تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء الرابع بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 25 - 12 - 2013


4
جلس الشيخ زيدان النمر في ديوان الشيخ العصفوري وهو مكتئب حزين ، يستمطر الرحمة كما يستمطر القوة ، وهو الشيخ الطاعن ، بما أبقى له الزمن من وجه حفر فيه الشقاء كثيراً من الأخاديد ، وبما ترك له من صوت يوحي بما له من نشاط وفضل من قوة . فهو وإن كان في أعقاب العمر إلا أنَّ ذاكرته ما زالت نشطة تختزن الأحداث التي مرت بالقرية ، وتحتفظ بالكثير من الذكريات والصور التي لا تنمحي ولا تزول إلا بزواله نفسه .
عاش الشيخ زيدان في قرية بيت جبرين على حب أهلها واحترامهم له ، وإنه رجل يميل إلى المسالمة والمسامحة إن أساء إليه أحد ، ولم يشكُ هو من أحد ؛ كتوم على جراحات الحياة ، لا يتأوه ولا يضجر ولا يتبرم ، وإنما هو من ذلك النوع من الرجال الذين منحهم الله صبراً جميلاً، وهو دائم التوكل على الله ، يستعين به على قضاء حوائجه ، وعلى مجابهة ما يواجهه من مكرهات الأيام .
وها هو يجلس في ديوان العصفوري وإنه لفي مواجهة المكروه ، فتراه ينظر إلى السماء ، يحرك شفتيه بدعاء خفي إلى الله يستنصره ، وتختلج رموشه ، ويختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى المختار تارة ، وإلى العصفوري تارة أخرى ، ويحاول ما استطاع أن يقرأ ما في وجهيهما ويقارن بينهما ، لعله يستظل تحت فهم لقراءته ومقارنته . ويُحَوِّل بصره ذات اليمين وذات الشمال ، فيرى جمعاً من الرجال ؛ منهم مَنْ يعرفه ، ومنهم من لا يعرف ، ولكنَّ أكثرهم من رهط العصفوري أقرباء وأنسباء . وينطوي على نفسه يتعجل اللحظة التي يتكلم فيها العصفوري ليقف على حقيقة الأمر الذي من أجله دُعي إلى ديوانه . ولكنَّ العصفوري لم يتكلم ، إذ بدا منشغلاً بالحديث همساً إلى المختار وإلى بعض جلسائه ، منصرفاً عن الشيخ زيدان الذي استجمع كل ما في قلبه من رصيد القوة والشجاعة التي أنطقت لسانه ، فقال بعد فراغه من آخر رشفة من فنجان القهوة :
- ليأذن لي الشيخ بالحديث ، فلقد طال مكوثي في ديوانكم العامر، ولم تلتفت إليَّ .
نظر إليه الشيخ العصفوري وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة ، وتحوَّل معتذراً من جلسائه إلى محدِّثه ، فأوحى بحركة يديه عن صدق اعتذاره :
- تفضَّل يا شيخ زيدان ! تَحَدَّثْ بما تريد ، إني أسمعك .
- بل أنت الذي تريد .
وتطلعت عيون الحاضرين إلى الشيخ زيدان ، فإنَّ كثيراً منهم يعتقد أنَّ مجيئه كان لحاجة يقضيها له الشيخ العصفوري ، وتَحَدَّثَ الشيخ العصفوري قائلاً بصوت أسكت كل صوت وكل همس ، وأوقف كل يد ترفع فنجان القهوة إلى الشفاه ، أو تَلُفُّ سيجارة " الهِيشي" ، فخَيَّمَ الصمت ورفرف طائره في أجواء الديوان العامر بمريديه .
- لا تؤاخذني يا شيخ زيدان إن كنتُ قد انشغلتُ عنك حيناً.
- لا عليك ! عسى أن يكون خيراً .
- يا شيخ زيدان ، يا أبا بكر!.
- نعم !.
- لنا في ذمتك دَيْنٌ مستحق ، وقد فات استحقاقه .
