا تكبر ولا استعلاء ، ولِمَ تغتر ؟ ولِمَ تستعلي وهي تعلم أنها ليست أجمل الفتيات في القرية ؟. وكيف لها أن تشيح وجهها تكبراً ، وهي تعلم أنها من منبت فلَّاحي ريفي : تعزق الأرض بفأسها ، وتحصد الزرع بمنجلها ، وتحلب البقر والأغنام ، وتملأ الجرار بالماء من البئر، وتفترش الحصير، وتتوسد وسادة محشوة بالقَصَل والقش ؟. وكيف تتعالى ، وهي الفلاحة التي تبيت على الطَّوَى إذا أعوزها الطعام ، وإن وجدته فإنه لا يزيد عن حبات من الزيتون ، وقليل من الزيت والزعتر، ورغيف خبز أسمر يابس يجرح المريء ؟.
إذن ، ليست المسألة كما يحلو للخيال أن يبتدع عنها المُبْتَدَعات ، وينسج حولها الأساطير، إنما هي إحدى عشرات الفتيات ، بل هي أوسطهن حسباً ونسباً وثراء
وجَمالاً ، ولكنها تفوق أكثرهن حكمة وذكاء وحسن بيان ؛ فإذا تحدثتْ فإن لسانها يفصح عن اتزان صاحبته ، ويَبِين عن فطانة يشهد لها مَنْ يعاشرها ، وإذا نظر إليها الناظر فإنه يحار في سر انجذابه إليها ، وإغرائها له ، إذ كل ما فيها يُغري : فهي معتدلة القامة ، لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة ، ذات وجه وضَّاح يميل إلى لون الحنطة ، وعيناها واسعتان تُشعَّان حيرة الشباب ، وتبرقان بما يُعْجَب له الرائي فيطيل فيهما النظر والتأمل ، محاطتان بأهداب سوداء طويلة دائمة الاختلاج ، ولها شفتان رقيقتان قرمزيتان ، كلما انفرجتا بان عنهما عقدان من اللؤلؤ المكنون ، تتراص حباتهما في نظام دقيق ، كل ذلك في إطار من شعرها الكستنائي المتهدل على كتفيها، يتحفز للطيران مع النسمات الرقيقة . ولكنَّ أجمل ما في الأجمل هو عذوبة صوتها الذي لا يمل السامع سماعه ، فهي إن نطقت غَنَّت ، وإن همست ترنمت . وخلاصة القول : هي جميلة حين تبدو فرحة راضية ، وهي كذلك أيضاً حين تبدو حزينة غضبَى .
دخلت سلمى على أبويها ذات مساء بعد أن أعدَّت لهما إبريقاً من الشاي ، وجلست قبالتهما تَصُبُّه في الأكواب . وبينما هي كذلك أخذ الأبوان يتغامزان ويتلاكزان خِفْيَة عن ناظريها ، ويتبادلان النظرات المُبْهَمَة ، فيتطلع كل منهما إلى ذلك الأمل الذي يكمن في صدر كل أب ، وفي حنايا كل أم ، عندما تصل ابنتهما إلى هذه السن التي تجيز لها الزواج .
أخذ الأب يصدر حركة بعينيه ورأسه لزوجه أن تبدأ الحديث ، والأم تشير إلى زوجها بطرف يديها أن يبدأ هو، والفتاة غافلة لاهية بما بين يديها من إبريق وأكواب ، فرفعت رأسها تقدم الصينية قائلة :
- تفضَّلا الشاي !.
وفجأة رأتهما يتغامزان بإشارات مُبْهَمَة ، فابتسمتْ حين أمسكا عن ذلك، وما أجمل تلك الابتسامة ، وما أرق تلك الشفاه التي انفرجت متوردة تحت ضوء المصباح الزيتي الخافت الذي يترنح ضوؤه تحت هبات النسيم العليل في ذلك الموسم الصيفي الحار. وابتدرت أبَوَيْهَا قائلة بصوت حالم حنون ، وما زالت ابتسامتها تتربع على
شفتيها اللتين تلامسان طرف الكأس الزجاجي .
- ما الأمر؟!.
ردَّ كلاهما في تزامن واحد بنبرة تنفي تهمة :
- لا شيء !.
- ولكني رأيتُ شيئاً .
وجم الأبوان ، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، وكأنه يحثه على الدفاع عن نفسيهما ، وهزت سلمى رأسها وقد اتسعت ابتسامتها فأحاطت بها أبويها ، وقالت :
- إني أراكما وقد صفا الودُّ بينكما إلى حد قد يكون وجودي بينكما غيرَ مرغوب فيه .
ابتسمت الأم وقالت :
- لا يا سلمى... لا يا ابنتي... إنَّ وجودك بيننا يؤنسنا ويسعدنا .
