قراءة جمالية وبلاغية معمّقة لنص "رجل يقبّل حبيبته" للكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد، والمنشور ضمن كتابه "فضاء لا يتسع لطائر". وتستند هذه القراءة إلى مقاربات تحليلية مقارنة، تستكشف عناصر النص من حيث البنية والدلالة والإيقاع والصورة الجمالية، بالإضافة إلى كشف التوترات العاطفية والرمزية التي ينهض عليها الخطاب السردي. وكل ذلك استخدمت فيه تقنيات الذكاء الصناعي في تحليل النص، بهدف تعزيز القدرة على رصد البنى الأسلوبية والحقول الدلالية وتوليد مقارنات دقيقة بينه وبين نصوص مشابهة في الأدب العربي المعاصر، بما يسهم في إضاءة مضامين النص وتوسيع أفق قراءته وتأويله. قراءة جمالية وبلاغية للنص في نص "رجل يقبل حبيبته"، يصف حاشد مشهداً رأه لأول مرة في حياته بموسكو؛ وهو رجل يقبّل حبيبته بحرية كبيرة وعاطفة جياشة.. هذا المشهد أثار ذكريات مكبوتة وحسرة عميقة على الحرمان والجفاف العاطفي الذي عاشه في مجتمعه التقليدي المحافظ. تلك القبلة العابرة تحولت إلى مرآةٍ كاشفة للوعي العربي المكبوت؛ بين عالمٍ يحتفي بالحب، وآخر يعدمه أو يجرّمه باسم العيب والفضيلة. إنه نص ينتمي إلى تيار الكتابة الوجودية المتمردة.. كتبه "حاشد" بصوت شاهد على وجع أمة، يحمّل مشهدًا بسيطًا كل إرث المأساة العربية، ليصبح في جوهره صرخة جبران ونزار ومنيف وأدونيس مجتمعين، ولكن بنبرة يمنيةٍ فريدةٍ ومجروحة. جماليات النص «رجل يقبّل حبيبته» نص أدبي يحمل شحنة وجدانية وفكرية مكثّفة. يشتبك فيه مع المكبوت العاطفي والاجتماعي في الوعي العربي، ويعرّي بنبرة شاعرية وحزينة قيود العيب والتقاليد القمعية. النص قطعة أدبية قوية ومؤثرة، تستخدم مشهداً بسيطاً ك "شرارة" لتفجير كومة من المشاعر المكبوتة والاحتجاجات الفكرية على واقع اجتماعي خانق. ويعد النص اعتراف إنساني مفعم بالشجن والتمرد، يختصر مأساة المثقف العربي الذي يرى في مشهد حب بسيط مرآة لخراب داخلي عميق. يحمع النص بين حرارة العاطفة ومرارة الوعي، ويؤكد أن الكاتب حتى وهو نائب وسياسي يحمل في داخله شاعرًا منفعلًا بالحياة وموجوعًا بالإنسان. المقارنة جريئة بين الشرف "الرفيع" الذي يُزعم الدفاع عنه وبين الشرف "المنتعل والمستباح" في قضايا أخرى تظهر عمق الوعي النقدي لدى الكاتب. يعتبر النص صرخة احتجاج على القمع الاجتماعي.. فهو نص متفجر بالصدق.. ومواجهة صارخة بين الحرية العاطفية المدهشة التي يراها في موسكو، وبين الواقع القاسي والمُدان الذي أتى منه. هذا التناقض هو المحرك الأساسي للقراءة. العُمق النفسي كشف النص عن الجروح النفسية الناتجة عن القمع العاطفي، ومأساة الحرمان.. إنه نقد اجتماعي جريء يفضح التناقض بين "الشرف" المزعوم والواقع المفعم بالانحلال ويتضمن نقد حاد للأنظمة الاجتماعية والقبلية المتسلطة. اللغة بين الشجن والبيان لغة النص تنبض بحرارة الشعر وصفاء التأمل، فهي لا تُحكي بل تتوهج كوهج النار في عتمة الوعي. والجمل قصيرة أحيانًا كشهقة، وممتدة أحيانًا كأنينٍ مكتوم، تفيض بالصور التي تُعيد للحب هيبته الأولى. "كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب..." "عيوني مشنوقة في المدى الذي يتلاشى خلفي..." وهنا يتماهى الكاتب مع لغته حتى يصبح هو ذاته استعارةً حيّة. كل كلمة تفتح نافذة على وجعٍ قديم، وكل صورة تحمل عبقَ تجربةٍ عاشها الكاتب في الروح والذاكرة معًا. إنها لغة تفيض