باتت العسكرية في عالم اليوم «المتمدن» تشكل مهنة احترافية لها سياقها وأنشطتها ومهامها وحدودها الواضحة التي تفصلها عما عداها من المهن الأخرى كالسياسة والقضاء والطب والتجارة والنجارة والجزارة وغيرها. أيضا أصبح من المتفق عليه بالإجماع أن هذه المهنة العسكرية ومؤسساتها شأنها شأن غيرها من المهن الاحترافية تخضع نفسها للإدارة السياسية المدنية المنتخبة، ولم يعد مقبولا بالمطلق ذلك التداخل أو التماهي بين المهنة العسكرية والمهنة السياسية بالنظر إلى الآثار والتشوهات التاريخية المدمرة للحياة المدنية الطبيعية والتي أحدثها هذا التماهي عبر العالم في التاريخ المعاصر. الجيش المصري -كمثال- كان له دور مشهود في إنجاز قضية التحرر الوطني، وبفعل سياساته المنحازة للفقراء والقضايا القومية الكبرى وخوضه لحروب عديدة في هذا الصدد تمكن من إحكام سيطرته على عالم السياسة وعسكرة علاقاته، وبالرغم من محاولات إضفاء الطابع المدني الشكلي على مؤسسات السلطة وعلاقات الصراع السياسي من خلال إيجاد أطر تنظيمية كالاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، ثم الحزب الوطني الساداتي، ثم الحزب الوطني في نسخة مبارك ثم جمال مبارك وغير ذلك. مع تسنم السادات السلطة ومن بعده مبارك تلاشت معظم المكاسب التي كان الفقراء قد تحصلوا عليها، وتآكلت جل فرص الحراك الاجتماعي والاقتصادي وتبخرت كل المثاليات القومية، وخرجت قضاياها «عمليا» بشكل نهائي من أجندة العسكر وبقي استبدادهم عاريا من أي قيمة وكان قانون الطوارئ هو سيد الموقف. ويمكن القول إن عسكرية مبارك تمكنت من العمل في ستة مسارات رئيسية لتوطيد حكمها: - المسار الأول هو خلق شبكة مصالح مشروعة وغير مشروعة أعطت مكاسب وامتيازات هائلة لمنتسبي المؤسسة العسكرية والأمنية بلغت حد الرفاهية والتدليل، وبما يضمن ولاءها للقيادة المتمثلة في مبارك ورئيس المجلس العسكري والقائد الأعلى للقوات المسلحة. - المسار الثاني ويتمثل في البناء على سمعة وشعبية الجيش المصري في الضمير العام وخلق هالة من القدسية لدوره وجعله رصيدا احتياطيا استراتيجيا لأهداف أخرى غير حماية سيادة الدولة. - المسار الثالث اختراق السلطة القضائية وتجييرها والسيطرة عليها من خلال موظفين شديدي الولاء (باطنيا) للنظام ورموزه واتجاهاته، مع الحرص على تدعيم هالة القدسية التي تمتلكها هذه السلطة لدى الشعب المصري وعمل كل ما من شأنه من تمثيليات تؤكد للعامة والخاصة عظمة واستقلالية وشجاعة وقوة القضاء المصري، وبما يحول هذه السلطة إلى رصيد احتياطي استراتيجي مساند وقت الأزمات كما سيتضح لاحقا للجميع. - المسار الرابع ويتمثل في خلق وتدعيم أحزاب وشخصيات معارضة من مثقفين وسياسيين وعلماء دين وأساتذة جامعة ونقابيين وصحافيين وناشطين وفنانين (تحت إشراف المخابرات) تكسب وتحتوي قطاعات من الشارع، بخطاب معارض قوي وجريء وواقعي وإمدادها بكل ما يساعدها على جذب الإعجاب والإبهار وبحيث تلعب هذه الشخصيات والأحزاب أدوارا مزدوجة فهي تهاجم النظام (بكل ما يعرفه الناس) ولكنها -في ذات الوقت- تهاجم وبشراسة كل خصومه ومنافسيه الحقيقيين من أصحاب المشاريع التغييرية النهضوية الحقيقية، وبذلك تخلط الأوراق وتجعل من التغيير حلما مستحيلا، ولك أن تشاهد أحد أفلام عادل إمام مثلا أو تقرأ مقالا لعادل حمودة، أو تسمع خطابا للسيد البدوي وغيره. - المسار الخامس اختراق وتشويه وقمع وسحق كل معارضة حقيقية ذات مغزى ومشروع وتنظيم فعلي أو محتمل، ومنها حركة كفاية أو الإخوان أو غيرهم. - المسار السادس الاحتكار أو السيطرة على كافة مناحي الحياة الثقافية والنقابية والاقتصادية ما أمكن، والمزاوجة بين الاقتصاد والسياسية وبحيث تحول «العسكر -الساسة» وأبناؤهم وأصهارهم إلى أهم محتكرين للأعمال والتجارة والصناعة في كل المجالات بدءا من المقاولات العملاقة إلى احتكار الحديد والصلب إلى احتكار التكنولوجيا والسيارات والأجهزة والسياحة بشركاتها وقراها ومشاريعها المهولة التي تمتد على طول مصر وعرضها على طول الساحل الشمالي وشواطئ سيناء وعلى امتداد النيل وفي