تنفَّس الشيخ زيدان ، وأخرج كل ما بجوفه ارتياحاً ، ذلك أنه عرف عنوان الموضوع الذي من أجله أُحضِر إلى ديوان العصفوري ، وكم مر الزمن عليه ثقيلاً منذ أن أبلغه المختار : أنَّ الشيخ العصفوري يدعوه إلى ديوانه لأمر مهم ، وكم أخذته الظنون جيئة وذهابًا ، تُريه من أفانين الظنون ما لم يرَ مثلها من قبل . ولكن الآن وقد استبان له الأمر الذي له يجلس ، فليتحدث بنفس هادئة مطمئنة ما دام الأمر يتعلق بالمال ، لا بشيء أعز . ومسح عن شفتيه وكأنه يجلوها استعداداً لمخاطبة الشيخ العصفوري ، فقال :
- أعلم أنك قد مددتَ لنا في موعد استحقاق المبلغ ، وإنه لمكرمة منك أنك لم
تطلبه ، فبارك الله فيك !.
- كم ليرة معك الآن للسداد ؟.
- لم أكن أعلم أنك ستسألني السداد .
نظر العصفوري جهة المختار متسائلاً :
- ألم يخبرك المختار؟.
اختطف المختار الحديث من على لسان الشيخ زيدان قائلاً :
- لم أخبره عن شيء سوى أنك تستقدمه إليك لأمر.
- ولماذا لم تخبره ؟.
- لقد تركته لك يا شيخنا .
هَزَّ العصفوري رأسه ، وتوجه بالحديث إلى الشيخ زيدان :
- كم ليرة تأتينا بها غداً ؟.
- قد آتيكَ بما لا يزيد عما في جيبي الآن .
- وكم ليرة في جيبك الآن ؟.
- خمس .
- فقط ؟!.
- فقط !.
- خمس ليرات من دَيْن مجموعُه أربعون ليرة .
رفع الشيخ زيدان حاجبيه وبسط كفيه وقال بشيء من الاندهاش :
- هذا رقم يزيد عما هو لكم عندي أيها الشيخ .
صَوَّب العصفوري نظره في وجه الشيخ زيدان ، وقال بصوت فيه شيء من السخرية اللاذعة :
- وكم لنا عندك يا أبا بكر ؟!.
- خمس وعشرون ليرة بما فيها خراج هذا الموسم الذي لم ينته بعد .
نظر العصفوري إلى القوم فاحتواهم بنظراته متسائلاً :
- أين الكاتب ؟.
- لمْ يحضر بعد .
- أَرسِلُوا في طلبه ، ثم التفتَ إلى المختار قائلاً :
- ولكنك يا مختار أطلعتني على سجل الديون بحضور الكاتب وإذا بالدَّيْن أربعون ليرة . أليس كذلك ؟.
نهض المختار واختفى لحظات ثم عاد وبيده دفتر، وبينما كان يأخذ مكانه بجانب العصفوري ، قال مخاطباً الشيخ زيدان :
- ها هي صفحتك بخط يد الكاتب ، وعليك أربعون ليرة ، بما فيها قيمة خِراج عُشْر المحصول عن الموسم الحالي .
بسط الشيخ زيدان يديه قائلاً للمختار:
- قد تكون ناسياً يا مختار!.
قال المختار بصوت يدفع حجة الشيخ زيدان وهو يُلَوِّح في الهواء بدفتر كبير:
- هذا هو الدفتر بخط الكاتب وبصمتك عليه . فالذاكرة تنسى ، أما السجل المسطور فلا ينسى يا شيخ زيدان .
صَوَّبَ الشيخ زيدان نظرة خارقة إلى وجه المختار، وابتلع ريقه عندما سمع العصفوري يقول للمختار بلهجة فيها تهديد غاضب :
- إذن ، حوِّل الأمر إلى جاويش الدَّرَك .
وساد الديوان صمت ثقيل ، قطعه دخول الكاتب ، فنشر السلام ، وجلس بجانب المختار يرى ويسمع .