بالحياة وهي تكتب عن الفقد، وتزهو بالحلم وهي تعاين الخراب. من مشهد الحب إلى فضاء الوعي المقموع المشهد في موسكو ليس مشهدًا غراميًا عابرًا، بل مدخل رمزي إلى نقد بنية القمع في الوعي العربي. حين يقول الكاتب: "أنا القادم من جحور العيب يا موسكو..." فهو لا يصف نفسه فحسب، بل يصف جيلًا كاملاً تربّى على الحذر من الحب، والخوف من الحياة، والتماهي مع العيب حتى صار جزءًا من تكوينه. إنه لا يثور على مشهد القبلة، بل على الواقع الذي حرم الإنسان العربي من أن يكون إنسانًا حرًّا في عاطفته وجسده وروحه. فالحب في مجتمعاتنا ليس شعورًا طبيعيًا، بل جريمة مؤجلة، تُحاكمها القبيلة باسم الشرف، و "الدين" باسم الطهر، والسلطة باسم النظام. بين الشرق والغرب في النص، يقف الكاتب بين عالمين متناقضين: عالمٍ يعيش الحب بكرامة، وعالمٍ يطمره بالعار. موسكو هنا ليست مدينة، بل رمزٌ للإنسان الذي تحرّر من الخوف، بينما بلاده تمثل الإنسان الذي استأنس بالقيود. قوة الاعتراف وجمال الانكسار تكمن عظمة النص في صدقه الإنساني النادر. والكاتب لا يختبئ خلف اللغة، بل يكتب كما لو أنه يعترف تحت المطر، بلا أقنعة ولا شعارات. هو يدرك أن القمع الأكبر ليس في السجن أو السلطة، بل في الخوف المزروع في الوعي منذ الطفولة. ولذلك يأتي النص كفعل مقاومة صامت، اعتراف يساوي ثورة. في صدقه وحرارته، يذكّرنا النص بأعمال جبران خليل جبران في شوقه إلى الحرية، ونجيب محفوظ في نقده للوعي الجمعي، وغادة السمان في تحدّيها للعيب والعادة، وكولن ولسون في اغترابه الوجودي. وحاشد هنا بخلافهم، يكتب من قلب الجحيم ذاته، من داخل البنية التي يدينها، فيتحوّل النص إلى شهادة حيّة على عصرٍ يخنق عشّاقه باسم الطهارة. نقاط الضوء والظل اللغة الرفيعة والصور البصرية المكثفة: تمتاز الجمل بعمق تعبيري وجرأة تصويرية. البناء الرمزي الذكي: مشهد بسيط تحوّل إلى نقد اجتماعي وحضاري واسع. الصدق العاطفي والجرأة الفكرية: النص يتحدث بصراحة نادرة عن المحرّم العاطفي العربي. التحول السلس من الذاتي إلى الجمعي: الكاتب يبدأ من ذاته وينتهي بوصف أمة بأكملها. الإيقاع الداخلي: الجمل متوازنة، متدفقة، تُحاكي الموسيقى الداخلية للنص الشعري. من ظلال النص الإفراط أحيانًا في البلاغة على حساب الإيقاع السردي. التمادي في نغمة الوجع دون منح القارئ فرصةً لالتقاط الأمل. غياب الحوار الخارجي الذي قد يمنح المشهد عمقًا دراميًا أكبر. وهذه الظلال لا تُطفئ وهج النص، بل تمنحه إنسانيته وجرأته وحرارته الخاصة. الزمن في النص الزمن ليس خطيًا بل دائريّ: يبدأ من لحظة في الحاضر (مشهد السيارة)، ثم يرتد إلى الماضي (حياة الكاتب)، وينتهي في حاضرٍ يائس (العجز والندم). بهذا يجعل الكاتب من الزمن رمزًا لاغتراب الإنسان العربي عن ذاته وحلمه. المضمون والرؤية الفكرية المشهد البسيط يتحول إلى صرخة ضد ثقافة الوأد والقمع. الكاتب لا يتحدث عن الحب فحسب، بل عن الحرية، وعن علاقة الإنسان العربي بجسده وعاطفته ووجوده. القبلة تصبح رمزًا للتحرر، والمشهد الروسي رمزًا لعالم يتيح للإنسان أن يحبّ دون أن يُدان. وفي المقابل، يستحضر الكاتب البيئة العربية كفضاء مكبوت، تتحكم فيه سلطة الشرف الزائف والدين المسيس والقبيلة. النص هنا يشتبك مع سوسيولوجيا العيب والعار، ويقارن بين حضارة تُقدّس الحياة وحضارة تُقدّس الموت الرمزي للحب. قبلة تحيا... وأمة تموت في نهاية