ما يزال أمام مصانع الأسمنت الجديدة التابعة للقطاع الخاص مزيدا من الوقت لممارسة الاحتيال الذي يمرره مجموعة من الفاسدين في مصلحة الجمارك والهيئة العامة للاستثمار ما يترتب عليه فقدان خزينة الدولة 14 مليون دولار سنويا تعادل ثلاثة مليارات ريال.. إذ تقوم الهيئة العامة للاستثمار ومكتب الجمارك في الهيئة بمنح مصانع أسمنت (الوطنية، الوحدة، بقشان) إعفاءات جمركية بنسبة 50% لمادة الفحم الحجري المستورد من قبل المصانع الثلاثة بحجة استخدامه كمادة خام رئيسية في صناعة الاسمنت ضمن مدخلات الإنتاج.. لكن الواقع عكس ذلك تماما، حيث يتم استخدام الفحم الحجري من قبلها كوقود أقل كلفة في صناعة الأسمنت بدلا عن المازوت والديزل اللذين تم تحرير أسعارهما من قبل الحكومة لمصانع الدولة والقطاع الخاص قبل أربع سنوات تقريبا لتتخلص من جزء هام من فاتورة دعم المشتقات النفطية التي تثقل كاهل الخزينة العامة للدولة. وبحسب مختصين فإن الفحم يستهلك بنسبة 95% اثناء الحرق في الفرن ويتحول إلى طاقة حرارية تستخدم في حرق المواد الخام المكونة للأسمنت بينما يتطاير ما تبقى من الرماد في الهواء وما تبقى منه -والذي لا يتجاوز 2%- ولا يمكن التخلص منها تقوم المصانع بخلطها مع الأسمنت. ولأنها نسبة بسيطة فإنها لا تؤثر على جودة الأسمنت لاحتواء ما تبقى من الفحم المحروق على عنصر السيلكا، لكن في حال زيادة نسبة الرماد إلى مكونات الأسمنت فإن جودته تقل كما هو معروف في صناعة الأسمنت. وهو ما يؤكد أن الفحم الحجري المستورد من قبل المصانع الثلاثة يستخدم كوقود فقط وغير مرغوب باستخدامه كمادة خام في صناعة الأسمنت بخلاف ما تدعيه هذه المصانع عند تقديم طلباتها بين الحين والآخر إلى الهيئة العامة للاستثمار ومكتب الجمارك بالهيئة للحصول على الإعفاء الجمركي بحجة أنه يدخل ضمن مكونات الإنتاج حيث يتم إضافة الفحم إلى الأسمنت لتحسين الجودة. في منتصف يونيو الماضي بعث أحد المختصين في جمارك ميناء عدن تقريرا عبر الفاكس إلى مكتب رئيس مصلحة الجمارك محمد زمام لإبلاغه بعملية الاحتيال الجارية بشأن الإعفاءات الممنوحة لمصانع الأسمنت على وارداتها من الفحم. وتضمن التقرير المذيل في أسفله بعبارة “مقدم التوضيح/ موظف بجمرك ميناء عدن“ تفاصيل عما يجري ومعلومات تفصيلية ومبررات تؤكد عدم أحقية تلك المصانع للحصول على الإعفاءات الجمركية كون الفحم الحجري يستخدم كوقود بدلا عن المازوت والديزل وبالتالي لا يجعله أحد مدخلات الإنتاج التي تستحق إعفاءات جمركية وما يلحقها من إعفاءات ضريبية للفحم الحجري لكونه ليس من مدخلات الإنتاج حيث أنها تحصل على إعفاءات ضريبية بنسبة 11% من الفحم المستورد. 