اتسعت ابتسامة سلمى أكثر، وقَرَّبَتْ حافة الكأس من شفتيها وقالت :
- ولكنَّ الذي رأيتُ ينبئ برأي يخالف ما سمعتُ يا أماه .
- إنَّ ما رأيتِ يا ابنتي يُنْبِئ عن فرح غامر، يتلجلج في صدري ، وفي صدر
أبيك .
وهنا تشجع الأب وقال لابنته وفي عينيه بريق الفرح ، وعلى شفتيه ملامح الحذر:
- إنا لنعهد فيك مخايل الذكاء واللِّماح ، فأين أنتِ من ذلك ؟!.
قالت سلمى وقد بهتت ابتسامتها وتضاءلت شفتاها .
- لقد فهمتُ ، وما علمتُ .
قالت الأم وقد انفرجت أسارير وجهها :
- حَسْبُنا فهمك يا ابنتي .
وردَّت سلمى دون تردد :
- ليس كافياً .
- وماذا يكفيك ؟.
- الصِّراح لا اللِّماح .
قال الأب وقد تغيَّر لون وجهه ، أو هكذا بدا لزوجه وهي تنظر إليه :
- أنتِ يا سلمى فتاة أعيتها المطالب ، فأعْيَتْ أبويها .
- كلا يا أبتِ !... ولكني أبحث عن حياة هادئة وادعة لا تزعجها الزوابع ، مطمئنة لا تكلحها الأنواء .
- كل شيء بقضاء .
- والقضاء له حدٌّ ومضاء .
- نعم يا ابنتي ! هذا صحيح .
وتدخلت الأم التي قالت بلسان يتلعثم ، بينما عيناها لا تستقران على وجه حتى تنقلهما إلى الآخر.
- لم أفهم ، إلى أين انتهيتما ؟.
قال الأب بانفعال ظاهر:
- وهل نحن بدأنا حتى ننتهي يا جليلة ؟!.
ضحكت سلمى ، وكادت تشرق وهي ترشف من كأسها ، فاضطر الأب أن يستبدل بتكشيرته ضحكة هادئة ، الشيء الذي دفع الأم إلى مسايرتها حيث قالت :
- أتعيب عليَّ يا أبا يوسف لأني لم أستوعب أحاجيكما ؟.
- لا تخطئي الفهم يا جليلة ، نحن لم نبدأ بعد... ابدئي أنتِ وتوكلي على الله .
ابتسمت الأم ، وقالت لابنتها وهي ما تزال شفتاها تحتضنان ما تبقى من ابتسامته :
- سلمى !.
- نعم !.
- لقد تقدم لخطبتك عدد من شباب القرية والقرى المحيطة بقريتنا ، وكنتِ ترفضين ما نطرحه عليك من رأي ومشورة ، وترفضين الخاطبين ، واليوم - يا ابنتي¬¬– ليس كالأمس ، وقد يكون فهمك للزواج قد استوى ، ونظرتك
للحياة الزوجية قد نضجت أكثر.
لَوَت سلمى شفتيها ، وقد أطرقت ولم تتكلم ، وتركت أمها تكمل حديثها ، بينما أخذ الأب يراقب كلتيهما ، يستقرئ وجه ابنته بما يطرأ عليه من تغيُّرات ، لعلها تومض ببارقة تدل على القبول والاستحسان ، لا الصدِّ والرفض مثل سوابقها .
قالت الأم وقد استطردت في حديثها :
- لقد تحدث الحاج زيدان إلى أبيك راغباً في خطبتك لابنه سعيد ، وكانت أمه قد تحدثت إليَّ بهذا الأمر من قبل ، فماذا تقولين ؟.
- فيم ؟.
- في سعيد .
- وهل تحدث سعيد في هذا الأمر؟.
- لقد تحدثت أمه وأبوه أيضاً ، وكلاهما يحثنا على الرد .
- إذن ، لن أبدي رأياً في إنسان لم يتحدث هو نفسه في أمري .
- ولكنَّ أباه وكيله ، وأمه لسان حاله .
قالت سلمى بما يدل على عدم الرضا :
- كما أبي وكيلي ، وكما أنتِ لسان رغبتي .
- وماذا يعيبه في ذلك ؟ وقد درجت العادة أن يتحدث في مثل هذه الأمور الآباء والأمهات لا الأبناء أو البنات .
قال الأب الذي ظل صامتاً لوقت ليس قصيراً بنبرة استعطاف مغلَّفة بالضيق .
- بالله عليك يا ابنتي ، لا تضعي حجراً في مسيل الماء .
قالت سلمى وهي تلجُّ في عنادها :
- الطلب مرفوض .
- لا تتسرعي ، فكلنا يعلم من هو سعيد ، ذلك الشاب العاقل المتزن المتعلم ،
وهو زينة شباب القرية . وأنتِ تعرفين ذلك ، ولا أراكِ تجهلين حَسَبَه ونَسَبَه وأصالته ، وقد اختارك دون الأخريات من بنات القرية .
