عضو مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يلتقي قيادات التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية الثالثة ستنهي الصراع المذهبي على السلطة
عصام القيسي ل(الجمهورية):
نشر في الجمهورية يوم 15 - 01 - 2013

دعا إلى العلمانية الثالثة التي قال إنها صيغة سياسية تحل الاشتباك القائم بين البعد السياسي والبعد الديني وتدعو إلى استبعاد المذاهب الدينية من الصراع السياسي ومن المرجعية الدستورية للدولة الكاتب والباحث عصام القيسي في حوار مع (الجمهورية) يؤكد أن قبول العلمانية الثالثة سينهي وإلى الأبد مشكلة الصراع المذهبي على السلطة فإلى نص الحوار:
كتاب “عودة العقل” الذي صدر قبل أيام قليلة عن الهيئة العامة للكتاب هو جديد الأستاذ عصام القيسي.. لمحة موجزة عن الكتاب؟
- يضم الكتاب مجموعة منتقاة من مقالاتي التي نشرت خلال الأعوام الماضية، يجمع بينها هم واحد هو هم تحرير العقل العربي عامة والعقل اليمني على وجه الخصوص من مسلماته الزائفة، وأدواته العقيمة، اللاتي أثقلت كاهله وأحبطت مسيرته باتجاه البناء والتنمية. وقد جاء الكتاب تلبية لرغبة بعض القراء والأصدقاء الذين أشاروا علي بضرورة جمع ما تفرق من أفكار ومقالات بين دفتي كتاب يسهل الوصول إليه.
ماذا يقصد عصام القيسي بعودة العقل؟.
- العنوان يحمل دعوة لإعادة تمكين العقل، الذي هو قرين النقد والإبداع ونقيض النقل والاتباع، في حياتنا. وهو يحاكي عنوانين للأستاذ توفيق الحكيم، الأول “عودة الروح” الذي يعد باكورة أعماله، والآخر عودة الوعي، الذي يعد أشهر أعماله السياسية.
على ذكر السياسة، تحدثت في الشهور الماضية عن أطروحة جديدة في الفكر السياسي أطلقت عليها اسم “العلمانية الثالثة” ما طبيعة هذه الأطروحة..؟
- العلمانية الثالثة صيغة سياسية تحل الاشتباك القائم بين البعد السياسي والبعد الديني في الحياة السياسية، تدعو إلى استبعاد المذاهب الدينية من الصراع السياسي ومن المرجعية الدستورية للدولة، مع الإبقاء على الدين (الإسلام) مرجعاً للمجتمع والدولة. بعد إعادة تعريف مصطلحات الدين والمذهب والفكر الديني تعريفاً أكثر دقة ووضوحاً. وهي صيغة تفترض وجود علمانيتين سابقتين هما العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية.
عفوا.. سأستعجل سؤالا يفرض نفسه قبل أن تبسط القول في هذا الموضوع، وهو عن العلمانية الأولى والعلمانية الثانية،لنصل باستبصار إلى العلمانية الثالثة؟
- العلمانية (بفتح العين) هي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية “سكيولاريزم”، وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية “سكيولار” التي تعني العالم أو الجيل أو العصر. وقد تراكمت حول هذه الكلمة (سكيولاريزم) منذ استعمالها في القرن 19 وحتى اليوم دلالات عديدة ومختلفة، إلى حد أن بعض المختصين الغربيين طالب بإسقاطها من الاستعمال، وإحلال كلمات بديلة عنها،لشدة اختلاط دلالاتها، في حين يصر بعض المثقفين لدينا على أنها واضحة تماما.
والذي يعنينا من هذه الدلالات جميعاً هو ذلك القدر المشترك بينها؛ لأنه يعطينا فكرة أولية عن مفهوم العلمانية في منشئها الغربي، وهو القدر الذي يشير إلى المستوى “الدنيوي” الذي ينتمي إلى عالم الحياة الدنيا، دون عالم الآخرة أو عالم ما وراء المادة، فكل ما ينتمي إلى الحياة الدنيا فهو علماني، أي دنيوي. وهذا هو القدر الذي أتبناه أنا في مفهوم العلمانية، لأنه القدر المحايد الذي لا يتعرض للجانب الديني والغيبي بالنفي أو بالإثبات. فحين نقول إن هناك أشياء تنتمي إلى عالم الدنيا لا إلى عالم الآخرة، فإننا بهذا نتفق مع المنظور الإسلامي نفسه الذي يصرح بوجود عالمين منفصلين مختلفين هما عالم الحياة “الأولى” وعالم الحياة “الأخرى”، ولكل عالم منهما أشياؤه التي تخصه وحده.
إذا كانت هذه هي العلمانية فلماذا رفضها الإسلاميون إذن؟.
- استعملت العلمانية في الغرب بمعان كثيرة بعضها مضاد للدين، وهذا هو الذي جعلها مرفوضة عند المتدينين جميعاً. وكان الدكتور عبد الوهاب المسيري قد لخص مسيرة العلمانية في الغرب فقال: إن بالإمكان تمييز دائرتين رئيستين في متتالية العلمانية إحداهما صغرى أطلق عليها اسم العلمانية الجزئية، وهي تلك التي تفصل الدين عن الدولة، والأخرى دائرة كبرى أطلق عليها العلمانية الشاملة، وهي تلك التي تفصل الدين عن الحياة برمتها، أي العلمانية الإلحادية.
