غازي الجابري لطالما سمعنا القول: "كما تدين تدان"، فنربطه عادة بالانتقام والجزاء على الظلم، وكأنها مجرد معادلة صارمة للعقاب. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فهذه المقولة لا تقف عند حدود الانتقام، بل تمتد لتشمل كل أفعالنا، صغيرة كانت أو كبيرة، شرًّا كان أو خيرًا. كل ابتسامة تمنحها، كل يد تمدها لتساعد، كل قلب تزرع فيه الطمأنينة، كل هم تزيله عن إنسان، وكل سر تحفظه، كل ذلك يُدون في ميزان الحياة لك قبل غيرك. فكما يُحاسب الظالم على ظلمه، يُجازى المحسن على إحسانه. لا يختصر الجزاء في لحظة واحدة، ولا يُقاس بمقدار ما أخذت من الدنيا، بل بما زرعته فيها من أثر طيب، مهما بدا بسيطًا. حين تجبر خاطراً، فإنك لا تُسعد فقط من أمامك، بل تسعد روحك أيضًا، فتشعر بدفء عميق في داخلك، كما لو أن الكون نفسه يبتسم لك. وعندما تزيل همًا عن إنسان، يخف عنك عبء لا تدري أنك تحمله، لأن الرحمة التي تمنحها تعود إليك بأشكال لا تُحصى. وستر الإنسان، خصوصًا حين يكون في ضيق، ليس مجرد فعل شرف وأخلاق، بل حماية لنفسك أيضًا؛ فالسر الذي تحفظه اليوم، قد يكون الطمأنينة التي تحتاجها غدًا. الحياة بهذا المعنى ليست مجرد سلسلة أحداث عشوائية، بل هي قانون دقيق يزن أفعالنا بدقة متناهية. ولا يتعلق الأمر بالانتقام أو الثأر فحسب، بل بالعدل الإيجابي: كما تدين تدان في كل لمسة خير تمنحها، في كل كلمة طيبة تقولها، في كل قلب تطمئنه. فلنحرص إذاً على أن تكون أعمالنا طيبة، حتى لو لم يرانا أحد، حتى لو لم نلمس جزاءها مباشرة. فالقيمة الحقيقية للأفعال تكمن في أثرها على الآخرين، وفي الطريقة التي يرد بها الكون الجميل لنا، أحيانًا في لحظات غير متوقعة، وأحيانًا في هدوء الروح وسكون القلب. كما تدين تدان... ليس فقط في الانتقام، بل في السعادة التي تمنحها، في الهموم التي تزيلها، في القلوب التي تزرع فيها الأمل. فلتكن حياتك قانونًا للخير قبل كل شيء، حتى يصطف الكون معك، في جزاء عادل، لا يخطئ، ولا يظلم، ولا ينسى.