الطقس المتوقع في مختلف المناطق حتى مساء اليوم الجمعة    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    استدرجوه من الضالع لسرقة سيارته .. مقتل مواطن على يد عصابة ورمي جثته في صنعاء    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    مليار دولار التكلفة الأمريكية لإحباط هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    الدوري الاوروبي ... ميلان وليفربول يودعان البطولة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    "طاووس الجنان" و"خادمة صاحب الزمان"...دعوة زفاف لعائلة حوثية تُثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مافيها(صورة)    الحكومة تطالب بتحرك دولي لوقف تجنيد الحوثي للأطفال تحت غطاء المراكز الصيفية    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    إصابة 3 أطفال بانفجار مقذوف شمالي الضالع    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الثاني عشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


12
اكتمل نمو الشمس في ذلك الصباح ، واكتحلت العيون بهابي التراب ، وتعفَّرت الوجوه بأعفار القش المتطاير على أجنحة الهواء ، وتلطخت السواعد بطبقة من الطين ، وكلُّ أنهكه العمل واستبدَّ به النشاط ؛ نشاط مَن شَرَدَ لُبُه ، وسَرَحَ فِكْرُه ، وترك للجسد حرية العمل بلا ضابط . وإنهم لَيتوجسون خيفة مما ستأتي به الساعات الباقيات من هذا النهار، وما سيؤول إليه الأمر بعد امتناع سلمى عن العمل . فمنهم من مدَّ أفكاره إلى بعيد، ومنهم من آثر السلامة فأحجم عن كل تفكير يقلقه ، فاجتهد جميعهم ما وسعهم الاجتهاد ، وجَدُّوا ما وسعهم الجد وهم يعملون في صمت ونشاط بحركة سريعة تدل على إتقانهم إعداد الطين اللَّبِن وصنع القوالب منه . وهناك فريق يضرب الأرض بفأسه تجريفاً وحفراً ، لا ترتفع لأحدهم قامة ، ولا تعلو لأحدهم هامة ، يعملون ولا يخلو عملهم من حركة آلية لا إرادية في غياب العقل الذي انصرف إلى التفكير وتقدير الأمور. إذ يتوقع كلُّ منهم فداحة النتائج التي يجلبها عليهم العصيان الذي تمثَّل في امتناع سلمى عن الحضور إلى موقع العمل لأداء فرائض الطاعة والخنوع .
أقبل العصفوري يتقدم كوكبة من رجاله الفرسان ، وسنابك الخيل تضرب الأرض فينقدح الشرر، وتنطلق خطواتها رتيبة تهتز منها القلوب ، وتترنح لسماعها الأفكار. وينهض المختار أبو فوَّاز وينشط للقائه :
- يا مرحباً بالشيخ العظيم !.
ولم يأبه العصفوري لترحابه ، ويطوف ببصره كأنه يبحث عن شيء ما ، ويقول :
- أين سلمى ؟ .
- العمل متقن ، وكل شيء يسير وفق رغباتك .
- أين سلمى ؟.
- لا تقلق أيها الشيخ الجليل ، وكن مطمئناً على سير العمل .
وصاح العصفوري بالمختار صيحة لا تخلو من غضب وضيق :
- قلت لك : أين سلمى ؟ أم تراها من الغائبين ؟.
فتلعثم المختار ، وقال بعد أن طأطأ رأسه وأرخى طرفه ، وخفض صوته :
- إنها لم تحضر بعد .
- حسناً !...
ولوى عنان فرسه الشقراء ، وتبعه رجاله ، وقفل راجعاً وقد شيعته العيون حسرة على مصير سلمى . ومضى الركب وقد بدا العصفوري ساهماً مطرقاً يعصر فكره، إذ كان يقلب الأمور على وجوهها حتى برقت في خاطره فكرة هَزَّ لها رأسه استحساناً ، وقال مخاطباً نفسه :- " الويل والثبور، ستدفعين يا سلمى الثمن باهظاً ، وسيدفع معك أولئك المحرضون أغلى الأثمان " .
وما إن وصل إلى قصره ، وبينما كان يهمُّ في الترجل عن فرسه ، أرسل في طلب ابنه نوَّاف ، ولم يطل به الوقت حتى كان نوَّاف واقفاً بين يديه ، فصاح به :
- نوَّاف !.
- أَمْرُكَ يا أبتاه !.
- اذهب مع رجالك ، وأَحْضِرْ سلمى بنت الحاج حسين أبي النور، زوج سعيد ابن الشيخ زيدان النمر.
- أَمْرُكَ يا أبتاه !.
- أَحْضِرْها عُنْوَة .
- سَمْعاً وطاعة !.
- أريدك أن تقهر كبرياءها وتُذِل عِزَّتَها .
- سَمْعاً وطاعة !.
- أن تئد ما تسلل في صدور وِلْدَان القرية وصِبيتها ذلك ما يَدْعُونَه كرامة .