فقال الشيخ زيدان كمن يعتذر عن عدم قدرته على الإيفاء بالسداد :
- أنت تعلم أننا ما زلنا في موسم الحصاد ، فبعد الفراغ منه أُسَدِّدُ ما استطعتُ إن شاء الله .
- وكم ستدِرُّ عليك أرضك ؟! إنَّ غلاتك لا تكفيك قوت عامك وخراج موسمك ، فمن أين تأتيني بالباقي وأنت لا تمتهن تجارة ولا تملك بيَّارة ؟.
قال الشيخ زيدان على استحياء ، وهو يُخرج من جيبه ورقة نقدية :
- معي الآن خمس ليرات فقط ، خُذْها .
ضحك الشيخ العصفوري وقال :
- خمس فقط ، إنها لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر. أريد أربعين ليرة ، ولديك مهلة حتى مساء الغد .
- ومن أين آتيك بها وأنت تعلم حالنا وأحوالنا ؟ ثم إنَّ المبلغ الذي ذكره المختار
أزيد بخمس عشرة ليرة .
فانبرى المختار وهو يفتح الدفتر:
- عشرون ليرة مستحقات عن سنوات ماضية ، وتسع ليرات ( أو خِراج عُشْر المحصول ) عن هذا الموسم ، وإحدى عشرة ليرة ديون نقدية ، فيكون مجموعها أربعين ليرة .
قال الشيخ زيدان وهو يُقَلِّبُ كَفَّيْه :
- ليس صحيحاً ما تقول يا مختار.
فقال العصفوري ضَجِراً :
- عُدْتَ تخوِّننا يا شيخ زيدان . أريد المبلغ كله غداً .
- من أين آتيك به ؟.
- تَدَبَّرْ أمرك يا أبا بكر.
- كيف ، وليس عندي من الغلال فأبيعها لأُسَدِّد ما عليَّ ؟.
قال المختار:
- أنا لا دخل لي في الزيادة أو النقصان ، إنه دفتر الكاتب وها هو الكاتب أمامك .
ردَّ الشيخ زيدان بعصبية متجاهلاً المختار:
- ولكنك أيها الشيخ أدرَى بحالنا .
فقال العصفوري وهو ما زال متصلباً حازماً لا ينثني :
- هذا ليس شأني ، أريد ما ليَ عليك من دَيْن ، أم أراك تنكره ؟.
- كلا ! لم أنكر، ولكن ماذا أفعل ؟. والرقم أكبر...!!.
وهنا تَدَخَّل المختار مقاطعاً ، فقال بشيء من الوقار المصطنع ، متوجهاً
بالحديث إلى العصفوري يستعطفه :
- هل يأذن لي الشيخ الجليل ويوافقني على إعطائه مهلة أطول لتدبر أمره ؟.
قال العصفوري :
- إكراماً لك يا مختار أُمهله ثلاثة أيام فقط .
- وثلاثة أخرى من عندي . ماذا قلت ؟.
- لك ما قلت يا مختار.
- جزاك الله خيراً !.
ويتوجه المختار بالحديث إلى الشيخ زيدان مُوحِياً إليه أنه صنع له معروفاً .
- ما رأيك يا أبا بكر، لديك مهلة حتى مساء يوم الجُمُعة القادم ؟.
- حسناً ! وليتك تمهلني إلى ما بعد الانتهاء من موسم الحصاد .
ساد الصمت قليلاً، فاخترقه صوت العصفوري كمن يُحَدِّث نفسه بصوت مسموع متجاهلاً رغبة الشيخ زيدان .
- ولكنْ ، مَنْ يضمن لي حقي عند الشيخ زيدان إذا عاد ونسي ما عليه ؟.
ردَّ المختار قائلاً وهو يحيك نسيج الشَّرَك للإيقاع بالشيخ زيدان :
- الله سبحانه وتعالى يقول : " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " . فما رأيكما ؟.
قال الشيخ زيدان مستسلماً :
- افعلْ ما ترى يا مختار!.
