ما يجري في اليمن حاليًا أكبر من أن يكون مجرد صراع سياسي بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، واعتصامات الشباب السلميَّة حققت ما هو أهم وأجدى من تغيير رئيس وإسقاط سلطته.الأمر الذي يدفعنا للقول بأن ثورة الشباب اليمنيين اكتسبت بعدًا إنسانيًّا يميزها ويرتقي بها عن الحدث السياسي المعتاد تكراره في قلب المشهد العام. الاعتصامات السلميَّة مكَّنت الشباب من العثور على وطنهم المفقود، وفيها وجدوا أنفسهم وفي بيئتها المأهولة بقيم الحرية بدءوا يرسمون ملامح مستقبل اليمن الجديد (الوطن الحلم). في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء ثمة يمن جديد آخذ في التشكل تتوفر فيه حقوق المواطنة، وطن يخلو من السلاح والعنصريَّة والرشوة، وتتآلف فيه مكوناته المتناقضة بانسيابيَّة عجيبة تحيل من التنوع الثقافي والاجتماعي، لوحة أسرة للدهشة حافلة بخصائص المجتمع اليمني وسلوكيات أبنائه الطيبين بمختلف مظاهرهم الثقافيَّة. وفقًا لمقولة صديقي أوراس الإرياني (الإنسان اليمني بدون سلاح يبدو جميلا كما هو في ساحات الاعتصام)، والحياة أيضًا بدون سلاح تبدو أكثر هدوءًا في اليمن. بيئة الاعتصامات السلميَّة وفَّرت للشباب المعتصمين من أجواء الحريَّة وقيم الديمقراطيَّة ما لم توفره جامعة صنعاء الأكثر سوءًا والأكثر رتابة بين جامعات العالم العربي، وفي أماكن الاعتصام وجد الشباب المتنزهات والأندية والمسرح الذي لم توفره حكومة صالح العبثيَّة، وهناك يتعلم الشباب كيف يقبلون ببعضهم وكيف يديرون خلافاتهم، وفيها يتحاور اليساريون مع المتدينين بهدوء وانسجام بعيدًا عن بوادر العنف المتوفرة في الحوارات الرسميَّة خارج الساحة. أمَّا على المستوى العام فإن مردودات الاعتصامات السلميَّة أكثر من أن تُحصى، ومنها رد الاعتبار الإنساني للهويَّة اليمنيَّة بين الأمم والشعوب وعزَّزت ثقة الإنسان اليمني بنفسه، والذي وجد في هويته الآن ما يجعله يشعر باعتزاز بالانتماء إليها. لقد أثبتت الاعتصامات السلميَّة للعالم مدى تحضر الإنسان اليمني وسمو أخلاقه وأنه أبعد ما يكون عن الإرهاب، كما كانت تصوره وسائل إعلام الرئيس وممثليه في السلك الدبلوماسي. فها هم أبناء قبائل اليمن الأبيَّة يتوافدون إلى ساحة الاعتصام عزَّلا من الأسلحة ويتحلَّون بأخلاق الصبر والسكينة في مواجهة الاستفزازات الأمنيَّة والهمجيَّة التي تحاول جرّهم إلى مربعات العنف والمواجهات الدامية التي يسعى صالح إلى فرضها على اليمنيين قبل رحيله. كما أن وحدة مكونات الثورة وتناغمها في ساحة الاعتصام اسقطا كل المراهنات المروِّجة لمشاريع التمزق والتناحر المتحوصلة في عقليَّة صالح المكتظة بأشباح الضحايا وويلات الحروب. الآن نستطيع القول بأن سلطة صالح سقطت فعليًّا ولم يبقَ إلا أن نطوي مرحلة حكمه ونرميها في أقرب مقلب للنفايات التاريخيَّة. أما انفراط مسبحة شاغلي الوظيفة الرسميَّة واستقالات كبار دبلوماسيي اليمن في الخارج وكبار العسكريين في الداخل وانضمامهم إلى ساحة التغيير، فهو دليل واضح على أن الاعتصامات السلميَّة أقنعت الضمائر الإنسانيَّة والعقول المستنيرة بعدالة مطالبها، فاندفع غالبية اليمنيين من مختلف مواقعهم للانضمام إلى ساحات الاعتصام، ولم يكتفِ بعضهم بمجرد تأييد مطالب الشباب، بل أعلن استعداده وكلَّف نفسه واجب الدفاع عن المعتصمين، كما فعل اللواء الركن علي محسن صالح، الذي كان إعلان انضمامه لساحة التغيير أشبه بالفتح المبين لثورة الشباب في اليمن، خصوصًا أن كبار قادة الجيش اليمني حذوا حذوه وأعلنوا انضمامهم إلى ثورة الشباب عقب إعلانه. في مشهدٍ يبدو فيه قذافي اليمن معزولا عسكريًّا ومنبوذًا شعبيًّا محتميا بكتائب إجرامية من البلطجيَّة والمأجورين، تتجلى المردودات الإيجابية للاعتصامات السلميَّة في أزهى صورها، ناهيكم عن أن مجزرة الجمعة البشعة كشفت الستار عن وجود صراع أخلاقي بين شباب ثوار تُحتِّم عليهم أخلاقهم السامية انتهاج الوسائل السلميَّة في تحقيق مطالبهم وبين حاكم مستبد تدفعه أخلاقه الإجراميَّة إلى مباغتة الأبرياء بالقتل الغادر، وهنا تتضح أهمية المقارنة بين أخلاق الفريقين ومشروعيَّة مطالبهما