قالت سلمى بشيء من النفور والحدة :
- إنه لم يكن اختياره ، وإنما هو اختيار والديه... أليس كذلك ؟.
- لم يفاتحني الأب إلا بعد موافقة ابنه .
وهنا أضافت الأم قولها :
- لقد نقلتْ إليَّ أمه إجماعهم عليكِ يا ابنتي... صدقيني .
قالت سلمى بصوت خافت وكأنه مسافر قد أعياه السفر في ليل ليس له آخر:
- وربما لا يعلم سعيد من علم أبويه شيئاً .
حملق كلاهما في ابنتهما وهي ما زالت تقول :
- وقد يكون لسعيد رأي يخالف رأي أبويه عندما يعلم بالأمر. حينها يكون الموقف محزناً لي ومحرجاً لكم .
نظر الأب إلى زوجه جليلة ، وهَزَّ رأسه هزة تزامنت مع هزة رأس زوجه ، وفغر كل منهما فاه ، فأسكتتهما سلمى لحظات ، حتى إذا ما أفاقا من صدمتهما قالت الأم :
- هل تشترطين أن يُبدي سعيد رغبته لأبيك حتى تكوني مطمئنة .
- أنا لا أضع شروطاً على أحد .
- إذن ، ماذا سيكون رد أبيك غداً للحاج زيدان النمر؟.
قالت ببساطة دون أن تكترث :
- الرد موفور.
- ما هو ؟.
- كما قال لي أبي منذ قليل : كل شيء بقضاء .
قال الأب وفي صوته نبرة استعطاف ورجاء :
- يا ابنتي ، برضائي عنك ، لا ترفضي هذه الزيجة ، فإني أراها كما تراها
أمك ، مناسبة لك وملائمة لنا .
ويتوجه إلى زوجه متسائلاً :
- أليس كذلك يا جليلة ؟.
ردَّت الأم على عجل وهي تنظر إلى ابنتها :
- بلى يا أبا يوسف !.
- قوليها الليلة أنك موافقة ، وغداً يأتي سعيد إلى بيتنا بصحبة أبويه وتسمعينه يطلبك بلسان ذي أربع شعب .
ابتسمت سلمى لقول أبيها ولم تعلِّق . فألحت أمها قائلة :
- أريحينا يا ابنتي ، ولا تُغضبي أباك .
- ولِمَ الغضب ؟. فهل أسأتُ حتى يُستثار عليَّ غضبكما ، أم أنكما تريان أني تجاوزت حدودي في إبداء رأيي ؟. ثم بإمكانك يا والدي أن تتخذ قرارك دون الرجوع إليَّ ، ولك مني السمع والطاعة ، فأنا ابنتك .
قال الأب في حسرة وارفة الظلال :
- يا ابنتي ليس هناك تجاوز في حديثك ، ولكنْ ما يحزنني هو انحباس الثقة بيننا ، وإنه لأهون عليَّ ...
فقاطعته سلمى قائلة :
- كلا يا أبتِ !...أرحْ نفسَك ، فالثقة نبتة يانعة قد أزهرت ثم أثمرت وقد حان قطافها ، وما كان قولي إلا استبياناً للرأي ، خوفاً من إكراهي على قبول ما لا أقبل .
- اطمئني ولا تقلقي ، وأَعِدُكِ بأني لا أُكْرِهُكِ على فعل لا ترغبين فيه ولا ترضين عنه .
نظرت الأم إلى وجه زوجها بشيء من الإشفاق ، وقالت :
- ماذا سيكون ردك على الشيخ زيدان غداً ؟.
- سأطلب منه مزيداً من الوقت للتشاور واستبيان الآراء ، ولن يكون ردي إلا بما ترضَى عنه سلمى .
ابتسمت سلمى مرة أخرى ، وقالت :
- بارك الله فيكَ يا أبتِ !.
ثم سألَتْها أمها قائلة بنبرة فيها خشونة تنم عن تبرمها من موقف ابنتها :
- وأنتِ يا سلمى ، ماذا يكون عليه ردك إذا جاءنا سعيد وكان في دارنا هنا ؟.
قالت سلمى وهي ترفع بين يديها صينية الشاي :
- لكل حادث حديث .
- هل أفهم من ذلك شيئاً يغري بالتفاؤل ؟.
- كل شيء بقضاء .
وَجَم الأبوان ، واستدارت سلمى قائلة :
- تصبحان بخير.
خرجت سلمى إلى مخدعها في حجرة مجاورة ، بينما أخذ الحاج حسين أبو النور ينظر إلى زوجه جليلة نظرات متسائلة فيها إبهام وفيها غموض ، ولوى كل منهما شفتيه وأمال رأسه على وسادته وأغمض عينيه تحت تأثير الوجوم الذي رفرف في أجواء الحجرة ، وكلاهما نام ولم ينم...