- سَمْعاً وطاعة !.
- هيَّا اذهب ، وآتني بها والقيد في يديها ، وقد شُدَّتْ بحبل يصل بذيل فرسك ، ليراها جميع مَن في القرية ، لأرى ماذا هم فاعلون .
هيَّأَ نوَّاف نفسه ، وتهيَّأَ رجاله ، وانطلقوا صوب القرية على أفراسهم مسرعين ، فرحين بما آتاهم العصفوري من أمر يوجب لهم إحداث الشر، وإنزال الخطوب في أناس ليس لهم من ذنب إلا أن قالوا : لا للشيخ العصفوري ، ولا لظلمه وتسلطه وجبروته .
وتسربت الأفراس في أحشاء الطريق تسرب الأفاعي في بطون الرمال ، تحفُّ بها هضاب شماء عن اليمين وعن الشمال ، قد نبتت في سفوحها وبين فروجها مجاميع أشجار باسقة مترعة . وينظر نوَّاف فلا يرى أمامه إلا هذه الطريق المتعرجة التي حسبها قد طالت ، فأحدث فيه هذا الإحساس شيئاً من الحنق قد فارت به نفسه ، وأحس أنَّ قلبه قد اشتعل غيظاً وغضباً ، فأخذ يفتش بين أفكاره عن أعنف السلوك الرهيب للتنكيل بأهل القرية من أجل إنجاز هذه المهمة ، وكيف لا وهو معروف لدى أبيه أنه صاحب المهمات الصعبة ، ومشهود له عند أبيه وعند الناس جميعاً أنه رجل العنف والقسوة ، فقد ورث عن أبيه تلك الخصال والميزات التي تؤهله أن يرث " المشيخة " من بعده ، وقد كان أبوه يتباهى به بين إخوته وبين رجال العشيرة ، ولطالما يردد على أسماعهم :
- نوَّاف ؛ صورة مني ، لا يشاركه فيها أحد من أبنائي .
لم يكن نوَّاف يمتاز من إخوته بالعقل الراجح والرأي الحكيم فقط ، ولكنه كان أعظمهم قوة ، وأشدهم شوقاً إلى العنف ، وأزيدهم اندفاعاً في إطفاء نار التمرد وإخماد ثورة العاصين الخارجين على الشيخ العصفوري ، ولهذا فإنَّ عقابه موجع ، وقصاصه يُحْدِث الفجيعة ، فتراه مَرْضِيَّاً عنه من أبيه ، ولكنَّ إخوته – إلا واحداً – لا يستحسنون منه هذا الأسلوب الذي يتعامل به مع ما يستجد من مشكلات وقضايا ، وإنهم بِقَدْر ما كانوا يلومونه في مسلكه ، كانوا يحسدونه وينفسونه على هذه المكانة التي خصَّه بها أبوهم ، وبنفس القَدْر كانوا يضمرون له في أنفسهم شيئاً من النُّكْر دون أن يبادوه به ، وكان بعضهم يسعى ما وسعه السعي لأن يحظى بمكانة تدنيه من أبيهم ، فيظهرون بمظهر القوة والعنف ، ويتوددون لإرضائه بشيء من الفظاظة وغلظة القلب ، وهي
خصال من طبائع البدو ، تطفو على السطح عند تصادم المصالح . ولكنْ على الرغم من هذه الصفات المتوارثة ، إلا أنها لا ترتقي بهم إلى المكانة التي اعتلاها نوَّاف من ثقة أبيهم به ، وتفضيله عليهم واصطفائه له من دونهم .
* * * * *
وصل نوَّاف ورجاله إلى مشارف القرية ، وما إن دلفوا إلى حواريها وتغلغلوا في أزقتها حتى أشاعوا الرعب في جنباتها ، وقد اضطربت لمرآهم قلوب من كان فيها من شيوخ ونساء وأطفال ، وامتدت العيون تتبع آثارهم ، تلاحقهم وهم يجوبون الطرقات والأزقة حتى توقفوا أمام دار الشيخ زيدان ، وترجَّل نوَّاف واثنان من رجاله ، واقتربوا من باب الدار، بينما ظل الباقون من الرجال على صهوات جيادهم، وأصابعهم تلامس أزناد البنادق تتأهب للإطلاق .
طرق أحد الرجلين الباب ، فانفتح عن وجه الشيخ زيدان الذي أفزعه الطرق وأفزعته المفاجأة ، وقبل أن يفيق من فزعه ودهشته ابتدره نوَّاف بصوت فيه خشونة ، وفيه عنف ينبئ عن شر مستطير :
- أين سلمى يا شيخ زيدان ؟ .
تردد الشيخ قبل أن يجيب عن سؤاله ، ولكنه استجمع قوته وردَّ قائلاً :
- ماذا تريدون منها ؟ .
- أين سلمى أيها العجوز ؟ .
