وصلنا بحمد الله إلى مدينة «اب» العامرة ليلا وقد خف المطر وانفرجت عنها الغيوم السوداء، مدينة تشرح الصدر فأهلها في حركة دائبة ووجوهم نظرة من صحة الأكل الذي تجود بهم أرضهم الغنية، وقفنا أمام المسجد وصلينا به المغرب والعشاء قصرا وجمعا وكان بجانبه مطعم قد عني بشكله فأكلنا حتى شبعنا، ثم سألت «محمد» هل يوجد فندق في أعالي الجبل نبيت فيه، قال يوجد لكنه بعيد عن هنا، قال بوعبدالله الطريق أنهكنا وعلينا أن نرتاح في أي فندق قريب لمشوار الغد، وأين مشوار الغد يا محمد, قال: «جبلة». ومن ساعات الصباح الأولى استعددنا لمدينة «جبلة» فسارت بنا السيارة تائهة الوجهة الصحيحة لها، حيث ان أخونا محمد لم يزرها من قبل، لكن أولاد الحلال أرشدونا إلى طريقها فترآت لنا من بعيد بيوتها الجبلية المتلاصقة على سفوح جبالها الخضراء تشق مناراتها العتيقة سماءها الجميلة، دخلناها من شوارعها الضيقة حتى وصلنا إلى مكان بالقرب من مسجد ابيض اللون تأملت منارته واستوقفتني زخرفته اليمنية، وصوت بوعبدالله يناديني: بوحسين... بوحسين؟ فانطلقت إليه جريا وإذا بالدليل اليمني يستقبلنا بابتسامته: يا مرحب يا مرحب انتم الآن في جبلة التي تقع إلى الجنوب من مدينة إب ,وهي عاصمة الملكة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي التي انتقلت إليها من صنعاء في العام 458 ه توفي أبوها وهي طفلة وتزوجت امها فكفلها عمها علي بن محمد الصليحي وزوجته أسماء بنت شهاب، كان عمها الملك علي معجباً به ا فكان يوصي زوجته بقوله: «أكرميها فهي والله كافلة ذرارينا وحافظة هذا الأمر على من بقي فينا». ذكرها المؤرخون على أنها جانب كبير من الأخلاق الفاضلة إلى جانب ما تمتعت به من جمال الخلقة، فكانت بيضاء اللون مشربة بحمرة ,كاملة المحاسن جهورية الصوت، قارئة، كاتبة، تحفظ الأخبار والأشعار والتواريخ وأيام العرب، ولها تعليقات وهوامش على الكتب تدل على غزارة علمها، وكان يقال لها «بلقيس الصغرى»، لرجاحة عقلها وحسن تدبيرها. أخذنا الدليل إلى «دار العز» المكون من 360 غرفة أي على عدد أيام السنة اتخذتها السيدة أروى مقرا لحكمها، لم نلف الغرف كلها فقد كانت أعمال الترميم قد شغلت الجزء الكبير من القصر استغربنا عمارة القصر وسر عدد الغرف قالوا إنها كانت تبيت بكل غرفة على عدد أيام السنة، سألنا الدليل عن السبب قال: لا اعرف؟ لكنني اعرف رواية مشهورة عنها ان الملكة أروى حين تزوجت زوجها الثاني بغير رغبة أبعدته عن الجماع، وقالت له بالحرف: من ينشغل بالحكم لا يقرب النساء؟ وهي التي أمرت يوما كما تذكر الاخبار زوجها الأول المكرم احمد بن علي الصليحي، الذي كان يرغب بالسكن في مدينة صنعاء بأن يحشر الناس إلى الميدان فحشرهم، وقالت له أشرف عليهم... وعندما أشرف عليهم لم يقع بصره إلا على برق السيوف ولمع البيض والأسنة... ثم انتقل المكرم مع زوجته إلى مدينة جبلة وأمرته بأن يجمع الناس ويحشرهم إلى ميدان جبلة فحشرهم، فقالت له أشرف عليهم وعندما أشرف عليهم لم يقع بصره ألا على رجل يجر خروفاً وآخر يحمل ظرفاً فيه سمن أو عسل. وآخر يخرز نعلاً... فقالت له العيش بين هؤلاء أصلح... فانتقل المكرم بعد ذلك إلى مدينة جبلة واختط فيها دار العز واتخذها عاصمة للدولة الصليحية (479-532 هجرية). انتهينا من القصر ونزلنا من علياء طوابقه التي أشرفت على مدينة جبلة، ذهبنا إلى جامعها الجميل الذي سمي باسمها بعدما حولته من دار سكن إلى جامع يسكنه ضريحها المزخرف، والجامع كما يذكر الكاتب عارف ابوحاتم في مقالة له لا يزال قائماً ويحتفظ بعناصره المعمارية الزخرفية التي يتبين من خلاله مدى تأثره بأنماط العمارة الفاطمية. فالعلاقة كانت طيبة ووطيدة بين الدولة الصليحية في اليمن، والدولة الفاطمية في مصر» تجولنا بالمسجد وقرأنا الفاتحة على ضريحها وأدخلنا غرفة صغيرة بجانب رواق الصلاة فاخرجوا لنا سبحة طويلة ذات ألف حبة كبيرة مصنوعة من الخشب وقالوا إنها للملكة أروى كانت تسبح بها أناء والليل وأطراف النهار.