ثم رشح المسيري للمجتمعات الإسلامية العلمانية الجزئية، وهو ما نتحفظ عليه لاعتبارات ديمقراطية قبل الاعتبارات الدينية. فما دام المجتمع قد ارتضى الدين مرجعاً له فإن من حقه أن يجعل الدين مرجعاً لدولته، وليس من المقبول – ديمقراطياً – أن يكون للدولة مرجعية غير مرجعية المجتمع نفسه، إلا إذا قبل المجتمع نفسه بذلك. وقد جاءت صيغة العلمانية الثالثة لحل هذا الاشتباك؛ لأنها تقدم مركباً ثالثاً– بلغة هيجل- يبقي على جوهري الإسلام والعلمانية؛ لأنها لا تطالب بفصل القيم عن الحياة ولا بفصل الدين عن الدولة، وإنما تطالب بفصل المذهب الديني عن الدولة، وهذا ليس مطلباً علمانيا فقط، بل هو مطلب إسلامي صميم.
هناك من سيقول لك: هذا إسلام علماني لا علاقة لنا به، فليس هناك إلا إسلام واحد هو الإسلام السماوي؟.
- لكن القائل يجهل أن الإسلام السماوي نفسه يعترف بوجود مساحة علمانية في حياة الإنسان كما أسلفنا، تنتمي إلى الحياة الدنيا لا إلى الدين. فإذا ثبت أن الإسلام يقر بوجود نشاطات دنيوية بحتة، لا علاقة لها بالدين، ويقر بوجود مصادر للمعرفة غير مصدر الوحي، فقد اعترف من ثم بوجود قدر من العلمانية، أيا كانت نسبة هذا القدر وحدوده، ولا بأس أن نتفاوض بعد ذلك على حجم هذه النسبة وطبيعتها. والحوار بالحجة والبرهان لا يضر أحداً سوى خصوم الحقيقة.
ما دليلك على أن الإسلام قد اعترف بوجود نسبة من العلمانية؟.
- الإسلام ممثلاً بالقرآن الكريم يفرق بوضوح بين النشاط الذي ينتمي إلى الآخرة (الدين) والنشاط الذي ينتمي إلى الدنيا (العلمانية)، ومن أمثلة ذلك قوله عز وجل:”وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك “. (القصص/ 77).فالآية توزع نشاط النبي نفسه على قسمين: قسم ديني هدفه الآخرة وقسم دنيوي، أي علماني بلغتنا. ومن ثم فإن الدين سيكون مرجعاً لمستويات معينة من نشاط الإنسان، بينما ستكون الخبرة الدنيوية (العلمانية) هي المرجع لبقية المستويات، وهو معنى قول النبي فيما نسب إليه “أنتم أعلم بشئون دنياكم”. ويبقى فقط أن نفصل بوضوح بين ما ينتمي إلى الدنيا وما ينتمي إلى الآخرة، وفق معايير علمية دقيقة وواضحة.
معنى هذا أن الدين عندك لن يكون مرجعاً لكل سلوك الإنسان في الحياة؟
- ليس هكذا بالضبط، فالحياة ليست مستوى واحداً، ولا بعداً أفقياً فقط. الحياة نشاط مركب في غاية التعقيد، ويمكن تحليل هذا المركب على مستويات: هناك مستويات لا بد أن يشملها الدين ويغطيها، وهناك مستويات لا بد أن تغطيها التجربة الإنسانية، ولا يصح أن يلغي أحدهما الآخر، فالإسلام ليس بديلا عن الإنسان، والتجربة الإنسانية ليست بديلاً عن الدين. أنا أعتقد – كما يعتقد أكثر المتدينين تطرفاً – أن الإسلام دين يغطي كامل النشاط الإنساني، لكن بفهم غير فهمهم. فالمؤسسة الدينية تعتقد أن الإسلام يغطي كامل النشاط الإنساني بواسطة الأحكام والتشريعات، وأنا أعتقد أن الإسلام يغطي كامل النشاط الإنساني بواسطة القيم والمبادئ. وهذا خلاف جوهري بيننا، ينبغي أن نعرف أين يقف الدين منه.
الدين يقول: “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”، أي إن كامل نشاط الإنسان خاضع للدين؟.
- صحيح، وهذه الآية هي مستندي فيما ذهبت إليه قبل قليل، فالآية كما ترى تقول إن كل نشاطات الحياة والموت ينبغي أن يكون هدفها النهائي هو الله، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت القيم هي التي تغطي هذه النشاطات لا القوانين والتشريعات؛ لأن القيم عامة ومرتفعة كالسماء تغطي كل حركة، أما الأحكام فهي جزئية، ولا تستطيع أن تغطي كامل النشاط البشري، إلا إذا اعتبرنا حكم “الإباحة” حكماً دينياً كما يقول جمهور الفقهاء التقليديين، لكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً؛ لأن حكم الإباحة نفسه هو اعتراف صريح بوجود مساحة محايدة من نشاط الإنسان لا تقع في دوائر بقية الأحكام الخمسة. وهذا هو مضمون الموقف الذي ذهب إليه بعض الفقهاء في اعتبار حكم المباح من خارج دائرة الأحكام الدينية. وموقف هؤلاء يخرم دعوى الإجماع وهو ما يهمنا هنا.
كيف يعترف الدين بوجود مساحة علمانية في نشاط الإنسان وهو الذي يقول إن القرآن قد نزل تبياناً لكل شيء؟.
- أولاً، لا يجوز أن نضرب الآيات بعضها ببعض، فالآية السابقة تقول “ولا تنس نصيبك من الدنيا” وهذا تصريح بوجود جزء دنيوي في حياة الإنسان لا علاقة له بنشاط الدين الذي يستهدف الآخرة. ثانياً: عبارة “كل شيء” التي وردت في قوله تعالى: “ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء”، لا تعني كل شيء بالمفهوم الرياضي الفلسفي، الذي يفيد الشمول، بل هو أسلوب عربي يفيد الكثرة في حدود الاختصاص. وبهذا المعنى ترد في لسان العرب، ووردت في القرآن الكريم، سواء في سياق الحديث عن ملك النبي سليمان أو في سياق الحديث عن ملكة سبأ التي عاصرته، فكلاهما أوتي من كل شيء كما تقول الآيات في سورة النمل 16 و23. أي إنهما أوتيا أشياء كثيرة في حدود اختصاصهما وفي حدود ظروف الزمان والمكان.