- في الدار .
- أخرِجْها إليَّ .
- لن تخرج قبل أن تخبرني ماذا تريد منها ؟ .
- أيها العجوز! غيِّبْ وجهك عني ولا تُثِرْ غضبي ، فإني سأخرجها بيدي .
وأزاح الشيخ زيدان من طريقه بقوة ، فوقع على الأرض ، وقام متثاقلاً ينفض التراب عن وجهه وردائه ، وجرى وراء نوَّاف الذي تخطَّى عتبة الباب إلى الداخل ، وتوقَّف عن الإيغال عندما فوجئ بسلمى قبالته تقول له :
- إنَّ للبيوت حرمات يا ابن شيخ العرب ، أم تراكَ قد جهلتَ ؟.
نظر إليها ورد بعنف وبعصبية :
- وإنَّ لأبي الطاعة والخضوع يا ابنة الكرام ، أم تراكِ قد نسيتِ ؟.
- وبمَ أرسلك شيخ البلاد ؟.
- أن أصحبك إليه صاغرة طائعة ، محفوفة بتفاريج الذِّلة والخضوع .
تدخَّل الشيخ زيدان ، ووقف أمام نوَّاف وهو يقول :
- دَعْهَا يا نوَّاف ، وخُذني أنا .
فندَّت عن نوَّاف ضحكة خفيفة ، تحمل بين ثناياها الهُزء والتحقير ، وهُرِعَتْ إليه أم سعيد وأخواته يستعطفْنَه ، ولكنه لم يأبه لهن وقال :
- وماذا أفعل بك أيها العجوز ؟!.
ثم تحوَّل إلى سلمى قائلاً بصوت فيه قسوة يوحي بالإصرار على خروجها معه :
- أرى أن تخرجي يا سلمى قبل أن تبتل هذه البقعة من الأرض بالدماء ، وقبل أن ترتوي بالدموع .
استدارت سلمى بعينيها تتفقد كل شيء يحتويه بصرها ، وفكَّرتْ قليلاً واستقرت على رأي ، فنهرها نوَّاف :
- أسرعي ، ولا تتباطئي .
عادت تطوف بناظريها ، فرأت حماها الشيخ زيدان لا حَوْلَ له ولا قوة ، ومدَّت ناظريها إلى خارج ، فرأت قليلاً من النساء والأطفال وأعقاب رجال قد أنهكتْ قواهم السنون والهموم ومحاريث الأرض ومناجل الزرع ، وحانت منها التفاتة ، فرأت بعض شباب القرية ينظرون إليها بحسرة تتبعها شفقة ، فما تقدم أحد لنصرتها ودَفْع الأذى عنها، وما وجدتْ بُداً من الإذعان ، فاستسلمتْ لأمر لا تستطيع أن تدفع عن نفسها منه شيئاً ، ولا يستطيع أحد أن ينتصر لها فيمنعها ويحميها من العصفوري ورجاله .
ولم يترك نوَّاف لسلمى وقتاً أطول مما ترك لها ، فدفعها إلى الخارج ، وأمرها أن
تمتطي بِرْذَوْناً أُعِدَّ لها ، وما إن استوت على ظهر مَطِيَّتَها حتى امتدت يده تكَشف
عن رأسها ووجهها الغطاء الذي طَوَّق به عنقها وتركه ينسدل على كتفيها وصدرها، ثم جاء بالقيد ووضعه في معصميها ، واقتادها بحبل موصول بذيل فرسه ، وامتطى هو جواده يسوق وراءه هذه الصَّبِيَّة التي تكوَّمتْ على ظهر راحلتها ، وقد تركتْ وراءها حماتها وكل من كان في الدار من البنات والصبيان ؛ تركتهم يبكون ويصرخون ويستنجدون . وقبل أن يبتعد بها الركب تعثرتْ بأنفاسها وشرقتْ بدموعها ، وحانت منها التفاتة سريعة ؛ رأت من خلالها الشيخ زيدان قد تسمَّر في مكانه يُشيِّعُها بعينين تحجَّرتْ فيهما الدموع ، فخاطبته بصوت يتدفق حزناً وأسفاً ؛ ينبئ بأنها متحصِّنة بجدار متين من الإيمان والثقة بالنفس :
- لا تبكِ يا عماه ! ولا تخشَ عليَّ من شيء .
شقَّ الركب شوارع القرية وأزقتها ، وكلما مَرَّت سلمى بأحد الرجال علَّقتْ عينيها به كأنها تشعل الحَمِيَّة في الصدور وتوقظ النخوة في النفوس ، فينظرون إليها في إشفاق القاصر العاجز، ويرتد الطرف كسيراً ، وينحطم قلبها التياعاً . فقد أضحت سَبِيَّة ، يكلِّلها الانكسار، وتجلِّلها المهانة .