* * * * *
استيقظ المختار أبو فوَّاز من نومه مبكراً ، عابس الفكر مشتت التفكير، يخالطه شعور غريب لا يعرف مأتاه ، ولا يَقرُّ على تفسيره ، وكلما أصغى إلى صوت ذاكرته أحسَّ شيئاً من الامتعاض يتلوى في داخله كثعبان أليف لَيِّن الحركة . وكلما أوغل في أعماق نفسه للوصول إلى منابع تلك الأحاسيس ، لم يعثر على شيء محدد المعالم . فمَنْ يا ترى يجلو له أسباب هذا التوجس وهذا التبعثر في التفكير؟. إنه لم يتشاجر بالأمس مع أحد ، ولم تُنَغِّص عليه زوجه التي طالما تردد على مسامعه مواويل شكواها وطلباتها بمزيد من احتياجات البيت ، فهي لم تتحدث إليه طول يوم أمس ، إذ عاد في ساعة متأخرة من ليله الفائت ، فوجدها وقد استلقت على فراشها تغط في نوم عميق ، وكذلك أبناؤه . فما مصدر هذا الاضطراب الذي يعتريه ؟ ومن أين جاءه هذا القلق الذي يأخذ بمجامع فكره ؟ فيجعله ينفض رأسه كمن يطرد عن
نفسه شيئاً مبهماً قد حلَّ به .
وقف المختار أبو فوَّاز يتمطَّى بصلبه ، ثم تقدَّم بضع خطوات ، وإذا به لم يقوَ على الثبات إذ ناءت ساقيه بحمل جسمه ، وأحس وهْنَاً يرجُّه فكاد يطيح به ، ولكنه تماسك وضغط على نفسه يتحداها ، فيخطو ويزيد في خطوه دون أن يستند إلى الجدار أو يستمسك بالباب القريب منه . وإنما خرج من حجرته متثاقلاً معتمداً على ما تبقى له من قوة جسمانية ، وتناول إبريقاً من الفخار وقَّمْبَزَ يتوضأ :
- " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم "... ماذا دهاني؟!.
- " نويت فرائض الوضوء ، الله أكبر"... لم أُغضب أحداً ، ولم يغضبني أحد ، فلماذا أنا مهموم ؟.
- " الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً "... ليتني أعرف سبب هذه الغُمَّة !...
وهكذا كان المختار موزع الفكر، مهموماً طول الوقت الذي استغرقه الوضوء حتى أتى على نهايته فقال :
- ختمتُ وضوئي بقول " أشهد أنْ لا إله إلا الله ، وأشهد أنَّ محمداً رسول
الله ".
وانتقل بخطوات ثقيلة مثقلة بكل أنواع السهوم والهموم ، وتوقف في ركن من أركان ديوانه مستقبلاً القبلة ، فيقيم الصلاة ويبدأ بقراءة الفاتحة فيصلي الركعة الأولى ، فيخالطه الشك ، ويتساءل في نفسه: هل سجد مرة أو مرتين؟ فَيُسَلِّم ويعود من جديد وهو مشتت الفكر، فيصلي الركعتين الأولى والثانية، وينتابه الشك في الركعة الثانية : هل قرأ الفاتحة؟ وهل أتمَّ الركوع قبل أن يسجد ويجلس للتشهد ؟ ويصحو فإذا به يقرأ الفاتحة بدلاً من التشهد . ويسلم ويتعذبل من الشيطان الرجيم ، ويقول لنفسه : " سأصلي ببطء ، وسأعصم نفسي من الشرود والسرحان ". ويصلي بكل ما لديه من تركيز، ولكن الشرود يخترق كل تركيز، ذلك أنَّ الأفكار الغريبة تطارده ، وتعاود مداهمته ، فينهي الصلاة وقد أفلح في إتمامها ، وأخذ يتعذبل من الشيطان الرجيم ،
ويُسَبِّح لله العظيم .
ويجلس أبو فوَّاز في صدر ديوانه تائه الفكر، مُشوَّش الأفكار، مُنشغل البال ، وإنه ليسائل نفسه عما ألمَّ به من اضطراب ، فلا جواب . وتشتد سطوة الحَيْرة عليه ، وتمتد يداه لا إرادياً يُقَرِّبُ إليه الكانون ، فيملأه بالحطب ويشعل فيه النار ، ثم يضع البكارج فوق المنصب ليُجَهِّزَ القهوة السَّادة للشاربين ، محاولاً أن يتلهى عن تلك الأفكار الغريبة التي تجوس خلال رأسه . وبينما هو مايزال تحت سيطرة ذهوله عن نفسه وسوء حاله ، إذا بصوت خفي يُهاتفه :
- ما دمتَ تؤمن بالله وتصلي له ، فلماذا لا تسلك مع أهل قريتك السلوك الحسن؟. ولماذا لا تخالق الناس بالخُلُق الحسن؟. ألا تعلم أنَّ " الدِّين هو المعاملة " ، وأنَّ رصيد الإنسان هو حُبُّ الناس له ؟.
