تأتي أهمية القياس التربوي الصحيح من ناحية كونه يفصح عن المستوى الحقيقي للطالب/ الدارس ، والذي على ضوئه في ظل عمل تربوي منظم يتم تحديد حجم القدرة الإبداعية بحيث يتم إعدادها في النطاق العلمي المناسب لها. والواقع أن عملية القياس في بلادنا قد شهدت محاولات عديدة لإزالة مايقع فيها من أخطاء تعترض طريقها نحو النتائج الصحيحة والمستويات الدقيقة.. بيد أن رجال التربية أنفسهم لايزالون يعترفون بأن العملية التعليمية لازالت ثمة أخطاء في القياس جاثمة على صدرها ، وكم مرة حاولت النهوض فأركستها في مهاوي العشوائية والنمطية والتكرار ، لكن هذا التقهقر والانحدار الذي تشهده عمليات القياس والتقويم لاسيما في مستويات الاختبارات المعيارية النهائية لم يكن من يقف وراءه هو قصور في النظام التعليمي فحسب وإنما هذا النظام نفسه لايزال أسيراً لرؤية مجتمعية متأخرة تصبغ التعليم بلون البطولة وتقيسه بمقياس الهزيمة أو النصر وليس بمقياس النجاح أو الفشل ، ولذا فهي صاحبة اليد الطولى في صناعة القياس الخاطئ في أغلب مؤسساتنا التربوية والتعليمية. لقد تكاثرت المؤسسات التعليمية وتزايدت أعداد العاملين فيها بفعل جهود متواصلة وهموم متطلعة وسنوات من البناء والإعداد والانفاق واثبتت نجاحاً مشهوداً أعظمه تعليم المرأة وتثقيفها وفي كل ذلك كان المجتمع في الطرف الآخر يقف بخيله ورجله شاهراً سيف العيب والمصلحة أحياناً وسيف المزاجية في أحايين أخرى. إلا أنه يمكن القول إن تلك الخطى الحثيثة استطاعت بفضل الإصرار التغلب على جل تلك العقبات لكنها لازالت تقف عاجزة أمام تلك الرؤية المجتمعية التي تقيس الاختبارات وتقويم الطلاب بمقياس آخر خارجاً عن إطار التنمية البشرية والمعرفية. فجميعنا يعرف أن اختبارات الشهادتين الأساسية والثانوية اختبارات مفصلية في حياة الطالب العلمية يتم بعدها الانتقال إلى مرحلة أخرى أكثر اتساعاً في أطر المعرفة وتنوع مصادرها ودور الطالب هنا ليس سوى إعداد نفسه معرفياً وثقافياً مما يطلبه منه المنهج المدرسي بمختلف جوانبه المعرفية والنشاطية والمهاراتية. والذي أقصده أن الطالب / الدارس هو المسؤول الأول عن نفسه وعن توفير جو نفسي وهمة عالية يصنع بها مستقبله.. أي أنه لكي يصل إلى النجاح المشهود فهو ملزم بأن يعطي الاختبارات حجماً كبيراً يوازي حجم تطلعاته وآماله.. أما دور المجتمع فهو دور يجب أن يقف عند حدود توفير الاجواء المستقرة ، والآمنة وتهيئة المكان والزمان المناسبين للطلاب للقراءة والمراجعة طيلة أيام الدراسة ولايمكن لهذا الدور أن يتاتى إلا من خلال رؤية اجتماعية يتبناها المجتمع تعرف حقيقة العلم وتؤمن بالنجاح. والذي أسعى الوصول إليه أن هذه الرؤية قد غابت لتحل محلها رؤية طارئة كما اشرنا سابقاً تقيس الاختبارات بجميع مستوياتها بمقياس عبثي قادها لتخيّل الاختبارات وكأنها حرب ضروس يخوضها الطالب ولذا يتوجب على ولاة أموره »عاقلته« وحلفائه نصرته ب»البراشيم« وإلقاء الخطب الحماسية الهادرة من خلف أسوار المدارس والتي تصدح بالاجابات النموذجية وهذا بحد ذاته نتاج لتلك الرؤية.. أما مظاهرها طيلة أيام الدراسة فهي حرمان الطالب من أوقات الفراغ واشغاله في تلبية طلبات المنزل أو المتجر بحجة الإذعان والطاعة وخفض الجناح أو عدم متابعة الابناء وحثهم على الاطلاع ومراجعة الدروس..وحتى إذا ما دقت الاختبارات طبولها هب الاخوة والآباء والحلفاء واعلنوا حالة الطوارئ للبحث عن ثقب يستطيعون من خلاله انفاذ الضوء إلى تلميذهم الذي يسبح في ظلمات الفراغ المعرفي وفي سبيل ذلك قد يبذلون ما بأيديهم لإنقاذه وإذا لم تيسر ذلك فقد يلجأون إلى تهديد المراقبين واعضاء اللجان الاختبارية ، إما بإحراق المدرسة ومن فيها أو بتفجيرها أو بإحداث شغب يتعسر معه اتمام عملية الامتحان وغيرها من الوسائل الأخرى المشينة التي تكسر هيبة العلم وتسلب مكانته وتحدث شرخاً في منزلته في النفوس وهم في ذلك يظنون أنها معركة لابد أن تنتهي بالنصر.. أما الهزيمة فإنها لاحقة بمن فرط في حق ولده وغير المتحرق لبقائه وحيداً يكابد المصاعب في قاعة الامتحانات أمام أناس لايرحمون !!. من المسؤول إذن عن طغيان مثل هكذا مفهوم/ رؤية ؟!! ثم أليست هذه الرؤية طارئة على مجتمع ظل إلى وقت قريب وجهة لطلاب العلم من جميع بقاع الأرض ؟ ولماذا لم تحدثنا المصادر التاريخية التي ارخت للحياة العلمية بدءاً من وصول معاذ بن جبل رضى الله عنه إلى الجند وانتهاءً بعصر بني رسول وبني طاهر عن مثل هذه السلوكيات ؟ لماذا وأنت في »دباب« أو »حافلة« ذاهب إلى مكان ما وفتحت كتاباً لتقرأة استثماراً للوقت رأيت ازدحام الانظار حولك وكأنك قد تقيأت في محفل !! ولماذا إذا رآك أو اتصل بك أحد من الأصدقاء أو الأقارب وأخبرته مستأنساً بأنك منشغل بالقراءة لأن العام الجامعي/ الدراسي قد بدأ تبدّت عليه علامات الاستغراب قائلاً :» ليش معاكم اختبار« ؟ وكأن الإنسان لايقرأ إلا إذا كان الصباح موعد امتحانه. ولماذا يعطي المجتمع للامتحانات النهائية هذا الحجم الهائل والمقياس الجائر بحيث يسهم في إحداث التلوث الضوضائي الذي يقضي على ما يعلق في رأس الطالب من معلومات ؟!! وهنا أجدني ملزماً بالتوقف.. في نهاية متشظية لهذه التناولة.. تشظياً يكافئ واقعاً تستهويه رؤية عابثة تقف عقبة كؤوداً أمام التطور والبناء والتنمية.