وصل الركب مشارف قصر العصفوري ، فاندفعت من بندقية نوَّاف بضع طلقات ، تبعه رجاله الذين ضغطوا على أزناد بنادقهم فرحين مستبشرين برضا الشيخ العصفوري الذي ابتسم لمرآهم ، وقد أعجبه ثوب الذِّلَة الذي تسربلت به سلمى ، فنهض ونهض معه جماعة من أبنائه وأعوانه . لمحت سلمى من بينهم المختار أبا فوّاز ، ونظرتْ فإذا بها ترى عباس الذي أحس لهيب نظراتها تلسعه ، وظلت تصوِّب إليه النظر ، فاشتعل قلبه ناراً أطلَّتْ شواظها من عينيه ، ولم تحوِّل عنه عينيها إلا عندما ابتدرها العصفوري وكأنه يتوعَّد بها سامعيه :
- أهلاً بالمرأة الرَّجُلَة !.
تجاهلتْ ترحيبه الهازئ ، وقالت وقد توقفت مطيتها على بعد خطوات من محدِّثها :
- لِمَ فعلتَ بي كل هذا يا شيخ البلاد ؟ .
فابتسم ابتسامة تقطِّر غضباً وغيظاً ، وقال بصوت هز أركان القصر :
- وهل أنتِ لا تعرفين ؟ .
- ليست العقوبة بحجم الخطأ ، يا شيخ البلاد .
- لقد ارتكبتِ جُرماً تستحقين عليه الموت .
- ليتكَ فعلتها ! فالموت أشرف وأرحم .
- ستموتين ولكن على طريقتي .
- أكل هذا لأني لزمتُ بيتي ولم أخرج إلى العمل ؟ .
- إنه عصيان وتمرد ، ومن قبل كان التحريض .
- أيُّ تحريض هذا يا شيخ البلاد ؟ .
- أنسيتِ ما كان منكِ وأنتِ في مَجْبَلَة الطين ؟ .
هَزَّتْ رأسها والتفتت إلى المختار تتهمه وقالت :
- وبم تأمرني يا شيخ البلاد ؟ .
فاستطرد العصفوري بحدة ظاهرة :
- أراكِ قد تسمَّمْتِ بأفكار زوجك سعيد ، وها أنتِ تسامين جزاء العصيان والخروج عليَّ أيتها السَّبِيَّة .
- وما دخل سعيد فيما نحن فيه أيها الشيخ الجليل ؟ .
قال العصفوري بصوت ينمُّ عن التوعُّد :
- إنه قد حرَّض عليَّ الرجال ، ودعاهم أن يتمردوا ويعصوا كلماتي ، وها أنتِ تأخذين عنه مهنة التحريض والتمرد ، إنه يريد أن يهدم بيت العز والسلطان الذي بنيته منذ عشرات السنين ، وإني أنتظر عودته لأستقبله بما يليق بالمتمردين علىَّ وعلى قانون الدولة الرسمي ، وسيكون حسابه عسيراً يوم ألقاه .
حاولت سلمى أن تدفع عن زوجها هذه التهمة ، وترجو من العصفوري أن
يستوثق مما وصله من أخبار، ولكنَّ العصفوري يؤكد لها قائلاً :
- لديَّ شهود إثبات ، وإنَّ عقابي لشديد .
صعقها ما سمعت ، فانكفأت على نفسها تحسب للزمن حساباً أن يفجأَها ويفجعها بزوجها ، فبدا الهلع يرسم خيوطه على وجهها ، وكاد فؤادها يتميز كمداً ، وقالت وهي ما تزال تحت ضربات الخوف من المجهول الذي يتقدم نحوها ونحو زوجها بخُطَى وئيدة :
- وماذا بعد أيها الشيخ الجليل ؟.
وهنا سدَّدَ إليها نظرة هازئة ، وعلا صوته حنقاً لا يخلو من هُزْء وشماتة :
- حَرِّروها من القيد وأنزلوها عن البِرْذَوْن .
وأسرع عباس وفك قيدها ، وهمس في أذنها على غفلة من الحضور:
- أنا عباس زوج سعاد .
رَمَتْه بنظرة لا تخلو من احتقار وقالت وهي تغطي رأسها ووجهها بِشاشتِها:
- تباً لك !.
قال وفي نبرة صوته شيء يشبه العهد :
- لن أتركك نهباً للمخاطر .
استقدم العصفوري امرأة من خَدَمِ القصر ، فأسرعت تقف بين يديه ، فأمرها قائلاً :
- خذيها إلى الحجرة التي قد أُعِدَّتْ لها .
- أَمْرُكَ يا عمي الشيخ !.
- قِفِي على خدمتها بنفسك ، ولا تدعيها تتصل بأحد أو تغيب عن عينيك لحظة فيتصل بها أحد .
- أَمْرُكَ يا عمي الشيخ !.
