تهفو القلوب العاشقة.. وتتحرك المشاعر الجذلانة.. وتتطلع الأعين العطشى وترنو النفوس الجوعى.. والرؤوس المشرئبة صوب أول بيت وضع للناس في مكة الكريمة المكرمة.. ملايين الأرواح المفعمة بنور الإيمان تستعد هذه الأيام يسبقها الشوق المتجدد تأهباً للحظة الإقلاع من شتى مطارات الدنيا المكتظة بعشرات الآلاف من الحجيج، تغادر أوطانها نحو أداء الركن الخامس من أركان الإسلام وهو حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. الدعوة من قبل الله موجهة لكافة خلقه ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. تلبية لهذه الدعوة الربانية المباركة، انطلقت الجموع البشرية المؤمنة يحدوها الشوق ويسبقها الذوق والمحبة الخالصة المخلصة لله وللرسول، جماعات ووحداناً تلهج قلوبهم قبل ألسنتهم بالإجابة الطوعية امتثالاً للأوامر الفوقية العليا مرددة وبإيقاع روحي موحد تهتز له أركان المعمورة. لبيك اللهم لبيك.. لبيك، لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.. تنتقل من مكان مقدس إلى آخر مقدس وزيارة المصطفى في البدء والختام شعيرة مستحبة لا يجوز للمؤمن الموحد الذي رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً أن يغفل عنها، فهي من أهم القربات التي تعمل على توثيق الصلة بين العبد وربه وفي ذلك ورد عن الصادق المصدوق قوله، «من حج فلم يزرني فقد جفاني».. معاذ الله يا سيدي يا رسول الله أن يجفوك أحد من عشاقك ، كلا فأنت الحبيب المحبوب الذي يصلنا ويملأ أفئدتنا بنور اليقين والإيمان المطلق بالله الواحد الأحد. وإذا كان الحج بحد ذاته يعد ركناً إسلامياً مفروضاً لمن استطاع إليه سبيلا.. فإنه يعتبر كذلك مدرسة حضارية مثلى يضم كافة مناحي الأعمال الحياتية الخيرة سياسية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية تسمو بواقعنا الإسلامي العام المليء بالحسرة والمرارة إلى أوج المجد والكرامة.. إذاً لابد لكل الشعوب المنتمية إلى نقاء، وصفاء، وجلال هذا الدين المحمدي القدوة إعادة النظر لمختلف الجوانب المعطلة ومراجعتها حتى نتبين وندرك من خلال معرفتنا لبؤر ومكامن الداء والخلل ومن ثم يتم معالجة القصور والسلبيات بالوسائل الناجعة والمفيدة، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالتزامنا المطلق وتقيدنا الكامل بالأهداف السامية العليا الواردة في الكتاب المنزل من عند الله وهو القرآن المجيد المبين جملة وتفصيلاً في السنة النبوية العطرة، على لسان نبيه، وخليله، وحبيبه الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.. إننا على يقين من أن الأمة العربية والإسلامية قاطبة ستغدو كما عهدناها سلفاً قوة لا يستهان بها، تستطيع أن ترتقي بفعل إيمانها بالله والرسول إلى ذرى المجد.. رافعة أعلام الحرية والحب والسلام خفاقة عالية ترفرف في كل مكان. إن مسألة الحروب، واشعال النار، وإضرام الفتن، ونهب أراضي الغير بالقوة، وبث سموم الحقد والانقسام، ونشر الرعب، والخوف والدمار، والعمل على إراقة الدماء، وإهدار حرية، وكرامة وإنسانية الإنسان ، كل هذه الأعمال الوحشية وما يشين بمنأى عن الإسلام الذي استطاع خلال فترة زمنية وجيزة أن يقضي على كافة السلبيات وأقام على أنقاضها الدولة الإسلامية الرائدة التي ما انفكت تدعو إلى البر، والخير، والمحبة، والألفة والسلام في ظل الإيمان بالواحد الأحد وبرسوله الداعي إلى الصراط المستقيم، من هذا المنطق الإسلامي العظيم نستطيع بناء المجتمع الحضاري المسلم على أسس ثابتة وقوية.