120 مليون دولار تستورد المصانع الثلاثة فحما حجريا بما قيمته 120 مليون دولار سنويا وهذه الإعفاءات تهدر على الدولة إيرادات جمركية وضريبية بقيمة 14 مليون دولار سنويا. وبين التقرير أن كلفة إنتاج الطن الواحد من الأسمنت تبلغ 50 دولارا بواسطة الديزل والمازوت بينما إنتاجه عبر وقود الفحم الحجري (المعفي) تبلغ 25 دولارا وأنه في حالة عدم منح الإعفاء ستكون تكلفة إنتاج الطن بوقود الفحم 27 دولارا امريكيا اي بزيادة دولارين فقط على كل طن أسمنت في حين تبيع هذه المصانع الطن للمستهلك (20 كيسا) بما يزيد عن 150 دولار وهو ما يدل على الربحية العالية التي تجنيها شركات الأسمنت ومع ذلك ما تزال مصرة على الاحتيال على الرسوم الجمركية. وأكد معد التقرير أنه حتى لو تم الترسيم الجمركي كاملا على الفحم، فإن الزيادة النهائية في التكلفة على المصانع ستكون 29 ريالا فقط على كل كيس وهي زيادة لا تذكر مقارنة بالأرباح التي تجنيها الشركات باستخدام وقود الفحم الحجري. التقرير الذي حصلت صحيفة الناس على نسخة منه، يظهر عليه ختم مكتب رئيس المصلحة كبريد وارد، وفي أعلى التقرير توجيهات من زمام التي قال فيها “يحال إلى الإدارة العامة للإعفاءات حسب الاختصاص.. والاداري (يقصد إدارة الشؤون الادارية) ما وجه الاعتراض من قبل هذا الموظف الذي لم يفصح عن اسمه“.. ويبدو أن رئيس المصلحة زمام لم يفكر مليا في مضامين التقرير الذين يكشف عن واقعة فساد تفقد خزينة الدولة هذا المبلغ الكبير سنوياً، ولو أنه أمعن في التفاصيل جيدا لأدرك عدة قضايا أهمها أن المختص الذي أرسل التقرير لم يذكر صفته، وبالتالي، ما الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه هذا المختص إن كانت معلوماته غير صادقة؟! والأمر الثاني أن المختص لم يذكر اسمه ليقينه أنه قد يتعرض للانتقام كون المستفيدين في الجمارك وهيئة الاستثمار لن يقبلوا بكل يسر أن يتسبب شخص في حرمانهم من عدة ملايين يحصلون عليها مقابل تمرير هذه المخالفات عبر هيئة الاستثمار ومصلحة الجمارك. والأبرز أن المختص طالب رئيس مصلحة الجمارك في نهاية التقرير بتشكل لجنه للتأكد من دقة المعلومات التي بعثها وأنه لم يقدم هذه الإيضاحات إلا حرصا على المصلحة الوطنية ما يشير إلى أن القضية تستحق اهتماما أكبر وليس مجرد شخطة قلم على رأس التقرير وكأن وظيفته كرئيس للمصلحة لا تتعدى سوى التعامل مع الأمور بنوع من إسقاط الواجب. ولو أن زمام أجهد نفسه لبرهة من الوقت، لطلب من الإدارة المختصة بيانات عن كمية وقيمة الفحم الحجري المستوردة وكم إجمالي الرسوم الجمركية المحصلة فعليا وكم الفارق المختفي؟! وما تزال الإعفاءات الجمركية واحدة من أهم الأبواب المفتوحة على مصراعيها للفاسدين وتفقد الدولة عشرات المليارات سنويا، خاصة وأن غير المستحقين للإعفاءات بموجب القوانين الحالية يحصلون أيضا عليها بوسائل عدة، ويمرر هذه الاحتيالات نافذون في مصلحة الجمارك مقابل رشاوى كبيرة يحصلون عليها.. ورغم المصاعب المالية التي تعاني منها الدولة، لا تلوح في الأفق مؤشرات على أي تحركات من قبل وزارة المالية وحكومة الوفاق لمواجهة النهب والإهدار المنظم للإيرادات الجمركية. *صحيفة الناس