هناك من سيختلف معك في هذا التفسير ويقول إن القرآن جاء تبياناً لكل شيء بالمعني الحرفي؟
- هذا الفهم لن يختلف معي فقط؛ بل سيختلف مع لسان العرب نفسه، ومع سياقات القرآن الواضحة القاطعة، وأكثر من ذلك سيوقع صاحبه إن كان سنياً في مطب القول بخلق القرآن؛ لأن الفهم الحرفي لعبارة “كل شيء” سيجعلنا نقول مع المعتزلة ما دام الله خالق كل شيء، وما دام القرآن شيئا، فالقرآن مخلوق لله. وليس أمامه إلا تفادي التفسير الحرفي لآيات القرآن، ولا يوجد تفسير آخر لعبارة “كل شيء” غير ما قلناه.
لو أخذنا بكلامك في العلمانية الثالثة فهذا يعني أننا سنستبعد المذاهب من الحياة السياسية، والمذاهب الدينية هي جزء من الدين، ألا يعد هذا استبعاداً للدين نفسه؟.
- هذا الفهم قد يوقع صاحبه في الشرك؛ لأن صاحبه لا يفرق بين الدين والفكر الديني، الدين بوصفه منزلاً سماوياً والفكر الديني بوصفه منتجاً بشرياً نتج عن دوران العقل حول النص الديني. فمن المعلوم أن المذهب الديني جزء من الفكر الديني لا جزءاً من الدين نفسه. أي إنه منتج بشري دنيوي علماني.
سيقال: هذا فهمك الخاص للدين ولا يلزم أحداً غيرك؟.
- ربما ستفاجأ إذا علمت أن هذا ليس فهمي وحدي، بل فهم المؤسسة الدينية نفسها التي نختلف معها أحياناً، وقد صرح بهذا تصريحاً الإمام أبو حامد الغزالي، أخطر وأهم فقهاء الدين في تاريخنا كله بعد الشافعي؛ إذ يقول: “فإن قلت: لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا وألحقت الفقهاء بعلماء الدنيا فاعلم ]أنه[ مست الحاجة إلى سلطان يسوسهم (أي الناس) واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، والفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات..”أ ه . فالغزالي يجعل علم الفقه من علم السياسة، وعلم السياسة من علوم الدنيا، ويجعل فقهاء الدين من علماء الدنيا، فهل بعد هذا علمانية؟!.
ما هي حدود الدين المنزل كما تراه، في مقابل حدود الفكر الديني، أو بالأصح كيف نفصل حدود الإسلام من حدود الفكر الإسلامي؟.
- دعني أترك الإجابة لعلماء المؤسسة الدينية أنفسهم أيضاً؛ لأن كلامهم حجة على أتباعهم أكثر من كلامي. ينقل الشيخ محمد الغزالي عن شيخه محمد البهي، وكلاهما علمان من أعلام الفكر الديني المعاصر عبارة مشرقة في كتابه “ليس من الإسلام” تقول: “إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية في سبيل الإسلام، وبمشورة مبادئه، والإسلام هو الوحي الإلهي إلى رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وكتاب هذه الرسالة هو القرآن الكريم، وفي حكمهما ما انضم إليه من سنن ثابتة للرسول توضح ما طلب توضيحه منه”!.
وهذا التعريف يخرج من دائرة الدين كلاً من الحديث المنسوب إلى النبي، وكل مخرجات الفقهاء في الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا بالضبط ما قلناه وما نردده طوال الوقت. والفرق بيننا وبينهم هو اختلاف الدافع في استبعاد الحديث من دائرة الدين، فهم يستبعدونه لأنه لم يثبت وروده بدليل قطعي، ونحن نستبعده لأنه لم تثبت حجيته بدليل قطعي، والنتيجة واحدة.
إذا سلمنا بكلامك، ما الذي سيترتب عليه من الناحية السياسية والاجتماعية؟.
- إذا سلمنا بأن الإسلام هو القرآن الكريم فحسب، وما دل عليه من سنن عملية ثابتة قطعاً، توضح ما طلب القرآن توضيحه، كما قال الشيخان من قبل، نيابة عن زملائهما الفقهاء، إذا سلمنا بذلك، فسيترتب على هذا أن يصبح الدين مرجعاً للدولة كما يريد المسلمون جميعاً، مع استبعاد الفكر الديني من هذه المرجعية، أي الحديث المنسوب إلى النبي، والمذاهب الدينية بكل صورها، وهذا هو القدر المعقول من العلمانية الذي لن يتردد العلمانيون في القبول به. خاصة وأن العلمانيين في البلاد العربية في أغلبهم يعلنون إسلامهم واحترامهم للدين. وهكذا نحقق رغبة الطرفين، بشرط أن يقدم كل طرف تنازلاً غير جوهري من مطالبه. بل إننا نحقق رغبة الإسلام نفسه كما برهنا على ذلك قبل قليل.