وهنا نظر الشيخ العصفوري إلى المختار نظرة ، لو قُدِّر للشيخ زيدان أن يراها ويفهمها لما وضع نفسه هذا الموضع الذي سيجني منه وأولاده من بعده أشد الألم الذي تضج منه الصدور، وتئن منه النفوس ، ولكنه لم ير ولم يفهم ، فمال إلى مجاراة المختار وموافقة رأيه ، معتقداً أنَّ المختار قد قدَّم حلاً يرضي الطرفين ، الشيء الذي
أنطق العصفوري يأمر الكاتب :
- إذن ، اكتب عليه صكاً " كومبيالة " بأجل مسمَّى بشهادة المختار.
ومال المختار وهمس في أذن الكاتب يلقنه ماذا يكتب ، فَهَزَّ الكاتب رأسه وقد استوعب اللعبة ، فقام فأحضر ورقة ، وخطَّ عليها بقلمه " الكوبيا " ما تفتق عنه دهاؤه ، ثم قرأها على الجميع ، ثم ذيل الصك ببصمة الشيخ زيدان ، وأشهدَ عليه اثنين من الرجال الحاضرين ، ثم أخرج المختار ختمه الدائري ولعقه ثم مَرَّرَ عليه قلم " الكوبيا " ولعق ذيل الورقة وطبع ختمه عليها ، ثم طواها برفق عدة طيات ، وناولها للشيخ العصفوري الذي قال وهو يُجري إمضاءه عليها .
- هذا مستند لحفظ الحقوق من الضياع بأمر من الله تعالى .
فردد الشيخ زيدان :
- ونِعْمَ بالله وكيلاً وحسيباً !.
فنهره المختار قائلاً في همس مسموع :
- اسكت يا أبا بكر، واحمد الله الذي ألهم الشيخ ، وجعله يوافق على ما انتهينا إليه ، ولا تكثر من كلامك ، لئلا ينقض الشيخ ما اتفقنا عليه .
علَّق الشيخ زيدان نظره في وجه المختار وكأنه يتهمه ، ولكنَّ المختار يستمر في
همسه :
- لا تكن خَوَّاناً يا أبا بكر . يكفي أني وقفت بجانبك فأمهلتك جُمْعة كاملة .
فَهَزَّ أبو بكر رأسه مستنكراً دون أن ينطق لسانه بكلمة : شكراً لك .
دار الساقي بفناجين القهوة العربية ، وانحنى قليلاً وَصَبَّ للشيخ زيدان قهوته ، وقال بصوت مسموع وهو يُقَدِّم إليه فنجانه : " تفضَّل يا أبا بكر". ثم قال بهمس خافت : " لقد نَصَبُوا لك شَرَكاً فوقعتَ فيه " .
تناول الشيخ زيدان فنجانه وهو ينظر في وجه الساقي وكأنه يريد منه تفسيراً ، ولكنَّ المقام لا يسمح . فرشف العصفوري فنجانه ، وقال مخاطباً الشيخ زيدان :
- أَعلمُ أنَّ المارس (الحقل) الذي يجاورني من الجهة الشمالية هو لك ، أليس
كذلك يا أبا بكر؟.
قال الشيخ زيدان في فتور ظاهر:
- بلى ! أيها الشيخ الجليل .
أخذ العصفوري يتدرَّج في عرض حديثه وكأنه يسوق عصفوراً إلى حَبٍّ يلتقطه لِيَصْفِق عليه الفخ ، ويقع في قبضة الصياد .
- أنا يا أبا بكر مقبل على تزويج ولدي جاسر.
- مبارك !.
- وإني سأبني له داراً .
- عامرة بك وبأولادك .
- وأحتاج إلى توسعة .
- ربنا يزيدك !.
- وأريد أن أطرح عليك أمراً يخصُّني ويخصُّك .
وجم الشيخ زيدان ، وقال وهو يبسط كفيه على استحياء :
- لم أفهم .
- ما رأيك أن نتبادل المنفعة ؟.