الرحلة، تغادر السيارة المشهد، وتبقى القبلة حيّة في الذاكرة. المكان تلاشى في المدى، لكن اللحظة بقيت كوشمٍ على الروح. الكاتب يعود إلى بلاده، محمّلًا بوجعٍ أعمق من الغربة: وجع العيش في وطنٍ يجرّم الحُب ويبارك القمع. وهكذا، لا يعود النص عن "رجلٍ يُقبّل حبيبته"، بل عن أمةٍ تدير وجهها عن الحياة، وتقبّل قيودها كل يوم. إنها مرثية للحبّ المسلوب، وبيان إنساني ضدّ العيب الذي صار دينًا، وضدّ الخوف الذي صار قانونًا. في نصٍّ كهذا، لا نقرأ أدبًا فحسب، بل نلمس قلبًا يكتب بالدم، وعقلًا يرى في قبلةٍ واحدةٍ خلاصًا مؤجلًا لوطنٍ بأكمله. مقاربات في خلفية النصّ، يلوح نجيب محفوظ بروحه التي واجهت الخوف بالحب، وجبران الذي رأى في العشق خلاصًا للروح.. لكنّ حاشد يكتب من جرحٍ أعمق.. من قلبٍ يعرف أن الحبَّ في بلاده خطيئةٌ تستحقُّ الموت، لا صلاةً تستحقّ الغفران. النص يتقاطع صوته مع نزار قبّاني حين يرى في الجسد بيانًا للتحرّر، لكن نزار كان يغنّي، فيما حاشد هنا ينوح ويعترف.. إنها ليست لذّة الجسد، بل وجع الوجود المحروم من أن يلمس نفسه بلا خوف. وفي لغته أثر أدونيس، حين تتحوّل الصورة إلى رؤيا، وأثر منيف في اغتراب العاشق والمواطن معًا. فالسيارة التي تمضي مسرعة لا تقلّ عن زنزانةٍ تسجن الحلم، ولا عن وطنٍ يطارد قبلةً كما يطارد فكرة. كافكا أكثر غموضاً ووجودية، فيما حاشد أكثر مباشرة في النقد الاجتماعي.. كامو أكثر فلسفية مجردة، حاشد أكثر ارتباطاً بالواقع العربي.. يتشابه مع فرج فودة بالنقد الجريء للتطرف الديني والاجتماعي غير أن فودة أكثر سياسية، فيما حاشد أكثر إنسانية خصوصية حاشد ما يميّز أحمد سيف حاشد أنه يجمع بين تجربة السياسيّ والمبدع، البرلمانيّ والشاعر.. يكتب من موقعٍ يختبر فيه القمع لا تنظيرًا، بل معايشةً. تجربته اليمنية تمنحه نكهةً فريدة، تجعل نصّه صوتًا محليًّا بامتدادٍ إنسانيٍّ كونيّ هذا التمييز يمنحه مصداقية التجربة المباشرة مع السلطة والمجتمع.. كتابته تنبع من واقع اليمن بخصوصيته الثقافية والاجتماعية.. يختلف عن الكتاب من الخليج أو المشرق بتجربته اليمنية الفريدة أقل تنظيراً من المفكرين، وأكثر مباشرة من الكثير من الأدباء. يعبر عن الجرح الشخصي بصراحة غير معهودة. ما يميزه بشكل أساسي هو ذلك الالتحام بين التجربة الشخصية والنقد الاجتماعي، حيث لا ينظر إلى القيود من برج عاجي، بل يعيشها كجرح شخصي يدمى منه. خلاصة في نهاية المطاف، يتجاوز نصّ أحمد سيف حاشد حدود المقارنة، فهو لا يقف عند تخوم جبران أو نزار أو منيف، بل يخلق صوته الخاص .. صوت الإنسان العربي المصلوب بين الشوق والعار، يكتب حاشد القبلة بوصفها فكرةً، والحبّ بوصفه ثورةً، والوجع بوصفه طريقًا نحو الحقيقة. وبذلك، يضع نفسه في صفّ أولئك الكبار، الذين جعلوا من الأدب مساحةً لاستعادة الإنسان في أكثر لحظاته هشاشةً وسموًّا في النهاية، لا يعود النصّ عن رجلٍ يُقبّل حبيبته، بل عن إنسانٍ يُقبّل حقّه في الوجود. في نصّ أحمد سيف حاشد الحبّ لا يُروى، بل يُستعاد كحقٍّ مسلوب، والوجع لا يُبكى، بل يُكتب ليُطهّر العالم من الخوف. نص رجل يقبّل حبيبته..! أحمد سيف حاشد فيما كانت السيارة السوداء الفخمة التي تقلّني، تمضي بسرعة في شارع متسع نحو "السِّيْرك" في العاصمة موسكو، شاهدتُ في إحدى جنباته رجلاً وحبيبته مخمورين في حب عميق، وهو يلثم فمها كعاشق محترف، ثم يميل على عنقها