كيف يمكن أن يكون القرآن والسنن العملية مرجعاً للدولة؟
- الدولة شخصية اعتبارية، لا تصلي ولا تحج ولا تتزوج، ومن ثم فالدولة ليس لها دين بهذا المعنى.وحين نقول إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة فإنما نقصد أن منظومة القيم الإسلامية تحديداً هي مرجع السياسات والقوانين التي تسير عليها هذه الدولة. والقرآن نص سماوي نزل بلسان عربي، فيه المحكم الذي يفهمه الناس جميعاً فهما واحداً، وفيه المتشابه الذي تختلف دلالاته من فهم إلى آخر، ونسبة المحكم قليلة في القرآن الكريم كما يقول الفقهاء، وهذه النسبة مرجعية بنصها دون خلاف، لكن يبقى معنا مشكلة النص المتشابه؛ لأن اختلاف الدلالات بين فهم وآخر يخرج المسألة من دائرة الدين إلى دائرة المذهب، وفي هذه الحالة يكون النص القرآني على “الإجمال” مرجعاً للدولة، أما عند”التفصيل” فإن من حق المشرع أن يختار من الآراء ما يراه مناسباً من الناحية السياسية، بشرط أن ينظر إلى هذا الاختيار على أنه حالة مدنية يجوز الاختلاف معها والاعتراض عليها، لا حالة دينية مقدسة. هذا بالنسبة لنصوص الشريعة، أما بالنسبة لنصوص العقيدة والأخبار والشعائر التعبدية، فإنها بطبيعتها لا يمكن أن تكون ضمن مرجعية الدولة، لكونها تختص بالأفراد لا بالهيئات.
إذن ما الذي أبقيت في القرآن ليكون مرجعاً للدولة؟.
- بقي أمران في غاية الأهمية هما جانب القيم والمبادئ كما يسميها الفلاسفة، وجانب الأحكام الشرعية كما يسميها الفقهاء؛ إذ على الدولة عند وضع سياساتها الداخلية والخارجية، وعند وضع الدساتير والقوانين التي تسيرها وتسير المجتمع بها، أن تخضع في هذا كله لقيم الإسلام ومبادئه المتفق عليها كما أسلفنا. أما جانب الشريعة (المعاملات) فسيكون القدر المتفق على دلالاته بين المسلمين مرجعاً قانونياً بدلالة نصه، وأما ذلك القدر المختلف على تأويله بينهم فيكون المعنى العام منه فقط ملزماً، دون المعاني التفصيلية التي لا تلزم أحداً، إلا إذا اختارها المشرع، وجعلها قانوناً مدنياً لا قانوناً دينياً كما قلت سلفاً.
قد يكون مضمون الأطروحة مقبولاً لكن ألا تعتقد أن كلمة علمانية نفسها مستفزة للمتدينين والعوام؟.
- هناك قاعدة عند الأصوليين تقول لا مشاحة في الاصطلاح، أي لا مشكلة في المصطلح إذا كان المضمون مقبولاً. وقد جرت العادة عند الفقهاء الممتازين على استخدام مثل هذه المصطلحات بتسامح وتفهم كبيرين. ستجد فقيها مثل الحجوي الفاسي في “الفكر السامي” وهو أشهر مرجع في تاريخ الفقه، يضع عنواناً فرعياً يقول “الشريعة الإسلامية ديمقراطية لا أرستقراطية”. وكذلك فعل خالد محمد خالد ومصطفى السباعي وغيرهم. القرآن نفسه تبنى ألفاظاً من خارج النسق العربي وأعاد توظيفها في أنساق جديدة، مثل مصطلح “الأميين” الذي صكه اليهود للدلالة على الأغيار الذين ليس لهم كتاب سماوي. وبالرغم من الحمولة الثقافية السلبية لهذا المصطلح اليهودي إلا أن القرآن وصف به النبي (ص) كما وصف به قومه دون تحرج.
الذين يرفضون العلمانية اليوم يقولون إن هذا المفهوم يحمل في طياته جراثيم الفلسفة المادية الغربية والديمقراطية كذلك جاءت محملة بهذه الجراثيم فلماذا قبلوا بها؟
- لقد بينا من قبل أن العلمانية علمانيات مختلفة لا علمانية واحدة، وقد رفضنا العلمانية ذات المرجعية المادية كما رفضوها. وأود هنا أن أضيف أمراً غاب عن أذهان الكثيرين، بمن فيهم بعض العلمانيين أنفسهم، هو أن العلمانية ليست منتجاً غربياً خالصاً كما يتوهمون، بل هي محطة في طريق كل المجتمعات لا بد أن تمر بها، وكان للمجتمع الغربي فضل السبق في المرور بهذه المحطة قبل غيره، فقط.
كيف تكون العلمانية محطة في طريق المجتمعات، هذه النقطة غامضة؟
- أغلبية المجتمعات البشرية لها مرجعية دينية، هذه المرجعية تقيم فصلاً بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فلا يوجد دين معروف يقول إن الدين هو الدنيا نفسها، أو أن هذا جزء من ذاك، وإنما قد يقول إن الدنيا واسطة الآخرة أو مزرعة الآخرة، لكن هذه ليست نفس تلك. ولا شك أن هناك تداخل بين الديني والدنيوي في كل عقيدة دينية، والمتدينون في عصورهم البدائية قد يجهلون – من الناحية النظرية – هذا الفصل، ويتعاملون مع المسألة بصورة تعميمية غير علمية، نتيجة غياب العقل التحليلي عند هذه الجماعات البادئة، ونتيجة غياب الحاجة لهذا الفصل في العصور البدائية والوسيطة. إلا أن قانون التطور والتقدم الذي يحكم مسيرة المجتمعات الإنسانية يدفعها – بسبب ظهور ظروف اجتماعية وسياسية جديدة – إلى البدء في التساؤل عن طبيعة العلاقة الدقيقة بين الدين والدنيا، وهكذا يكتشفون أن العلمانية ضرورة سياسية وحقيقة دينية.
في حال قبول هذه الصيغة العلمانية ما هي الثمار المتوقعة منها على المستوى السياسي والاجتماعي؟.
- بقبول هذه الصيغة العلمانية سننهي وإلى الأبد مشكلة الصراع المذهبي على السلطة، فلن تكون الدولة سنية ولا شيعية، ولا شيئاً من هذه المذاهب الدينية، بل ستكون دولة مدنية ديمقراطية علمانية منضبطة بالمرجعية القيمية الإسلامية.