عاد الشيخ زيدان إلى وجومه ، وحلق به خياله بعيداً ، وتبادر إلى ذهنه أنه يريد أن يفاتحه في أمر مصاهرته بزواج ابنه جاسر من ابنته سارة ، فماذا يقول له وقد ضاق مجلسه بين هذا الجمع من الرجال ؟. إنه يأبى أن يزوج ابنته من أحد أبناء العصفوري ، بل إنه يتعالى ويتسامى على العصفوري على الرغم من فارق الثراء والجاه والسلطان ، وكيف له أن يرفض الآن وهو في هذه الضائقة ؟ ! . " سأطلب منه مهلة ثم يكون الرد بعدم الموافقة ، وينتهي الحرج " ، ولكنَّ العصفوري قطع عليه أفكاره وهواجسه :
- تعطيني المارس الذي يجاورني ، وأعطيك المارس الغربي الذي تعرفه ، وأُسقِطُ
عنك ماليَ عندك من دَيْن ، أو تبيع وأنا المشتري ، فماذا تقول ؟.
- الأرض ليست لي وحدي .
- ومن يشاركك في ملكيتها ؟.
- أولادي سعيد وفيصل وسارة وأولاد ابني المرحوم بكر.
- إن كان على الأبناء فلا يحق لهم الاعتراض على أمر يبرمه أبوهم ، لا سيما أنك صاحبها ، وهي مُطَوَّبَة باسمك . ثم إنَّ أرضي التي أبادل بها أكبر من أرضك مساحة وأحسن موقعاً . وسيُرضيهم ذلك .
- ولكننا نعشق أرضنا ، ولا نفرط فيها أبداً لا بيعاً ولا مبادلة ، فهي أرض الآباء والأجداد وأرض الأبناء والأحفاد ، وتاريخ العشرة بيننا وبينها يمتد عبر آلاف السنين .
توقف المتحدثون عن الكلام حتى دارت فناجين القهوة على الحاضرين . وما هي إلا لحظات حتى خرج العصفوري عن اتزانه قائلاً بشيء من الحزم والعزم على مضاء الأمر ونفاذه .
- اسمع يا أبا بكر! سآخذ الأرض يعني سآخذها ، ولكنْ بِودِّي أن ينتهي ذلك باتفاق ، حتى لا تستعصي علينا مشكلة ، وحتى تظل المودة جارية بيننا .
- وكيف نتفق ؟.
- إما أن تبادل وإما أن تبيع بالسعر الدارج ، ولن أُنقص لك حقاً ، وإني أترك لك هذا الرأي بما تختار.
- وإن لم أوافق ؟.
- سآخذها بطريقة لا تُرضيك ، حينها لن تجد أرضاً بديلة ، ولن تقبض ثمنًا .
- إنك لتستطيع أيها الشيخ الجليل ، فأنت القوي ونحن الضعفاء . ولكن ، إنه لَأَهْوَنُ عليَّ أن تستولي عليها وتأخذها عنوة من أن أبيعها أو أبادل بها غيرها .
- ستخسر الأرض ، وقد تخسر ما هو أغلى من الأرض .
هَبَّ الشيخ زيدان واقفاً ، وقال وهو يضع عباءته السوداء على كتفه متهيئاً للخروج :
- ليس هناك ما هو أغلى من الأرض إلا الشرف الذي يَعْدِلُها ويرجح عنها .
وبُهِتَ العصفوري من رد الشيخ زيدان ، ولكن الأخير لم يطل به المقام ، فقال وهو
يتجه صوب الباب :
- أمَّا عن الدَّيْن ، فسآتيك به قبل أن تنقضي أيام الجُمْعة . بإذنك يا شيخ .
ووضع قدميه في نعليه وخرج بخطوات مسرعة تُنَبِّئُ عن الغيظ والغضب .
* * * * *
صاح الديك ففرض بصياحه فجراً على موت أهل القرية اليومي ، وتعالت ترانيم المؤذن بصوته العذب الذي يذوب رقة إيمانية ، تتهادى مع نسائم الصباح التي تتسلل إلى داخل البيوت تداعب أجفان النائمين فيستيقظون ، ويستيقظ الشيخ زيدان ويتهيأ للصلاة ، فتتعالى ابتهالاته في جنبات الدار، ثم يصلي الفجر وهو مثقل بالأحزان والْهَمِّ الدفين ، فيظهر ذلك على قسمات وجهه العابس .
