غازي الجابري في زمنٍ تعالت فيه الأبراج من أموالٍ مجهولة المصدر، وتكاثرت الوجوه التي تبتسم للناس نهارًا وتنهبهم ليلًا، عاد صدى سؤالٍ قديمٍ يهزُّ أركان الضمائر: من أين لك هذا؟ سؤال بسيط في حروفه، عميق في معناه، يُخيف من غابت عنه العدالة، ويُريح من عاش نزيهًا طاهر الكفّ. ذلك السؤال الذي رفعه عمر بن الخطاب يومًا في وجه الولاة، لم يكن مجرد تحقيقٍ إداري، بل كان صرخةَ ضميرٍ في وجه الطمع، وكان ميزانًا يزن القلوب قبل الأموال. لأن المال، مهما كثُر، إن لم يكن من حلال، صار لعنة على صاحبه، كحجرٍ يثقل عنقه كلما حاول أن ينام بضميرٍ مطمئن. كم من إنسانٍ جمع مالًا لا يُعرف له باب، فبنى القصور، واشترى النفوس، وظن أن المجد يُقاس بما في الجيوب لا بما في القلوب! وكم من فقيرٍ نام على وسادته البسيطة، لكنّه أغنى الأغنياء بصفاء سريرته ونقاء يده! إن المحاسبة ليست فقط حساب الدفاتر والأرصدة، بل هي حساب النفس أمام الله والناس. هي لحظة يقف فيها المرء أمام مرآته، يسأل نفسه قبل أن يُسأَل: من أين جاء هذا المال؟ وماذا أنفقت منه؟ أكان في وجه الخير، أم في طريق الشر؟ تلك الوقفة الصادقة لا تحتاج إلى لجانٍ ولا قوانين، بل إلى قلبٍ حيٍّ يخاف الله أكثر مما يخاف الناس. لقد أفسد العالم حين تحولت الثقة إلى شك، والأمانة إلى تجارة، والسلطة إلى غنيمة. وصار السؤال الذي يُفترض أن يُقال لكل مسؤولٍ أو ثريٍّ: من أين لك هذا؟، يُقابل بالإنكار، أو يُعتبر تعدّيًا على "الخصوصية"! لكن الحقيقة أن المال العام ليس خصوصية، وأن خيرات الوطن لا تُملك بالأسماء ولا بالألقاب، بل تُحمَل كأمانةٍ في الأعناق. ما أجمل أن يُعاد إحياء هذا السؤال، لا كاتهام، بل كنداءٍ للضمير. أن يُقال لكل من تسلّم مسؤولية أو جمع ثروة: تذكّر أنك يومًا ستُحاسب أمام من لا تخفى عليه خافية، وسيسألك "من أين لك هذا؟" لا بلسان البشر، بل بلسان الحقّ الذي لا يُخطئ. ولعلّ أجمل المحاسبة هي تلك التي تكون بين الإنسان ونفسه قبل أن يُحاسَب أمام الخلق. حين يراجع المرء حساباته كل مساء، ويقول لنفسه بصدق: أهذا المال زادني كرامة أم جرّني إلى الذلّ؟ أهذا القلب لا يزال نقيًّا كما كان قبل أن تلمسه فتنة المال؟ إنها دعوة لأن يعيش الإنسان بضميرٍ صافٍ لا يخشى السؤال. فالنزاهة ليست زينة تُعلّق في السيرة، بل هي سلوك يومي، وعهدٌ بين العبد وربه. فطوبى لمن طاب كسبه، ونقيت يده، ونام قرير العين، لا يخاف أن يُسأل في الدنيا ولا في الآخرة: "من أين لك هذا؟"