وسارت سلمى بصحبة تلك المرأة ، وغابت عن العيون ، وما فارقت عقل عباس الذي انشغل تفكيره بها ، فأرسل إلى العصفوري نظرة خاطفة ، ملأى بما يضمره قلبه
من سُخط على هذا الطاغية العنيد ، ولكنَّ عباس تدارك نفسه ، فنفض تلك الأفكار
التي كانت تجول في رأسه ، وبدا وكأن الأمر لا يعنيه ، وجلس العصفوري في ديوانه يحفُّ به الملأ من قومه ، ودار عليهم عباس بفناجين القهوة ، وساد صمت رهيب قطعه العصفوري حين توجَّه بالحديث إلى المختار قائلاً :
- يا مختار... يا أبا فوَّاز!.
- نعم أيها الشيخ الجليل .
- أَبْلِغْ جاويش الدَّرَك أن يرصد قدوم سعيد ، وينفذ ما تمَّ عليه اتفاقنا .
تجرَّأ المختار وقال وهو يصطنع الهدوء :
- أيأذن لي شيخنا في إسماعه رأيي .
- قل ، ما وراءك ؟ .
- أرى أن تترك سلمى تعود إلى بيتها ، فإنَّ سبيَها يؤجج مشاعر الغضب والثورة في النفوس ، وأنت أيها الشيخ سيد المكرمات ، فأكرم عليها وأطلق سراحها .
- ما الذي تخشاه يا مختار ؟ .
- أخشى أن تشتعل القرية ثأراً لكرامتها. وقد تمتد نار الغضب إلى القرى المجاورة .
- بل تخشى على نفسك منهم .
واستطرد المختار قائلاً :
- هذه واحدة ، أما الثانية فإنك تُعَرِّض مكانتك بين القبائل ، ولن تغفر لك ألسنة مشايخ العرب في جبل الخليل وسائر البلاد فعلتك .
انتفض العصفوري غاضباً، واعتدل في جلسته ، وعلا صوته ، وانتفخت أوداجه ، وقد شوهد خفقان صدره ، وسُمع لهاثه وهو يقول :
- أنا شيخ المشايخ ، لا صوت يعلو فوق صوتي ، ألا تعلم يا مختار أنَّ الأمر لي والمشورة ؟ . ألا تعلم أنَّ ما يصدر عني هو تشريع للآخرين ؟ .
انكمش المختار على نفسه ، واجترع ما تبقى له من حديث ، وجلس ملوماً محسوراً
بين يدي العصفوري ، وقد لامه بعض الحاضرين على اجترائه في القول ، فتمتم
قائلا على استحياء مَشُوب بالخوف من إغضاب العصفوري :
- أنت شيخ البلاد وسيد العباد ، ولكنها هواجس طرأتْ فخشيتُ وقوعها، فأردتُ أن أُقدِّم النُّصح لمن أُخلِص له الود .
- دَعْ عنكَ نُصحي ، وهيَّا إلى موقع العمل .
أنهى العصفوري حديثه بزجر المختار الذي نفض عباءته ورفعها إلى كتفه ، وخرج مسرعاً يجر أذيال الخيبة والمهانة ، وركب حماره يسوقه إلى موقع العمل ، وقد بدت عليه علامات الكآبة ، وأخذ يلوك ما سمع ، فخرجت من بين شفتيه كلمات كمن يُحَدِّث نفسه : " أنا الذي أرخصتُ نفسي وحططتُ من قدري ، إني أستحق أكثر ، ولكنْ..." . وبرقت في خياله صورة سلمى وهي تقف ذليلة صاغرة . " أليست هي ابنة القرية ورمز عزتها وكرامتها وراية الشرف فيها ؟. ماذا لو تلطخ شرفها ؟. فهل يحسن السكوت والتفريط في سلمى ؟. وماذا عساني أن أفعل لإنقاذ ما بقي من ماء الوجه وحفظه لأجل أن تبقى القرية كريمة الجانب ؛ تدفع عن نفسها المهانة ؟. وماذا عساني أن أفعل لتحرير سلمى ؟ ". هذا هو السؤال الذي يطرق رأس المختار ، ويلح عليه ، ويجعله يفتش عن جواب فلم يجد ، ويكتوي بحيرته وبعجزه . ولكنه أعاد على نفسه نفس السؤال وكان الجواب صريحاً : " انعتاق سلمى مُذَيَّل بانعتاق القرية كلها ، ولكن كيف ؟ وأنا الذي أسهمتُ في إذلال سلمى ، وأوغرتُ صدر العصفوري عليها ، ورفعتُ درجة الاحتقان بينه وبين أهل القرية ليمعن في حقده وانتقامه منهم " .