أستاذ عصام، نسمع اليوم عن خطابين اثنين على الساحة، كليهما على طرفي نقيض من الآخر، الأول: يسعى للتبشير بعودة الخلافة الإسلامية، والآخر يسعى للتبشير بالإمامة.. ماذا ترى هنا؟
- هذه أحلام طوباوية صنعتها المخيلة البدائية والرغبات الأنانية. أطروحة الخلافة مثلاً ليس لها حدود واضحة حتى في رؤوس أصحابها. جرب أن تسألهم: هل المقصود بالخلافة وحدة الحاكم أم وحدة السياسة الخارجية فقط؟ ما هو شكل الدولة وشكل النظام السياسي في دولة الخلافة؟. ما موقف دولة الخلافة من الديمقراطية والمذاهب الدينية؟ أهناك نموذج تاريخي يحتذى به في هذا الشأن أم أن النماذج ستكون عصرية؟. وكيف تطالبون بمفهوم لم يتحقق تاريخياً من قبل بصورة واضحة؟. وما موقفكم من النظرية المهدوية في هذا الخصوص؟ وغيرها من الأسئلة التفاعلية الحرجة التي لن يتفقوا على إجاباتها أبداً.
وماذا عن أطروحة الإمامة؟.
- أطروحة الإمامة كان من المفترض أن تصنف في دائرة النكت والطرائف. لكن يبدو أن الفكاهات تتحول عند هذه الشعوب إلى عقائد دينية. هل يعقل أن يصدق الناس بأن الحاكم يأتي عن طريق التعيين الإلهي لا عن طريق الانتخاب الشعبي؟. هل يعقل أن يصدق الناس اليوم بوجود جينات ذهبية مميزة عن جينات الناس الأخرى؟ هل يعقل – ونحن في العصر الذي يطرح مفاهيم “الإله والدين والنبوة” في دائرة الشك والاشتباه – أن يأتي شخص ليقول أنا كائن خاص ولي حقوق خاصة لأني من نسل بنت النبي الفلاني؟. هل يعقل أن الله العدل يجامل نبيه إلى حد أن يرهن مصير أمم طويلة عريضة بأيدي ذرية من نسل بناته لا يختلفون عن الناس في شيء؟. هل يعقل أن يكون هذا هو ما تعذب من أجله بلال وسمية وعمار وما خضع له عمر وأبي بكر وخالد، وما قاتل في سبيله الأوس والخزرج؟. من الواضح أن العقل الإسلامي قد انحط إلى مستويات خطيرة.
أليست الإمامة أو الخلافة منصباً دينياً؟ثم أليست الدولة في الإسلام دينية كما يقول هؤلاء؟
- هذا وهم آخر من أوهام المسلمين التي لا تعد ولا تحصى، فالدولة ومناصبها في الإسلام مدنية لا دينية، أي أنها من أعمال الدنيا (العلمانية) لا من أعمال الدين. ولهذا السبب أهمل القرآن والنبي ذكرها وذكر تفاصيلها. والإسلام ليس ديناً ودولة كما يقول البعض بل دين ودين فقط، فلا القرآن دعا إلى إقامة الدولة ولا الرسول فعل ذلك. القرآن يقول: اليوم أكملت لكم دينكم، ولم يقل “اليوم أقمت لكم دولتكم”كما يقول محمد خلف الله. وقد اعترف معظم الإسلاميين اليوم بأن الدولة في الإسلام مدنية لا دينية، مع أنهم يضيفون عبارة احترازية تقول”بمرجعية إسلامية”، ونحن نوافقهم على هذا لكن بمفهوم الدين الذي حددناه هنا.
هل تعني أن الرسول (ص) لم ينشئ دولة في المدينة المنورة ولم يكن رئيس جماعة؟.
- النبي (ص) يقينا لم ينشئ دولة ولا كان هذا من أهدافه ولا من أهداف رسالته. صحيح أن الهجرة قد أنشأت مجتمعاً سياسياً جديداً للمسلمين في المدينة، إلا أن وجود مجتمع سياسي لا يعني بالضرورة وجود دولة؛ لأن المجتمع السياسي قد يتحقق في شكل تجمع قبلي مثلاً. والنبي (ص) كان زعيم جماعة لا رئيس دولة، وكانت سلطته على جماعته تفوق بحكم نبوته كل سلطات عصره، كما قال الشيخ علي عبد الرازق، لكنه مع ذلك لم يكن رئيس دولة.
لكن كيف تفسر تلك الأعمال التي مارسها النبي بحكم كونه ولياً لأمر الجماعة المسلمة، مثل إعداد الجيش وجمع الضرائب ومخاطبة الملوك وعقد المعاهدات، ألا تدل هذه الممارسات على أنه كان رئيس دولة؟.
- هذه الوظائف كان يقوم بها في عصر النبي أي زعيم جماعة، حتى لو كان مجرد شيخ قبيلة. عبد الملك الحوثي اليوم يمارس من حيث الشكل مثل هذه الوظائف في محافظة صعدة، وجماعة الحوثيين يشكلون مجتمعاً سياسياً هناك، فهل نقول إن الحوثي رئيس دولة، أو أن صعدة قد أصبحت دولة الحوثيين؟. إن لمفهوم الدولة معايير أخرى حاسمة سواء في عصر النبي أو في عصرنا الحديث. وأبرز مظاهر الدولة هي وجود دواوين (وزارات) ومؤسسات، وعملة محلية، وجيش نظامي له سجلات وأختام، ومرتبات ثابتة، وموارد مالية ثابتة لصرف المرتبات، وغيرها من المظاهر المعروفة منذ ظهور الدولة عند السومريين مروراً بالفراعنة وملوك بني إسرائيل وحتى اليوم. إن خلطنا بين مظاهر الزعامة النبوية والزعامة الملوكية الرئاسية يدل على جهلنا بمفاهيم الدولة والسياسة وما شابه ذلك.