وجاءت زوجه تسعى وهي تحمل بين يديها طبقاً كبيراً مصنوعاً من سعف النخيل ، تتربع عليه بعض الأطباق وإبريق الشاي وعدد من الأرغفة :
- الله يصبحك بالخير يا أبا فوَّاز.
- الله يسعد صباحك يا أم فوَّاز.
جلستْ قبالته وطعام الإفطار يتوسطهما ، فتناول بعضاً من اللقيمات مغموسة بالزيت والزعتر واللبن الرايب ، وشرب كوباً من الشاي ، وحمد الله وأثنى عليه ، وأخذ يتلمظ ويلوك ما تبقى في فمه من طعام ، وهو في حقيقة أمره يلوك أفكاره التي تحتاج إلى هضم ، وبدا عليه السهوم ، فلحظت زوجه ما يُكَدِّرُ وجهه ، وسألتْ مُتَهَيِّبَة :
- ما بك يا أبا فوَّاز؟.
نظر المختار إلى زوجه ، ثم ارتد إليه طرفه وهو حسير، وأيقن أنَّ حالته قد انكشفت للرائي ، فقال مُنْكِراً :
- لا شيء !.
- أراكَ وكأنك تفكر في أمر مهم .
- أبداً... أنتِ تعرفين أنَّ أمور حياتنا في هذه القرية تدفعنا إلى التفكير والقلق..
- يا أبا فوَّاز... إنَّ وجهك ينبئ بشيء غير الذي تقول .
- كيف ؟.
- أنا زوجك ، ولا يخفَى عليَّ أي تغيير يطرأ عليك ، فأنت إما أن تكون مهموماً
وإما أن تكون مريضاً .
واختطف أبو فوَّاز الكلام من على لسان زوجه ، وقال وهو يشير بيده إلى فمه :
- فعلاً ، إنَّ ضرسي تؤلمني ، فلم أنم إلا قليلاً.
فهَزَّتْ رأسها مزهوة برجاحة رأيها .
- إذن ، سآتيك بقليل من العُصْفُر (الكُرْكُم) المذاب في الماء لتتمضمض به ،
فسيخفُّ الألم - إن شاء الله – وترتاح .
وقامت وقد حملت ما تبقى من طعام ، وما هي إلا لحظات حتى عادت تحمل كأساً ، فتناولها المختار شاكراً ، وقالت وهي تخرج لأعمال البيت :
- سلامتك !.
شيَّعها المختار بنظراته ، وقال في نفسه :
- عجباً لأجهزة الاستشعار لدى النساء ، يَرَيْنَ ما يَخْفَى في الرءوس ، وما يكمن
في النفوس ، وهن المانحات... وهن المانعات .
وعاد فَصَبَّ لنفسه فنجاناً من القهوة ، وأشعل جمرات نارجيلته ، وسحب أنفاساً من " التمباك العجمي " ، وإذا بالشمس تطلُّ عليه من نافذة شرقية بوجهها الصبوح الباسم وقد تسللت بأهدابها الناعمة تلامس وجوه النائمين ، فينهض أهل القرية ، وتدبُّ في أزقتها الحركة والنشاط ، وتُسْمَعُ أصوات المارة إلى حقولهم يسوقون حميرهم ، وفيهم من يسوقه حماره .
ويضيء وجه الأرض ويبتسم الشجر، وتنطلق الألسنة بصياحات الصغار والكبار، وتتصاعد في سماء القرية نوافير الدخان ، وتنتشر روائح خبز الطوابين ، وتتعاقب الصبايا على طريق البئر يحملن الجرار، وأخريات يحطبن ما يكفي للوقود... إنها حياة قاسية ومضنية ، ومع ذلك فقد اعتادها الجميع ، وتعايشوا معها صيفاً وشتاءً .
تنهَّد المختار، وأضاء وجهه ، وشعر بأنَّ شيئاً خفياً قد منحه جرعة من الهدوء النفسي ، يخالطه اطمئنان حَذِر... ولكنْ ، ذاك الهمُّ مازال عالقاً برأسه لا يفارقه .