أخذ الشيخ زيدان وزوجه وأبناؤه يتهيأون ليوم عمل شاق ، وخرج جميعهم يحملون المناجل وحبال التغمير وألواح الدرس والمناسيس ، وركبوا عربة يجرها حمار فتيٌّ ، قاصدين تلك الأرض التي أخرجت السنابل تمتلئ بحبوب القمح والشعير والعدس، وأخذت العربة تهوي بهم وتعلو، والشيخ زيدان مطرق في سهوم ، غارق في تفكير عميق .
ها هو اليوم الثالث يَمُرُّ، وقد تَمُرُّ الأيام الثلاثة القابلة دون أن يدبر أمره مع الشيخ العصفوري ، وأخذ يتساءل بينما كان حماره يطلق قوائمه للريح ، وتَخُبُّ بالركب عربة قد اشتكت من عمرها المديد الذي أنهك مفاصلها : ماذا يفعل إذا أُخِذَتْ منه الأرض أَخْذَ قوي مقتدر؟! . إنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مع العصفوري ورجاله ، وإنه لَيَخشَى أن يزج العصفوري بابنه في هذه التهلكة التي تزحف بطيئة من بعيد ، بل إنه لَيَخشَى أيضاً على ابنه أن يزج بنفسه في هذه المهالك ، تدفعه الحَمِيَّة لرد الظلم عن والد عجوز أمام جبار عتيد . فمَن يقدر على مواجهة العصفوري وجبروته ؟. ومن أين يأتيه بالمال وقد عزَّ عليه مطلبه ؟... وما باليد حيلة !. إلى مَنْ يلجأ ليمدَّ له يده
للاقتراض ، وهو يعلم أنَّ كثيراً من الأقارب والجيران والمعارف لا يحتكمون على هذا القَدْر من الليرات التي فرضها عليه العصفوري ، وهو يعلم أنَّ كثيراً من أهل القرية يعيش على ما تيسره لهم هذه الأرض من طعام وشراب ، بلا فائض يُدَّخَر. فمنها يأكلون إذا جاعوا ومنها يشربون إذا ظمئوا ، ومنها يلبسون إذا عريت الأجساد . ألا تستحق الأرض عشقاً وتمجيداً من أصحابها أنها تضمهم في حضنها في الحياة الدنيا، وحين يموتون ؟ فعجباً لمن يُفَرِّط فيها ! . وها قد جاء العصفوري يَحْجِل على نزعها منهم ، وخَلْعِهم منها. وتأوه الشيخ زيدان بصوت مسموع ، فسأله ابنه سعيد وقد لَفَته تأوه أبيه :
- ما بك يا أبتِ ؟.
قال الأب بصوت يخنقه الضيق :
- لا شيء ! .
- بل هناك شيء ، وإني أراك تُحدِّث نفسك ، كأنَّ هَمَّاً ثقيلاً يجثم عليك .
ابتسم الأب على الرغم منه ، وقال :
- أراك تهذي يا سعيد . ألا يكفي ما أصاب أباك من هذيان؟.
- وماذا عساني أن أفعل والأحمال ثقيلة...؟.
- أتشكو الأثقال ، وأنت لم تَرَ منها إلا ما خَفَّ حِمْلُه...؟.
- لماذا لم تصحبني معك إلى ديوان العصفوري ؟!.
- ما كنت أعلم سبب استدعائي ، فقد أخفى المختار عني ذلك .
- المختار !... آه من المختار، لقد جار علينا وتجاوز حدود الجور المألوفة من مخاتير قرى الخليل .
- دعك من المختار وانتبه لنفسك .
- وماذا ستفعل يا أبي ؟.
- سأذهب مساء اليوم إلى دار الشيخ عبد السلام .
- تستدين منه ؟.
- إما أن أستدين ، وإما أن أُقَدِّم له رهناً .
- الشيخ عبد السلام لا يأخذ رهونات .
توقف سعيد لحظة وقال بصوت خفيض :
- معي سبع ليرات... خذها .