بعضهم قد يعتبر هذا انتقاصاً من وظائف نبوة النبي محمد (ص)؟
- نحن نسأل أصحاب هذا التصور: هل كان نبي الله موسى أدنى مقاماً من نبي الله سليمان؛ لأن هذا الأخير كان نبياً وملكاً بينما كان موسى نبياً رسولاً فقط؟. ثم نسألهم: أيهما أشبه بنموذج الرسالة المحمدية، نموذج موسى أم نموذج سليمان وداود؟. لقد ورث سليمان الملك من أبيه وفق مؤهلات معينة طرحها بين يدي شعب إسرائيل للمصادقة عليها، بعد أن سألوه: بأي فضل تنال هذا المنصب من دوننا؟ فقال لهم: “يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء، إن هذا لهو الفضل المبين” (النمل/16). ومع أن موسى كان زعيماً لبني إسرائيل كما كان داود وسليمان، ومع أن بني إسرائيل يعدونه أعظم زعمائهم وأنبيائهم على الإطلاق، إلا أنهم لا يعدونه ملكاً كما يعدون داود وسليمان، وكذلك هو موقف القرآن أيضاً. وكلمة “ملك” كانت تطلق في العصور القديمة على المنصب السياسي الذي يطلق عليه المسلمون، في أدبياتهم السياسية، منصب الإمامة أو الخلافة.
إذن أنت تعتقد أن النبي محمدا (ص) مارس السياسة، لكنه لم يؤسس دولة ولم يكن رئيسا بالمعنى المتعارف عليه في الدول والمملكات؟
- هذا صحيح، وإلا فليقولوا لنا لماذا سمى القرآن داود وسليمان ملكين، ولم يسم موسى ومحمد ملكين، مع أن الأخيرين كانا زعيمين كبيرين في جماعتهما، أعظم من زعامة داود وسليمان؟. وهل كل شكل من أشكال الزعامة على مجتمع سياسي يعد رئاسة ملوكية بالمفهوم القديم والمفهوم الحديث لكلمة ملك ورئيس؟. وإذا كان جوابهم بنعم، فلماذا لا نعد كل شيوخ القبائل وزعماء الجماعات رؤساء وملوكاً ومؤسسي دول، ما داموا يؤدون الوظائف نفسها التي كان يؤديها النبي في جماعته؟. والسؤال الأهم من كل ذلك: إذا كان النبي قد أسس دولة في المدينة المنورة كما يزعمون، فلماذا لم يترك للصحابة من بعده أي شكل من أشكال نظام الحكم؟. لماذا تركهم في حالة فراغ دستوري أدى إلى خلافهم في السقيفة، ثم أدى إلى صراع سياسي مذهبي ما زال محتدماً بين المسلمين حتى اليوم؟
كيف تفسر أنت سكوت القرآن وسكوت النبي - كما تقول - عن الحديث في شئون السياسة والملك؟.
- أولاً لا يحتاج الدين إلى تنبيه الناس إلى ضرورة قيام الدولة؛ لأن قيام الدولة من الضرورات الاجتماعية لا من الضرورات الدينية، فبمجرد أن يشعر الناس بحاجتهم إلى دولة ترعى مصالحهم وتحمي وجودهم فإنهم يقيمونها دون حاجة إلى نص ديني. بدليل أنه لا يوجد مجتمع مدني على وجه الأرض بدون دولة، سواء أكان مجتمعاً متديناً أو كان مجتمعاً علمانياً.
ثانياً، لا يمكن للدين أن يقترح أو يلزم مجتمعاً بشكل محدد من أشكال النظام السياسي، لأن النظم السياسية هي بنت التجربة الإنسانية، التي تخضع لقانون التطور الاجتماعي والثقافي، وليس المهم، في نظر الدين، هذا الشكل السياسي أو ذاك، بل المهم هو تحقيق القيم الاجتماعية التي أكد عليها.
البعض يعتبر أن وصول الإسلاميين اليوم إلى السلطة في أكثر من قطر عربي مبشر بقدوم الخلافة؟
- إن لفظ “خلافة” في حد ذاته قرينة كافية على أن الأحاديث التي تبشر بالخلافة في آخر الزمان هي أحاديث مكذوبة على النبي (ص)، فمن المعلوم أن هذا اللفظ قد اخترعه شعب المدينة (الصحابة) للدلالة على من يخلف النبي في مقام ولي الأمر. وقد توقف استخدام هذا المصطلح في فترة عمر وتم استبداله بمصطلح “أمير المؤمنين” لأن عمر تساءل: إذا كان أبو بكر خليفة رسول الله فماذا أكون أنا، خليفة خليفة رسول الله؟!. ثم إن هذا اللفظ لم يرد على ألسنة المختلفين في سقيفة بني ساعدة، وإنما وردت ألفاظ أخرى مثل “الأمر” و”الأمير”. ولو أن الرسول كان قد تحدث عن خلافته لوجدنا ذلك على ألسنة صحابته ومعاصريه في خلاف السقيفة. ثم هل يعقل أن يذكر النبي (ص) لفظ الخلافة دون أن يترك بياناً للمسلمين في جميع شئونها؟. ألم يكن من الأولى أن يتنبأ النبي بمشكلة الصراع بين السنة والشيعة وأن يقدم الحلول الحاسمة لهذه المشكلة بدلاً من أن يتنبأ بخليفة آخر الزمان؟!.