كل المواقع الأثرية وغير ذلك من القطاعات والأنشطة. كل هذه المقدمة يمكن أن تفسر لنا ما يتم تداوله حاليا حول مفهوم الدولة العميقة أو بالأصح النظام العميق أو الخفي الذي يتأسس على شبكة مصالح (عصابية) غير مشروعة لها واجهة وحامل مؤسسي يتمثل في أجهزة المخابرات والأمن والأشكال السياسية والإعلامية والمالية لتشكل معا هرما سلطويا تقع المؤسسة العسكرية على رأسها ويقع الرئيس في ذروة هذا الرأس. مع اندلاع ثورة 25 يناير العظيمة استنفذ النظام المصري كل إمكانياته وخبراته التاريخية القائمة على الدعاية الرهيبة والاختراق المخابراتي والقبضة الأمنية على أمل سحق هذه الثورة كما سحق غيرها، وحينما لم يعمل كل هذا بدأ يحس بخطورة هذه الحالة الاحتجاجية غير المسبوقة رافضا الاعتراف بها كثورة ومقدما عروضا وتنازلات شكلية كان أوانها قد فات كثيرا. كان الشعب يريد إسقاط النظام ورموزه متمثلا في مبارك وأبنائه وحكومته وقيادات حزبه، وأنه لا تراجع عن ذلك مهما كان عدد الشهداء وحجم القتل والدمار. هنا فقط أدرك النظام العميق «العصابة» أنه لا بد من عمل غير اعتيادي للالتفاف على هذه الثورة وامتصاص زخمها وإيهام الشعب بالانتصار، وعليه فقد بدا أنه لا مناص من التضحية بمبارك وأبنائه وبعض رموزه ككباش فداء للحفاظ على العصابة الكبيرة، ومن هنا تم استدعاء الجيش المصري متمثلا في المجلس العسكري كمخلص ومنقذ للشعب المصري، وبذلك انتصرت الثورة نهائيا.. هكذا ظن الجميع!! ولكن هذا النظام العصابي الخفي بقيادة العسكر كان له رأي آخر وخطط أخرى. لا أطيل عليك أخي القارئ ففيما سبق شرح وتوضيح وتفسير لما حدث على مدار عام ونصف من عمل دؤوب لشق صف الثورة والتحريش بين مكوناتها والتحريض ضد قواها الفاعلة وبث ثقافة التخوين والاتهام بسوء النوايا وتعمد العسكر غض الطرف عن الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي المعيشي من خلال حكومة معدة لهذا الغرض، وذلك في محاولة لتكفير الشعب المصري بثورته، مرورا بتعطيل المؤسسات الشرعية المنتخبة وعزلها وتشويهها لصالح مؤسسة القضاء وموظفيها التابعين للمجلس العسكري والذين يعملون بالريموت كنترول شأنهم شأن موظفي اللجنة العليا للانتخابات، وبما يضمن إعادة إنتاج نظام مبارك وبنفس شخوصه متمثلا في أحمد شفيق (رئيس وزراء مذبحة موقعة الجمل) وذلك من خلال حيل ومخارج قانونية مكشوفة ومتبجحة تتعارض مع روح القانون والدستور الذي يفترض أن يمثل إرادة الشعب، وأخيرا حل مجلس الشعب الذي جاء بقرار 30 مليون مصري وذلك من خلال مجموعة من الموظفين الذين يسمون أنفسهم قضاة دستوريين، ولتوالى سلسلة الانقلابات العسكرية متمثلة في الإعلان الدستوري المكمل والذي يجعل من المجلس العسكري سلطة فوق كل السلطات المنتخبة، بما في ذلك الرئيس، مدعما بحق الفيتو على أي تشريع، ومدعما بحق الضبطية القضائية لقوات الشرطة العسكرية، «يعني قانون الطوارئ من جديد». أخيرا من خلال فهمي المتواضع لوعي القوى الثورية المتراكم لهذه الخطط، وتزايد مناعتها ضد ألاعيب العسكر ومن يدور في فلكهم وتصميمها النهائي على إيصال الثورة إلى أهدافها كاملة غير منقوصة، فإني أقول إنه لا مستقبل ولا أمل ولا إمكانية لأن تصل خطط وانقلابات عصابة مبارك بقيادة العسكري إلى منتهاها في إعادة إنتاج نفسها والقضاء على الثورة، ولكن ما يخيفني هو الرعونة السعكرية المتزايدة والفجة في جر القوى الوطنية الثورية نحو التصادم الشامل والذي قد يتفجر في حال تم سد كل أفق للتحول الديمقراطي السلمي عبر انتخابات الرئاسة (إما بالتزوير أو بتعطيل صلاحياته) مع المضي في قرار حل البرلمان بالكامل والتمسك بخيار الانقلابات. إن هذا هو السيناريو الأخطر الذي يمكن أن تنتظره مصر وشعبها المطحون أصلا، وهو الخيار الذي سيعصف أول ما يعصف بهذا النظام العصابي الشرير، ولكن يعلم الله كم سيكلف هذا، وكم ستكون الفاتورة، وكم سيكون الدمار؟ حفظ الله مصر وأهلها، وأعان مخلصيها على استخلاص مصرنا الحبيبة من يد هذه العصابة الغاشمة التي يسمونها خطأ بالدولة العميقة. *باحث في شئون الجماعات السياسية