* * * * *
مضى على سلمى في محبسها أربع وعشرون ساعة ، وذات مساء دخل الشيخ العصفوري حجرتها ، ومدَّ بصره في أركانها ، فألفاها تجلس منكمشة على نفسها في ركن قصي منها ، وقد انعكس على وجهها ضياء خافت يلهث به مصباح زيتي عتيق ، فخالط بياض بشرتها حمرة أرجوانية شفَّافة ، فبدت ملائكية الوجه في نقائه
وصفائه . أحسَّت سلمى قدوم العصفوري ، فانحنت على جراحاتها تعصبها لئلا يَنِزّ
القلب بالأوجاع ولم تنهض من مكانها ، ولم تعتدل في جلستها ، ولكنها حدجته بنظرات قد أطلَّ منها الخوف والحذر، وبرق في عينيها شيء اسمه التحدي .
اقترب العصفوري منها بخطوات ضيقة متئدة وهو يضرب الأرض بكعبيه ، ويتوقف منها غير بعيد ، ويقول بصوت متهدج يسيل منه رعب أحست به سلمى يسري في أوصالها :
- مساء سعيد !.
اعترتها هِزَّة خفيفة ، وتحرك في صدرها مارد قد عقد النية على تحطيم جدار الخوف ، فاستوثقت بالله ، ووثِقت من نفسها ، واعتصمت بما تكنُّه في قلبها من حب كبير لزوجها سعيد، واختلست منه نظرة ، فرأت من خلالها ما لم تكن تألفه فيه من علائم الصرامة والقسوة ، وقال بصوت يصطنع الرقة :
- أراكِ لا تردِّين عليَّ تحيتي ؟.
ولم ترد ، بل ظلت تنظر إليه نظرات فيها الإشفاق منه على نفسها ، وفيها الوفاء للغائب الذي تَرقُب عودته . واقترب العصفوري منها بضع خطوات ، وجلس على مقعد قد تآكلت ألوانه ، وقال :
- لقد جئتُ أتفقد أحوال ضيفي ، لأقف بنفسي على راحته .
فقالت وقد أشاحت بوجهها عنه :
- تقصد سَبِيَّتَك .
- أهكذا تَصِفِينَ حالك في بيتي ؟ .
- فمن أكون ، وأنت الذي بادءني بهذا الوصف ؟ .
- أنتِ ضيفي .
- ضيافة بالإكراه تعني الأسر.
- يبدو جمالك رائعاً يأسر من يراه .
تَطَلَّعَتْ إليه في دَهَش ، وقالت بلهجة مستنكرة :
- أَيَضْعُفُ سيد البلاد أمام امرأة يعلم أنها تزدريه ؟ .
قال وقد فاح اللوم من صوته :
- أتعيبين عليَّ صدق مشاعري ؟ .
- أحقاً لكَ من المشاعر ما تَرِقُّ لامرأة ؟.
- يعجبني في المرأة اثنتان : جَمال أخَّاذ وذكاء حاد ، وقد اجتمعتا فيك يا سلمى ، فلا تنكري عليَّ أن أُبدي استحساني بما هو حسن .
- وأنا أَمْقُتُ فيك اثنتين : أن تَصْغُر وأنتَ عظيم وأن تَرِقَّ وتضعف وأنتَ القوي العتيد يا سيد البلاد ، فلا تلمني إن أبديتُ استيائي مما هو سيئ .
واقشعر بدن العصفوري من قولها ، وثار لكرامته وقال وهو يصطنع الهدوء :
- أنتِ الآن مِلْكِي ، أمْ تُرَاك تجهلين ؟ .
- كلا يا سيد البلاد ! أنتَ تملك مني الجسد ، أما روحي وقلبي فهما مِلْكُ زوجي.
- زوجك هذا قد يطول غيابه .
- سأنتظر.
- وقد لا يعود .
انتفض رأسها وشخصت عيناها ، وسألتْ بلهفة :
- هل أصبتَه بمكروه ؟ .
- إنه في مستودع السجن يقبع خلف الجدران ، والعقوبة بحجم الذنب يا سلمى.
- إذن ، فعلتها يا عصفوري ، وأغريتَ به الدَّرَك .
- وهل من الحكمة أن أُبقِي على حَيَّةٍ رقطاءَ تسعى لهلاكي ؟ .
- يا لك من ظالم ! .
- لقد كان جهولاً ظلوماً يوم أن حَرَّض عليَّ أهلَ القرية ، وأغراهم بالتمرد واتِّباع العنف طريقاً لمحاربتي ومحاربة الحكومة ، وها أنتِ قد سلكتِ طريقه .
- متى كان اعتقاله ؟ .
- بالأمس مساء ، ساعة وصوله إلى بيته .
ارتعد جسدها ، واختلج كل ما فيها ، ورفعتْ رأسها ، وقالت وقد تحدَّرت دموعها
على خديها :
- أغريتَ به العسكر ، فأمسكوا به حتى يطول غيابه عن العمل ، فيطول مكثي بين يديك .
- ألم أقل لكِ إنكِ تمتازين من النساء الأخريات بالذكاء وحسن استقراء السطور؟.