- ماذا تقول ؟!.
- كنتُ قد ادخرتها من مصروفي لحاجة طارئة .
- حسناً ! بعد الحصاد أعيدها إليك .
وقالت أمُّ بكر:
- وأنا يا أبا بكر ، معي ثلاث ليرات ثمن ما بعته من بيض ودجاج .
ابتسم الأب وقال :
- هانتْ إن شاء الله !.
ولكز حماره ، فأسرع الخُطَى ، فأخذتْ العربة تعلو تارة وتهبط تارة أخرى، فجعلتْ ركابها يتمايلون يميناً وشمالاً من شدة القلقلة ، ومن كثرة ما كانت تَخُضُّهم وهي تجري على أرض ليست ممهدة .
وأقبل جميعهم على الزروع التي طالما انتظرت سنابلها قدوم المناجل ، واشتد حرُّ حزيران ، وتصبب العرق فابتلَّت الثياب ، وتعفرت الوجوه بالقش والغبار. والمنجل يحصد ، والحاصدون يغنون أغاني الحصاد ؛ الرجال يغنون ، والنساء يُرَدِّدْنَ تراويدهن ، والصِّبْيَة والصَّبايا يُغَمِّرون ، فيحزمون حصيدهم وينقلونه إلي البيدر.
وها هو سعيد لا يسمع إلا صوت المنجل فيزيد من شجوه ، ولا يرى إلا صورة سلمى تطل من بين عيدان القمح لا تبرح خياله ، فتلهب حنينه ويشتعل الحُب في حنايا صدره ، ويشتعل الحُب على شفرة المنجل ، فيقبِّل سنابل القمح قبلات طال انتظارها في لقاء يشتهيه كل العاشقين .
ومالت عين الشمس إلى الغروب ، فحان إغماضها ، وآن رجوع الحاصدين إلي بيوتهم ، ويلتقي الشيخ زيدان المختار أبا فوَّاز بعد صلاة العشاء على عتبات مسجد
القرية ، ويدور بينهما عتاب متبادل ثم يسأل المختارُ صاحبَه :
- ماذا فعلتَ بديون الشيخ العصفوري ؟.
- لقد جمعتُ نصف المبلغ تقريباً .
- والباقي ؟.
- لا أعلم ، فليتك يا مختار تقنعه أن ينتظر حتى الانتهاء من موسم الحصاد .
- وهل ستمطر عليك السماء ذهباً وفضة ؟.
- كلا ! ولكنْ أستطيع أن أميل على بعض الأقرباء والأصحاب فأستدين منهم ما يكفي للسداد .
وهنا حكَّ المختار ذقنه بأصابع يده ، وأطرق قليلاً ، وشعَّ في عينيه بريق أضاء وجهه ، وقال كمن عثر على شيء افتقده :
- اسمع يا شيخ زيدان .
- نعم !.
- سأساعدك ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا.
- وكيف ؟.
- سأُحَدِّث الشيخ العصفوري أن يؤجل سداد الدَّيْن إلى أن تنتهي من العمل في البيادر.
- يا ليت !.
- سأجتهد في هذا الأمر، بناء على طلبك أنت .
- يعني هل اطمئن ؟.
- إن شاء الله ، وعليك أن تذهب إليه يوم الجُمُعة القادم بعد المغرب ، وتعطيه ما لديك من نقود ، واترك الباقي عليَّ .
وانفرجت شفتا الحاج زيدان عن ابتسامة الرضا ، وقال :
- معروفك على عيني ورأسي يا مختار.
- أنا لا أَعِدُك ، إنها محاولة والأمل كبير في أن يستجيب لي العصفوري .
انسحبت الابتسامة من على وجه الشيخ زيدان وقال :
- وإذا لم يقبل ؟.
- أنت لا ترفض .
- ماذا تقصد ؟.
- لا تتعجل الأمور يا شيخ زيدان ، فأغلب الظن أنه سيستجيب .
ومضى المختار أبو فوَّاز وترك الشيخ زيدان حائراً تائهاً بين أمواج أفكاره .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.