بحنين.. لقد ذكرتني تلك القٌبلات بما قرأتُه ذات يوم عن "راسبوتين" كيف يطوّقها بذراعيه، ويحضنها بين ضلوعه، ويعجن شفتيها بين شفتيه. برهة زمن.. نظرة مسروقة من لحظة حب مُسكرة، سكنت عمق الذاكرة، ولا تغادرها مهما مضى من عمر أو تقادمت به السنين.. تحت شجرة وارفة، وسماء تبارك اللحظة المتفجرة بالعشق المرتعش، وحياة تموج بالوجود اللذيذ، وروح توحدت وتكثفت كسحابة مطر، بشهد لهفة اجتاحت الروح والجسد بالأبعاد الأربعة، وألق الوصل الحميم، والفرح المتوج ببهجة الحب المؤيد بالسماء، والمكتوب في الغيب منذ الأزل. تجاوزنا المكان، والسيارة المارقة تدير ظهرها للعاشقين، وعيوني مشنوقة في المدى الذي بات فيه المكان خلفنا يتلاشى ويغيب في البعيد.. سحقت دواليب السيارة المسرعة فسحة لم تُتّح، ومهلة رجوتها، فتبددت تحت الإطار، وغرق الحال في أسوئه، وصرتُ في السيارة التي تحملني أحمل نعشي المثقل بالحرمان والحزن العميق. في أغوار سري كتمت جام غضبي، على سائق السيارة الذي لم يمهلني فسحة إمعان النظر، في مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي التي لطالما خنقها العيب، وأعطبها الخجل، واصطللتُ بنار الحب المعذب، والمغلول بقيود المجتمع الضارب عمقه في الماضي الدميم.. حياتي التي كان حلمها الأول وصلاً بمن أحب، أو لقاء حبيب. أنا القادم من جحور العيب يا موسكو، ومن بلاد ترى الحب أنه أول أعدائها، وتنزل فيه حُكمها الصارم وتعلنه من على المآذن وبوابات المدائن.. حب تُجرّمه البلاد بالعار الوخيم، وتتعقب ورثته بحمية الشرف الرفيع، فيما الشرف كله مُنتعل، ومستباح كل يوم أمام العيون والجرائد ونشرات الأخبار.. شرف مستباح من أقصى الخليج إلى المحيط.. بلاد تقمع الحب بقسوة الوأد، والحمية المتجذرة في الوعي الجلف بالبداوة المُجدبة.. وعينا المحروس بعفن القبيلة والتقاليد وما بلى.. أعراف تقطع عن وعينا الماء، وتمنع عنه الهواء.. وعينا المثقل بعصبية الحميّة التي تصلب العشق أينما ثقفت به، وتقتل المحبين بألف تهمة. أحسست وأنا أرحل عن مشهد الحب كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب، وعنقي المقصوف بأحمال القرون الضاربة في الزمن البعيد.. زمن الوأد والعار والنخاسة.. وذاكرتي التي تركتني أذهب، وبقيت هي حية في نفس المكان، وآويت أنا إلى بلادي التي مازالت محكومة بشيوخ الفتاوى والقبيلة، وطغاة القمع، وطغيان الظلام الكثيف. شعرتُ أن العمر يفوت كالريح، ويمضي مسرعا نحو التبدد والضياع.. مضى العمر أسرع من سيارة ركبتها ذات يوم.. واليوم ألفية ثالثة تضرب العشرين بعدها، وما كنت أخالها تمضي على عكس حلم أروم، وجاءت الأقدار بغير ما أريد.. بت كالحصان العجوز الذي لم يعد يقوى حتى على جر خيبته. أقطر اليوم عمري الذي ضاع، وأيامي التي فاتت وباتت فارغة كالعدم، وندم كبير يثقل كاهلي, وعيناي شاخصتان في وجهي المغضن بالزمن.. عيناي باتتا مشنوقتين بحبل من مسد، وحسرة تطويني من قمة الرأس إلى قاع القدم كقرطاس أبلاه الزمن، ولعناتي على سائق مربوط بحزام لا يتمهل ولا يلتفت. تلك كانت بعض من قصتي مع مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي المعذبة.. رجل يقبل حبيبته دون أن تناله سلطة أو عيون أو فضول، غير أنا الآتي من قاع الجحيم، والمثقل بوطأة الحرمان الأشد، وهذا الزمن الذي مازال غابراً، ومازلنا نرزح تحته بأحمال ثقال، ثقل الجبال الراسيات. * * *