ويبتسم المختار لهذه المشاعر المتباينة ، التي تتتابع ثم تتصارع في داخله ، وأحس أنَّ ابتسامته بدأت تتسع شيئاً فشيئاً ، فيخالها تستوعب كلَّ ما يمسه من تعب
وإعياء . ويسبح في بحر من الأفكار، ويُحَلِّق مع سُحُب الدخان المتصاعدة إلى
أعلى، ويزداد انسجامه بتناغم صوت القرقرة التي يحدثها سَحْبُ الأنفاس من النارجيلة. وبينما هو على هذه الحال حتى سمع طرقاً رفيقاً على الباب ، ودخل الطارق ، وما إن رآه المختار حتى سَحَبَ مبسم النارجيلة من بين شفتيه ، وقد فارقته ابتسامته وتسمرت عيناه على الشاخص أمامه ، فقد كان خادم الشيخ العصفوري يقف بقامته الفارعة ، وقال وهو يلهث :
- السلام على المختار!.
- وعليك السلام ، تفضَّل يا حمدان !.
- أشكرك يا مختار... سأعود حالاً .
- ما وراءك ؟.
- الشيخ العصفوري يريدك الآن .
- يا ستَّار يا رب !.. ما الأمر؟.
- لا أعلم !.
- هل حدث شيء في قصر الشيخ العصفوري ؟.
- لا أعلم !.
- هل حلَّ به ضيف من خارج القرية ؟.
- كلا !... لا من خارجها ولا من داخلها .
- أهو بخير؟.
- نعم ، إنه بخير.
- مَن الذي أرسلك ؟.
- الشيخ العصفوري .
- ماذا قال لك ؟.
- يدعوك أن تحضر إليه الآن .
- طيب تعالَ اشرب القهوة .
تناول حمدان فنجان القهوة ، وأفرغه في جوفه جرعة واحدة وهو على عجل ، واستأذن عائداً أدراجه ، وقد ترك وراءه المختار يتخبط في سحابة دكناء من التخمين والظن .
صفن المختار قليلاً وهَزَّ رأسه خفيفاً ، وربط بين استدعاء الشيخ العصفوري له وبين حالة الغم والقلق التي يعانيها منذ البكور، وهنا تكالبت عليه شتى الصور وهجمت عليه تنهش رأسه المتناقضات من التآويل والتفاسير ، لعله يجلو السبب لهذا الاستدعاء المفاجئ في مثل هذا الوقت من مطلع النهار . وأخذ يتهيأ للخروج ، ويتهيأ لاستقبال هَمٍّ جديد يضاف إلى مخزون همومه . " ماذا جرى ؟ هل حدث شيء لا أعلمه ؟ إنه أمر لابد خطير " . ولوى شفتيه وأمال رأسه وهو يضع العقال فوق الحطة البيضاء ، واستطرد : " قد يكون شراً ، وربما يكون لنا فيه الخير الوفير ، فالشيخ العصفوري رجل مكرمات ؛ فما أسخى هذا الرجل ، وما أكرمه إذا رضي ، وما أقساه وما أعنفه إذا غضب !..." .
تناول المختار علبة التبغ والقَدَّاحة ووضعهما في جيبه ، وألقى عباءته السوداء على كتفيه ، وامتطى ظهر حماره ، ولكزه بشيء من القلق ، فأحس الحمار بانفعالات المختار الذي بدا وقد نكزته أفعى في خاصرته ، فطار به الحمار في طريق ترابية ، فأثارت قوائمه عجاجاً وسحابة من غبار كثيف ، والمختار ما زال في سهومه ، يعلو به الحمار ويهبط ، وهو جالس لا يعلم عن نفسه شيئاً ، فقد طغى عليه تفكيره في البحث عن الأمر الذي استُدعي من أجله . وألح عليه فضوله ، فأخذ يتقصَّى السبب ، ولكنه لم يفلح ، إذ لا مجال للتكهن . وأخذ يواسي نفسه ويطمئنها بقوله : " لا داعي للقلق ، فإنها دقائق معدودات ، حينها سألتقيه ، وينكشف لي المستور من الأمر،
وتنجلي المبهمات " .
والحمار مسرع الخطو ، شديد الثبات على الطريق ، لا يترك لصاحبه مجالاً
لضربه أو لكزه ، ولكنَّ المختار دون وعي منه يضربه ويلكزه ويستحثه على المزيد من السرعة بينما كان يسابق الريح ، والمختار لا يحس بسرعة حماره هذا ، وإنما يحس
منه تباطؤاً ، فجعله ذلك يفكر في أن يقفز عن ظهره ويجري ، ولكنه يعود فيلكزه
بعنف ، وتزيد السحابة الترابية من وراء قوائمه ، فتعفِّر وجوه الفلاحين الذين يمرُّ بهم وهم يعزقون الأرض تحت أشعة الشمس ، فيذهلون ولا يُصَدِّقون ما يرون ، فما كان أحد منهم قد رأى المختار وحماره الطائر بهذه الهمة ، وهذه السرعة التي تنبئ عن أمر خطير قد حدث .