كيف تقرأ واقع الجماعات الإسلامية المعاصرة وخاصة جماعة الإخوان المسلمين ومستقبلها السياسي على ضوء ما يجري؟
- الظاهر من سلوك الجماعات الإسلامية يدل على أنها غير مستعدة– على مستوى الوعي- للتعلم من دروس التاريخ، بدليل أنها رفضت مجمل المراجعات التي جاءت من الداخل، ناهيك عن النقود التي جاءت من خارجها خلال الثمانين السنة الماضية. إلا أنها – على مستوى اللاوعي - لا بد أن تتأثر ولو نسبياً بالمدارس الجديدة التي بدأت تتشكل داخل التيار الإسلامي الواسع.. المدارس الجديدة ذات قابلية عالية للعلمنة والتمدن، وتستهوي كثيراً من شباب الجماعات الإسلامية، مثل الحالة التركية على مستوى التطبيق، والحالة التونسية على مستوى التنظير. أما جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر فهي تعاني مشكلات إضافية خاصة، ناتجة عن اختطاف التنظيم الخاص للجماعة من أيام المرشد مصطفى مشهور.
ماذا تعني بالتنظيم الخاص؟ وكيف اختطف الجماعة؟.
- التنظيم الخاص هو تنظيم سري مسلح أنشأه مؤسس الجماعة حسن البنا لأغراض من بينها مقاتلة الإنجليز في القنال. لكن التنظيم انحرف عن مهامه الأساسية وذهب يسفك دماء المسلمين أنفسهم، وتسبب في نهاية المطاف في اغتيال حسن البنا نفسه، الذي قال عنهم قبل وفاته: ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين. وقد انحسر تأثير هذا التنظيم بعد ذلك، وتم تجميده إلى فترة المرشد عمر التلمساني، لكنه عاد متخفياً في شكل عصابة يرأسها مصطفى مشهور، ومن أعضائها البارزين خيرت الشاطر، والمرشد محمد بديع، وشخص ثالث لا حاجة لنا بذكر اسمه الآن. وقد عمل هذا التنظيم الخاص على استبعاد كل الشخصيات الإخوانية المنفتحة والرصينة من داخل الجماعة، حتى لو كانوا من المؤسسين، وتبنى الخط القطبي على حساب الخط البنائي داخل الجماعة.
إلام يسعى هذا التنظيم برأيك؟
- دعني أخبرك أنه يطلق على هذا التنظيم داخل الجماعة اسم تنظيم العشرات، وإذا عرفت أن من بين شخصياته مصطفى شكري، مؤسس جماعة الهجرة والتكفير، وأن هذا الرجل ظل منتمياً إلى الإخوان حتى نهاية حياته، فلن يصعب عليك معرفة الغاية بعد ذلك، إنها السعي إلى السلطة، عن طريق “وأعدوا لهم ما استطعتم” نظرة هذه العصابة إلى المجتمعات الإسلامية وإلى الأقليات الدينية مريبة جداً، وحرصهم على امتلاك القوة كبير جداً، ومستقبل الجماعة في خطر إذا استمرت هذه العصبة في السيطرة عليها.
برأيك لماذا لم تستطع هذه الجماعات الدينية أن تكسب رضا المثقفين، ولم تنجح في مواجهة مشاكلها؟
- هذه الجماعات وجدت نفسها مضطرة بحكم الأمر الواقع للتعامل مع مشكلات ذات طابع حضاري مركب، بينما هي في الأساس لم تصمم لمثل هذه المهام المعقدة؛ لأنها حين نشأت لم تنشأ استجابة لمشكلات علمية وحضارية، كمشكلة سقوط الحضارة الإسلامية؛ بل نشأت استجابة لحدث سياسي جزئي هو سقوط الخلافة العثمانية، ومن ثم فقد تركز اهتمامها من البداية على أسئلة الخلافة لا على أسئلة الحضارة.
أسئلة الحضارة تبدأ عند النخبة المفكرة ثم تأتي الجماهير الغفيرة بعد ذلك لتتبنى خلاصاتها، بعد أن تصبح ثقافة اجتماعية. وهذا يحتاج إلى وقت طويل وصبر أطول، وهو ما لا يقدر عليه المتحمسون لدولة الخلافة، وهذا هو سر استبعاد هذه الجماعات للكائنات المفكرة ذات الاهتمام النظري العالي. لأنها تعتقد أن مشروعها لا يحتاج لأكثر من خطباء مفوهين، وجنود طائعين. وهكذا تجد نفسها أمام مشكلات مركبة بإجابات سطحية بسيطة تقنع محدودي الثقافة، لكنها لا تقنع محترفي الفكر ولا تقنع قوانين النهوض والتمكين نفسها!.
نريد مثلاً توضيحياً على أسئلة الحضارة؟ وكيف تتم الإجابة عليه من قبل الطرفين؟
- خذ مثلاً سؤالا: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟. الإجابة التقليدية عند التيار الإسلامي تقول: تخلفنا؛ لأننا تركنا الإسلام وراء ظهورنا، وسنتقدم عندما نعود إلى الإسلام. وأحسنهم يقول تخلفنا؛ لأننا تركنا أسباب التقدم وراء ظهورنا دون أن يفصل ذلك تفصيلاً دقيقاً. هذه الإجابات نفسها تخضع عند فيلسوف الحضارة لتحليل عميق فهو يسأل: ما هو الدين؟ ما حدوده وطبيعته؟ كيف يكون عاملاً للتقدم أو التخلف؟ وإذا كان المسلمون قد تخلفوا لأنهم تركوا الإسلام فهل تقدم غيرهم لأنهم تمسكوا بالكفر؟. ما أسباب التقدم أو التخلف؟ وهل الأصل أن نسأل عن أسباب التقدم، أم الأصل أن نسأل عن أسباب التخلف؟ ولماذا؟. ما الآثار العميقة التي يخلفها التقدم المادي على بنية الثقافة والمعرفة؟ ما الطريقة العلمية المثلى للإجابة عن مثل هذه الأسئلة؟ ولماذا؟. وهكذا..
ما الفرق بين إجابة المفكر الفيلسوف وإجابة الداعية الإسلامي من وجهة نظرك؟.
