أتذكر أننا عندما كنا صغاراً كنا نعطي للكبار أقدارهم ونعظمهم ونحفظ لهم مكانتهم في نفوسنا ونستهدي بهم ونستمع إليهم ونوقن أن ما عندهم من التجارب يكفي لأن يجعلهم متميزين عنا ومقصودين، ولذا فكنا نرى أنفسنا نكبر ونحن صغار؛ فقط لأننا نُكْبر الآخرين ولا نستهين بهم؛ بل كثيراً ما نهابهم ونخاف منهم لعظيم قدرهم عندنا. رغم أننا جئنا في مرحلة كان التحصيل الثقافي فيها غير ميسور كما هو الحال في هذا الزمن، فلا كتب كما نشتهي .. ولا انترنت، ولا صحف ميسورة تتناسب مع دخولنا وأذواقنا وهمومنا ولا ورش عمل ولا محاضرات وندوات وأمسيات وصباحيات ولا فضائيات ولا تلفزيونات، والإذاعات ليست متيسرة بالقدر الذي تيسر فيما بعد.
ثم جاء زمان على الناس رأينا فيه الصغار عقلاً وعمراً وقدراً يشمخون بأنوفهم ليطاولوا الثريا بكل غباء وجهالة واستكبار، فلا قدر للناس عندهم حتى لو كان هؤلاء الناس هم آباءهم وأمهاتهم واخوانهم وأخواتهم ومعلميهم وحكامهم وقاداتهم ومرشديهم وموجهيهم. وحده جورج دبليو بوش هو المعظم عندهم من رجال العالم، ووحدها كوندليزا رايس هي المعظمة من نساء العالمين، ثم كل من يطوفون حول البيت الأبيض من الخلائق التي قبلت أن تتخلى عن قيمها وأديانها وكرامتها لصالح سادة العالم الجديد.
القيم التي يفاخر بها هؤلاء ويحتكمون إليها ليست قيم السماء التي أنزلها الله على عباده من خلال الرسل الكرام وخاتمهم الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وليست الكتب المقدسة والشرائع التي تصلح شئون الخلق وتنظم حياة البشر على سطح المعمورة.. وليست التشريعات الجادة التي تراعي مصلحة المجموع وتحفظ حقوق الخلائق بعدل وإنصاف وتوازن، ولا حتى ما اتفقت عليه إرادة البشر من عهود ومواثيق تحفظ للعالم توازنه خصوصاً بعد الحرب الكونية الثانية، ولكن قيمهم هي قيم القوي الغالب المنتصر المهيمن الذي يقول قوله ويكره الناس على القبول به كرهاً؛ لا يهتم لمصلحة أحد غير مصلحته، ولا يصغي لنداءات أحد من العالمين غير نداءاته، ولا يحفظ حرمة أحد من الخلائق إلا خواص مواطنيه.
الزمن الذي نحن فيه زمن حرية الكفر، ولكنه ليس هو زمن حرية الإيمان، حتى العلمانية التي ظل العالم الغربي يقدسها كطريقة سلوك ويعرّفها بأنها فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الدولة، لم تعد هي تلك العلمانية التي تتيح لك أن تختار طريقة حياتك الخاصة في عالمك الخاص وفي بيتك ومحيطك العائلي ولا يمنعك إلا من أن تفرض ذلك على غيرك، هذه العلمانية أصبحت غائبة عن عالمنا المعاصر، فالعلمانية التي نشهدها اليوم تفرض عليك أن تختار الطريقة التي يختارها لك عدو عقيدتك وعدو طريقتك في الحياة، ويمنعك حتى من عرض طريقتك أنت وعقيدتك أنت أمام عينيه ناهيك عن أن تفرضها عليه.
عليك أنت كرجل أن لا تلبس العمامة، وعلى المرأة أن لا تلبس الحجاب كما هو الحاصل في تركيا العلمانية منذ أوائل القرن العشرين وبعد سقوط الخلافة الإسلامية. وذلك لأن علمانية الوجود تنخدش بلبسك العمامة ولبس زوجتك وأمك وأختك وابنتك الحجاب الشرعي.. ولكن العالم يكون في أفضل حالاته وفي منتهى كمالاته إذا لبست أنت القبعة.. أو رميت العمامة فقط .. والأمر كذلك إذا نزعت امرأتك الحجاب وأرسلت شعرها الفتان على كتفيها، ورفعت من مستوى الانكشاف لمساحات الجمال والفتنة في جسدها المغري.. ذلك يكون مقبولاً ومستحباً وموجباً لمقامات عالية تنالها وحظوة غير عادية في كل الأوساط العالمية من هيئة الأممالمتحدة وحتى أدنى مستوى من مستويات الدولة التي تقطن فيها؛ ذلك أن الاحتفاء بمثل تلك المسالك هي دين العصر الذي يحكمه بوش وتحكمه قيمه.