والفلاحون في كِلا الجانبين من الطريق قد توقفوا ينظرون ، وقد كفُّوا عن العمل ، فمنهم من يلقي فأسه أو محراثه ، ومنهم من يُعَلِّق منجله ، ومنهم من يوقف يده عن قذف اللقيمات في جوفه ، وكلهم ينظر إلى المختار وقد غاب في كثافة الغبار، وإلى ذاك الحمار الذي يطوي الأرض طياً.. فيتساءلون :
- ما الخبر؟ ماذا حدث ؟ لعله خير!.
ويتجهون إلى السماء ضارعين وهم يلبسون ثوب الخوف :
- يا رب ! ألطفْ بنا وارحمنا...يارب !.
وصل المختار إلى قصر العصفوري ، فترجَّل عن راحلته بطريقة شبابية ، على الرغم من بلوغه الستين خريفاً ، ولكنه الخوف والاضطراب اللذان يدفعان بالمختار إلى التقافز عن ظهر حماره . فلو أنه تحدى نفسه ، وأراد أن يقوم بمثل ما قام به من حركة تدل على الشباب والقوة في وقت يخلو فيه من القلق والاضطراب ، لما كان له أن يفعل ذلك ، ولكن مَثله مَثل إنسان تحيط به المخاطر، فيضطر إلى تسلق أسلاك شائكة ، أو يقفز من طابق علوي ، أو يخترق ناراً توشك أن تسد عليه كل المنافذ . ولو كان الأمر طبيعياً، وطُلب منه أن يفعل إحداها لما استطاع إلى ذلك سبيلا . هكذا كانت حال المختار ، الذي أسرع الخُطَى إلى ديوان الشيخ العصفوري ، فوجده متربعاً
في مكانه المعهود .
- السلام عليكم !.
تلقفه الشيخ العصفوري بابتسامة باهتة وبصوت هادئ .
- وعليكم السلام !... أهلاً يا مختار... تفضَّل اجلس هنا بجانبي .
وأشار إليه فجلس إلى جواره ، وهو يلهث بأنفاس تتسارع ، وبنبضات قلب
يضطرب ، والشيخ ينفث الدخان الذي شهقه من النارجيلة التي تنتصب أمامه صفراء لامعة ، ورائحة " التمباك العجمي " تعبق أرجاء الديوان .
وتقدَّم الساقي من المختار وصَّبَ له فنجاناً من القهوة ، فرشفها وهو مازال تحت تأثير ذلك الاضطراب والهلع ، ثم طلب مزيداً من القهوة بصوت متهدج ، وبأنفاس لاهثة ، فلَفَتَ ذلك انتباه الشيخ العصفوري الذي ابتدره قائلاً بينما كان يضغط على جمرات تتكدس فوق تمباك كرسي النرجيلة بملقاط صغير مذهب .
- ما بك يا مختار؟ لستَ على عادتك .
جمع المختار ما تبقى له من قوة ، ورد بصوت مبحوح :
- لا شيء أيها الشيخ .
- وكيف ذلك ، وأنا لم أرَكَ بمثل ما أراك اليوم ؟!.
- كيف تراني اليوم ؟.
- مضطرباً ، محزوناً أو ما شابه .
- لا هذا ولا ذاك ، وإنما هو تعب قد اعتراني في طريقي الطويلة .
- وهل قَدِمْتَ إلينا راجلاً ؟.
- كلا، وإنما جئتكم راكباً حماري – أعزكم الله .
- إذن ، كان ينبغي أَلا تشكو التعب .
- إنه تعب الفكر، لا الجسد أيها الشيخ .
- ياه ! مختارنا اليوم فيلسوف .
وضحك ، وضحك لضحكه الحاضرون ، بمن فيهم المختار. ثم استطرد
العصفوري وهو يميل جهة المختار يمازحه :
- وهل عرفت لذلك سبباً ؟.
- نعم ، استدعاؤك لي في وقت مبكر من الصباح قد أزعجني ، وقد زاد من
انزعاجي رغبتك في سرعة الحضور ، فخِفْتُ أن يكون قد حصل لك مكروه –
لا سمح الله .
سُرَّ الشيخ العصفوري من حديث المختار ، وضحك ضحكة خالطها الوقار الذي يليق به وبمقامه وبهيبته ، وشاركه الحاضرون من أبناء الشيخ وإخوته وربعه الابتسام والسرور، وقال مُهَدِّئاً من روع المختار:
- لا عليك يا مختار! فأنا ورَبعي بخير.
وسحب أنفاساً طويلة من النارجيلة التي كانت تقرقر بنغمة تجذب إليها الأسماع ثم الأنظار ، واستطرد :
- ولو أني كنت أعلم أنَّ استدعاءك سيكون مصدر قلق واضطراب لك هكذا ، ما كنتُ فعلت .
- دعك من " لو" ، فقد انزاح الهَمُّ والاضطراب . والآن ، ما الأمر! هل من جديد ؟.