- هو كالفرق بين إجابة الطبيب المختص وإجابة حلاق الصحة في الريف المصري. حلاق الصحة يقول لك: هذه حمى، وعلاجها شربة”الحج محمود”، وثلاث ساعات نوم. أما الطبيب المختص فهو يطلب تحليلاً دقيقاً لعينات من الدم وغيره، ثم يقول لك بعد فحص طويل: لديك حمى ناتجة عن الفيروس الفلاني، وعلاجها في المقدار الفلاني من العلاج الفلاني. الطبيب المختص يعرف أن الحمى مجرد عرض، قد تتسبب به أمراض عديدة، وليس هناك علاج واحد لكل الأمراض وإن كانت الأعراض متشابهة، وهذا ما لا يدركه حلاق الصحة.
ما يتعلق بالشأن اليمني الراهن ننتظر اليوم انطلاقة الحوار الوطني قريبا والوضع يبدو أنه غير مطمئن تماما، فثمة عقبات وعراقيل وثمة تدخلات دولية واضحة ألا ترى أن له انعكاسات سلبية على اليمن مستقبلا؟
- الحوار الوطني هو أفضل وآخر فرصة ربما للإنسان اليمني الحديث لدخول عصر جديد يتسم بالاستقرار والنهوض والحياة الكريمة. فإذا سمحنا لأصحاب الرايات الحمراء بتفويت هذه الفرصة فلن يكون أمامنا سوى الجحيم. طبعاً هناك من يريدنا أن ندخل الجحيم ليعاقبنا على تطلعاتنا المشروعة، أو لتحصيل منافع أنانية ضيقة، وهناك نسبة عالية من الجهل وانعدام الوعي لدى الجماهير، ونسبة عالية من انعدام الضمير عند بعض المتنفذين وأصحاب المصالح التي كانت مرسلة، لكن المفارقة أن العامل الدولي هذه المرة جاء في صالحنا، فهو لن يسمح بانفجار الوضع خوفاً على المصالح الدولية في هذه المنطقة. وعموماً نحن نستحق ما سيحدث، أياً كان هذا الذي سيحدث؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يخطئ ومن طبيعة الزمان أن ينتقم، كما قال الشاعر القديم بيرون.
ألا تخشى من اختطاف الثورة على أيدي متنفذين وأصحاب مصالح ومراكز قوى؟.
- كل ثورة لا بد أن تتعرض لمحاولة اختطاف، والثورات الحقيقية فقط هي التي تستعصي على هذه المحاولات؛ لأن من طبيعة الثورة الحقيقة أن تأتي استجابة لظروف تاريخية قاهرة لا يستطيع أحد تجاهلها، على عكس الانقلابات العسكرية التي قد تحدث نتيجة طموحات فردية عند بعض المغامرين. وأنا أعتقد أن ثورة فبراير أصيلة وحقيقية جاءت استجابة لتحولات اجتماعية قوية؛ ولهذا فإنها ستؤتي ثمارها أو معظم ثمارها على الأقل. وحتى إذا حدث لا قدر الله محاولة اختطاف حقيقية للثورة ومكاسبها، فإن الناس اليوم، وخاصة الشباب، في مرحلة متقدمة من الوعي السياسي، أكبر بكثير مما كانت عليه قبل الثورة، وهم على استعداد لإعادة الكرة ونيل حقوقهم بصورة كاملة هذه المرة، مهما كانت النتائج.
إذن أنت تعتقد أن ثورة فبراير لم تكن صراعاً بين أجنحة النظام القديم كما يروج البعض؟.
- بالطبع، إنها ثورة مجتمع جديد على مجتمع قديم، مجتمع تقدمي على مجتمع انتهازي، ثورة الذين يشعرون على الذين لا يشعرون، قبل أن تكون ثورة مجتمع على نظام سياسي فاسد. ووجود شخصيات أو أجنحة من النظام القديم في صفوف الثورة لا يغير من هذه الحقيقة شيئاً؛ بل إنه كان سبباً رئيسياً في نجاحها. وهناك من يتجاهل الحقائق إلى حد الزعم بأن الثورة كانت ستنجح بدون الحاجة إلى سند عسكري وقبلي، وهذا جحود لا يليق بالثوار الحقيقيين.
هل يعني هذا أنها لم تكن ثورة المجتمع اليمني بالكامل؟.
- لا يشترط في الثورات العظيمة أن تكون من فعل المجتمع بكامله. ولا يوجد ثورة في التاريخ حصلت على تأييد كل أفراد المجتمع. الثورات عادة هي فعل النخبة الممتازة، يتبعها الذين يشعرون، أما أولئك الذين لا يشعرون فهم عادة ما يقفون في صف النظام. إما لأنهم لا يشعرون بكرامتهم التي ينتهكها النظام الفاسد المستبد، ولا يشعرون بفداحة الظلم الواقع عليهم وعلى مستقبل ذرياتهم، وإما لأنهم لا يشعرون بأوجاع المقهورين وأنين الجائعين من حولهم. وفئة الذين لا يشعرون هذه هي الأكثرية العددية في المجتمعات المتخلفة التي حكمتها أنظمة فاسدة كما حدث لمجتمعنا. ومع هذا فقد كان حجم الرفض الشعبي للنظام السابق قياسياً بالنظر إلى حجم الخراب الذي خلفه النظام في بنية العقل اليمني ومنظومة الأخلاق الاجتماعية.
أخيراً، كيف تقيم فترة حكم الرئيس هادي؟.
- أنا في غاية الإعجاب لأداء هذا الرجل، إنه شخص هادئ وحكيم وذكي في الوقت نفسه، وأهم من ذلك أنه يقنعك بحبه الصادق لليمن. وهذا ما كنا نحتاج إليه بالضبط في هذه اللحظة التاريخية. لاحظ أنها المرة الأولى التي أمدح فيها رئيساً عربياً (يضحك).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.