من حيث المبدأ لست ممن يقيم تقديره للناس على مظاهرهم وما يلبسون ومالا يلبسون سواء كانوا رجالاً أو نساء.. فرب محتجبة ومنتقبة هتكت ما بينها وما بين ربها من الستر، وخلعت عنها رداء الحياء ولم تأبه بشيء من قيم وأخلاق ودين.. ورب سافرة لم تلبس البرقع ولا ضربت بخمارها على جيبها، رفعت نفسها عن مراتع الرذيلة والأراذل، وأبعدت نفسها عن مواطن الشبهة والتهمة.. ويظل التقييم قائماً على تكامل الظاهر والباطن، فإذا كنا نفضل أولات الباطن العفيف الطاهر حتى لو كان ظاهرهن غير مقبول عرفاً وشرعاً.. على الباطن غير العفيف وغير الطاهر حتى لو كان ظاهرهن مقبولاً عرفاً وشرعاً، فإننا نرى في تكامل الأمرين عين الكمال.
ويظل قولنا صحيحاً أننا في عالم ينقلب على نفسه.. ويتنكر لقيمه.. ويسمح بحريتك في أن تكفر ويمنع حريتك في أن تؤمن، والناس يتقبلون ذلك بغير إنكار.. أنت في الغرب العلماني يمكنك أن تذهب إلى الكنيسة كل نهاية أسبوع وتمارس طقوسك التعبدية كما تشاء، ويمكنك أن تلبس ملبس دراويش المسلمين أو عبّاد الهندوس، وتغطي جسد امرأتك من رأسها حتى قدميها كراهبات النصرانية وتنشئ حزباً سياسياً دينياً وتسميه حزباً ديمقراطياً مسيحياً.. بل يمكنك حتى أن تنشئ حزباً نازياً أو فاشياً، ويمكنك أن تفتتح مدرسة دينية تعلم فيها العقائد التوراتية والإنجيلية .. وبدون أدنى نكير .. ولكنك في دولة علمانية مثل تركيا .. أو حتى تونس .. مثلاً .. لا يمكنك أن تلبس إلا ملبساً يقرره الحاكم بأمره مثل مصطفى كمال والحبيب بورقيبة .. حتى يصل تدخله إلى حد أن يمنعك من أن تصوم رمضان.. وتؤذن للصلاة بلغة غير لغته العربية .. ولا يمكنك أن تنشئ حزباً دينياً ولا حتى ترفع شعارات دينية.. ولا يمكنك أن تفتتح مدرسة دينية بعد الآن فأنت تمارس الإرهاب والتحريض عليه.
وفي الأخير فإننا في عصر عليك أن تلعن فيه كل شيء في مجتمعك من الحاكم إلى الأستاذ إلى رجل العلم والدين.. إلى شيخ القبيلة .. إلى المدرس .. إلى الكاتب والمفكر.. إلى عضو مجلس النواب، وتصفهم بكل وصف مشين وغير لائق، وتسخط على كل شيء في مجتمعك.. الديمقراطية والانتخابات.. والتعليم.. والفكر والقيم .. والعلوم والتشريعات والقضاء، وتعلن على رؤوس الأشهاد أن كل ذلك شر مستطير قبل حدوثه ومع حدوثه وبعد أن يحدث.. ولا حرمة له وليس عليك أن تطيع أحداً منهم ولا تنصاع إلى أي تشريع أو توجيه أو حكمة مصدرها شعبك وحكومته، وعليك أن ترفع أمور السياسة والمعارضة إلى الأممالمتحدة والكونجرس الأمريكي وتطلب منه أن يعلم الجميع أنه لا شيء هنا صالح، ولا شيء في عالم أمريكا فاسد وتقنع الناس بذلك.
إياك أن تخالف هذه الحقائق والطرائق فتكون ظلامياً وديكتاتورياً.. وستكون سيد قومك بعد ذلك وعضو مجلس الحكم الذي ينتظره المعارضون المتأمركون بعد أن تتمزق دولتك وتصير شظايا.. ويصبح الوطن أوطاناً.. وتجيء أمريكا وسفيرها لتعيد بناء العالم الذي أنت فيه على أفضل النماذج المشهودة "العراق، افغانستان، لبنان، الصومال، فلسطين". وهكذا فلقد كنا كباراً عندما كنا صغاراً، ورأينا أقواماً كلما كبرنا صغروا.. حتى الوصاية.. فطوبى للغرباء.