انتظر الشيخ حين قدَّم الساقي نارجيلة للمختار. ثم قال :
- نعم !.
- خيراً إن شاء الله ، قالها وهو يجرِّب قوة سحب النَّفَس من النارجيلة .
- إني مُقْدِمٌ على عرس لابني جاسر.
- مبارك عليكم عرس ابنكم جاسر.
- وأريد أن أقيم له داراً في الجهة الشمالية من ساحة القصر.
- ولكنَّ الجهة الشمالية تحتاج إلى تجريف وتنظيف وتسوية .
- أحسنتَ يا مختار ، ولهذا استقدمتك .
- أنا طَوْعُ أمرك . مُرْنِي بما تريد .
- داراً بحديقة .
- الجهة الشمالية ضيقة المساحة لا تتسع للبناء والحديقة معاً .
- تستطيع أن تجعلها تتسع .
- كيف ؟.
- خُذ الأرض التي تَحُدُّها .
- ولكنها ليست مشاعاً ، إنها مملوكة .
- ومن يملكها يا مختار؟.
- الشيخ زيدان النمر (أبو بكر) .
- هذا شأنك... تدبر معه الأمر .
- وإنْ لم أستطع معه حلاً .
- أرسله إليَّ .
- سَمْعاً وطاعة !.
سحب الشيخ نفساً عميقاً من النارجيلة ، وترك الدخان الحبيس في صدره ينطلق متطايراً ، يتدافع بعضه من بين شفتيه ، وبعضه الآخر من فتحتي أنفه... وقال :
- كم دونماً أرض الشيخ زيدان ، يا مختار؟.
- عشرة .
- وهل يملك غيرها ؟.
- حاكورة (بستان) صغيرة مزروعة بأشجار الدُّوم والتين والزيتون ، وبجوارها مارس (حقل) يُزرع حبوباً ، وأحياناً يزرعه بطيخاً وخضروات موسمية .
- وهل هو مَدِين لنا بكثير من المال ؟.
أخرج المختار من جيب سترته دفتراً عتيقاً وأخذ يفرُّ صفحاته ويُقَلِّبُها ذات اليمين وذات الشمال ، ويتتبع بعينيه وبأُصبع يده الأسماء حتى قال : - ها هو الشيخ زيدان النمر.
- اقرأ...
- عليه مستحق أربع عشرة ليرة عن المواسم الماضية ، أماعن الموسم الحالي:
فإما أن يُخْرِج عُشْر المحصول ، أو يدفع ست ليرات ثمن الخِراج ، يضاف
إليها خمس ليرات ديون نقدية . المجموع : خمس وعشرون ليرة .
- فقط ؟.
- فقط !.
- إذن ، سجِّل: عشرين ليرة مستحقات سابقة ، وتسع ليرات عن الموسم الحالي ،
وإحدى عشرة ليرة ديون نقدية ، فيكون مجموع ديونه أربعين ليرة .
أحسَّ المختار أنَّ العصفوري يغزل خيوطاً من المكر والدهاء لينسج بها شبكة صيد يحمل هو نفسه الصِّنارة للإيقاع بالشيخ زيدان ، والشيخ زيدان غافل عما يدبران ويكيدان.
وساد صمت عميق قطعه الشيخ العصفوري :
- اذهب إليه اليوم ، وأبلغه أن يسدِّد لي ما عليه من مستحقات ، وإن تعذَّر عليه الدفع ، أرسله إليَّ وحده .
- حسناً !.
- إياك يا مختار أن تذكر له شيئاً عن موضوع الأرض ، فدع ذلك لي أتدبره.
- حسناً !.
- أما بخصوص بدء العمل ، فإني أترك هذا الأمر لك وبإشرافك حتى تمام البناء وتجهيزه .
- والعمال...؟.
- من أهل القرية... طبعاً .
أطرق المختار، ولمعت عيناه ، فألقى بناظريه سؤالاً يريد له جواباً ، فسارعه الشيخ العصفوري يجيبه عن تساؤله :
- أرسل المنادي يطوف بحارات القرية ، يبلغهم على لساني : أن يخرج عن كل بيت رجل للعمل في بناء العَقْد الجديد بمناسبة زواج أحد أبنائي ، ولا يتخلف
عن ذلك أحد .
- ومتى يبدأ العمل ؟.
- بعد موسم الحصاد ، وحتى يفرغوا من العمل في البيادر.
- لقد أوشكوا جميعهم على الانتهاء من عمل البيادر .
- تحديد المواعيد متروك لك يا مختار.
- سأقوم بواجبي إن شاء الله .
- العمل بإدارتك وبإشرافك ، فأنت كفء لذلك ، وإنك عندي لمن المُقَرَّبين ، ولن أَتِرَكَ أعمالك .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.