- ويلي عليه ! لقد أفجعه غيابي ، وأمضَّه الأسر .
- غداً ينساكِ وينشغل بنفسه .
- دعني أره بحق الإله الذي تعبد .
- سأفكر في الأمر بعد أن يتم نقله إلى سجن الخليل المركزي .
ضربت سلمى رأسها بكفيها ، وقالت بصوت حزين :
- وأين هو الآن ؟ .
- في مركز " الدوايمة " للتحقيق معه .
- ويلي عليه !... وويلي على نفسي !.
- دعي نفسك يطبْ لها المقام بقربي .
صَّوبتْ إليه نظرات جامدة ، وقالت بصوت يشبه صوت الأمواج وهي تلتطم بصخور الشواطئ ، فيه تحدٍ وعناد :
- أراكَ تهذي يا سيد البلاد ، فأنا لستُ ممن يخون الأمانة .
أحسَّ نبرات صراخها تجوس في أعماق نفسه تلسعها ، فأوجعه ما سمع ، ولكنه تحاشى المصادمة ، وقال بهدوء فيه حدة وصرامة :
- الطعام شهي وأنا أريده حلالاً ، هذا إن أردتِ أن يبقى سعيد حياً .
فصرختْ به ، ونهضت تقف قبالته ، فوقف منتفضاً يتفرس في وجهها وهي تقول :
- ماذا تقصد من وراء قولك يا سيد البلاد ؟ .
تجاهل العصفوري سؤالها وقال :
- سأتركك تفكرين ، وسأمر بك قريباً لأرى ما استقر عليه رأيك ، وأنا على يقين
من رجاحة عقلك وحسن تدبيرك .
ولوى وجهه عنها واتجه إلى الباب ، وقبل أن يخرج استدار قائلاً :
- أخبرتني خادمتك أنك لا تأكلين ، فليتك تطعمين وتشربين لأنَّ مقامك سيطول.
– القبر أفضل مقاماً من مقامي بجوارك يا رجل .
مطَّ شفتيه ورفع حاجبيه ، وقال متعجباً :
- أنا لا أصدق أنك تُخفين وراء جمالك هذا القَدْر من الكراهية .
- إنه حصاد زرعك .
- قَرِّي عيناً ، وسأراكِ غداً أو بعد غد . تصبحين بخير .
خرج وصفق الباب وراءه ، وكأنه ينهي حديثاً قد طال بينه وبين سلمى التي تكوَّمت في ركن حجرتها ساكنة بلا حراك ،لا يُسمع منها إلا فحيح خافت يقطعه تأوه حار حزين .
* * * * *
نام الناس جميعاً ولم يعد غير سلمى في جفن الليل يسهر ، فقد أثار العصفوري كوامن الخوف فيها ، وجعلها قلقة مضطربة ، ومع هذا فقد كانت عَصِيَّة عليه ، فآلمه منها هذا الصَّد ، وأوجعتها منه هذه المكائد التي تترَى ، فَسِيقَتْ إلى أفكارها المعتمة ، فشقَّتْ جوارحها عصا الطاعة ، وتمردت عيناها على النوم ، تفكر في أمرها وفيما سيؤول إليه أمر سعيد الذي بلغها أنه في سجنه ، وطافت بها أزمَّة خيالها ، وتراقصت أمامها الصور والذكريات ، وبرقت في عينيها صورة سعيد وقد تخيلته وهو منزوٍ في ركن من السجن معتم ، يُسام الذِّلَة والهوان ، لا لشيء إلا أنه قال : لا....
وماج رأسها ، وهجمت عليها أخلاط من الأفكار الصاخبة ، فيتسلل من بينها صوت يشبه صوت سعيد ، أو يكاد يكون هو : " نعم أيها القوم ! إنَّ العصفوري ليس قوياً ، ولكننا نحن الضعفاء . إنَّ العصفوري ليس شجاعاً، ولكننا نحن الجبناء . إنه
يستمد جبروته من خوفنا وضعفنا ، وإننا نخشى انهيارنا ، لأننا متصدعون منقسمون
شيعاً وأحزاباً ، فحطِّموا جدار الخوف ، وانهضوا في وجه العصفوري ولا تترددوا ،
فالعتق ليس عطاءً في موسم الأعياد ، فما بال قومي لا يعقلون ؟ وإن سألتَ كبراءهم رأيتهم يزعمون لنا أنهم الفاهمون العالمون ببواطن الأمور ، يدَّعُون الحكمة والمعرفة وهم في أخلاط رغائبهم يتخبَّطون...". ثم صعَّدتْ بصرها إلى السماء وهي تتمتم : " آه يا سعيد ، ويلي عليك ! وويلي على نفسي من العصفوري الذي أغرى بك رجال الدَّرَك ، وساقوك مكبَّلاً بالأصفاد تتعثر في طريقك ، بينما سياطهم تلهب ظهرك ، والناس ينظرون إليك وقد أوجعهم مرآك ، لا يُغيثك أحد ، وإنهم لا يحسنون إلا العويل ولطم الخدود وضرب الصدور. لقد استراح العصفوري من غضب في صدرك يتفجر، فهل يطول الزمان وهو يجللك بظلام السجن ؟ " .
وطافت سلمى بخيالها إلى أن وصل بها تطوافها إلى شجرة التوت التي كانت تظلُّهما وتحنو عليهما وهما يتناجيان بهمس الحب ، تباركهما الأشجار والأطيار، فتسعد سلمى بإلفها وتضمه إلى قلبها خوفاً عليه من غوائل الزمان ، وتبترد نفسها بما كان يُسمِعها ويُشجيها ، ويزيد من لوعتها حين يلفح وجهها دفء أنفاسه ، وترتعد يدها حين تلمسها أنامل يده ، فتنام هادئة مطمئنة يخشى عليها النسمات ، ويغار عليها من روائح الأزهار. وتبتسم سلمى وهي ما تزال على رقدتها حين تراءت لها نفسها وقد جمعها الزمان بسعيد في لقاء حنون ، فمالت إليه نفسها ، وانعطفتْ لشفتيه يطبع بهما قبلة خاطفة على ثغرها المتورد في غفلة من الأطيار التي تتناثر على الأفنان تحرصهما وترصد حركاتهما وتتسمَّع لما يدور بينهما من حديث يؤلِّف بين القلوب فتأتلف به الأراوح ، ويستشرق طلوع الشمس من بين طيات رداء الليل .
- سلمى ! .
- نعم يا توأم الروح !.
- أسمعيني من حديثك أعذبه .
- وهل يساورك شك في صدق مشاعري ؟.
- معاذ الله !.... ولكنْ....
- ولكنْ ماذا أيها الحبيب ؟.
- آه يا سلمى ! لو أنك تحبينني بقدْر حبي لك ، لاحترق الكون .
- وإنه ليزيد ، ولكن نهر الحب في فؤادي يطفئ النار التي تلتهب في جوانحي.
- ما أسعدني بك يوم نزلتِ إليَّ من السماء على مائدة عمري .
- سأظل وإياك توأميْن ، إلى أن يشاء الله لنا أن نقيم على وجه الأرض .
وثقل رأس سلمى بتلك المناجاة ، وانسدل ستار جفونها، فغرقت في نوم عميق ، تراءى لها فيه طيف سعيد وقد وقف قبالتها يخاطبها بلسان ينمُّ عن قلق دفين .
- سلمى ! أراكِ هنا وقد تركتِ بيتك .
- جئتُ أبحث عنكَ ، فأسعفني لألقاكَ .
- ما الأمر ؟ . أراكِ شاحبة الوجه ، مُجْهَدَة .
- لقد وقعتُ في السَّبِي ، وخصيمنا عنيد ، يَسوم ولا يُسام .
- بقوة حبنا يندحر مهزوماً .
- أخشى عليك وعلى نفسي من الانهزام .
- أهكذا ينعطف قلبك عني ؟ .
- لقد أخطَأَنا الربيعُ .
- لا يا سلمى ! فأنا لأجل عينيك ، لأجل حبك أعيش .
- أَعِنَّةُ جسدي في يديه يا سعيد ، ويداه خشنتان لا تقوى عليهما قوتي .
- إني أشتم منكِ رائحة الفتور والوهن .
- كلا يا سعيد ! ليس كذلك . ولكنْ ماذا تصيب قوة الضعيف – مهما تعاظمتْ - من قوة الجبار الذي يملك في يديه قرار الموت والحياة لحبي وحبك ؟ .
- قاومي يا سلمى ، قاومي ولا تَهِنِي ولا تضعُفِي ، فأنت لستِ وحدك ، وإني في طريقي إليك ، فانتظري عودتي ، إني عائد إليك يا سلمى . نعم سأعود على
الرغم من عذابات الأيام وقسوة البشر، وسيخرج من رحم الأرض طفل تائه ،
ولكنه سيصل المضارب ، سيحارب ويعلو جبينه تباشير الصباح ، فغردي
وأطلِقي لسانك يهزُّ أرجاء الكون بترانيم العودة ، وافتحي ذراعيك لكل غائب
أعياه السفر.
أفاقت سلمى من نومها ، وتحسست وجهها وهُرِعَتْ إلى مرآة تُطِل من خلالها على نفسها ، فرأت ابتسامة رقيقة تتراقص على شفتيها وقد تفتَّح النَّوار في عينيها ، وأزهر الحب على وجنتيها ، فزاد ذلك من ثباتها ومضائها ، وقالت بينما كانت تخاطب نفسها من خلال مرآتها : - أنا لن أَخُوُن الأمانة ولن أُفَرِّط فيها !.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.