الأسبوع الفائت كنت كثير التلفت حولي والتحديق أمامي،ليس لأني كنت مطارداً مثلاً،بل لأني كنت منبهراً لما أراه من تغيرات المكان المُحدثة بوتيرة عالية في حضن الثقافة والفن و«خزانة مال ممالك اليمن» مدينة عدن،حتى أني في كل زيارة لها كأني أزورها لأول مرة،وليس لي في ذاكرتي ومعرفتي بها إلا أسماء الأحياء وبعض الشوارع والأماكن وحكاياتها،فلا شيء يبقى هنا على حاله..«ولسه با تعمر أكثر..بس النفوس تصفى» حد تعبير «أبو محمد» سائق التاكسي. على متن سيارة الأجرة التاكسي رحت بعفوية الزائر المستجد،أمطر السائق بأسئلتي:أين نحن الآن؟..هل هذه «دار سعد»؟.. وهل هذه هي «المنصورة»؟..وهذه، هل هي «البريقة» حقاً؟..وهل هذه هي «فتح» فعلاً؟..وهل هذا هو «با صهيب»؟،و..الخ تساؤلات لم يضق بها «أبو محمد» وفطن أنها لا تنشد الاستفهام قدر ما تنشد التحقق وتأكيد معرفة سابقة،فظل يرد بذات الإجابة:«نعم إنها هي»،إلى أن أردف إجابته السادسة بسؤال:«متى آخر مرة زرت فيها عدن؟». كان السؤال باعث حنين وفاتح حديث ذي شجون، فأجبت السائق:هذه الزيارة الرابعة، لكن الزيارات الأربع متباعدة، منذ أول زيارة أذكر تاريخها باليوم والشهر، ووقت الوصول بالساعة والدقيقة،لطرافة ومرارة موقف يستحيل نسيانه. التفت الرجل إليَّ وقد أثرت فضوله، فتابعت: كان ذلك يوم 30 نوفمبر من العام 1997م، حين وصلت عدن الساعة الحادية عشرة ونصف، واضطررت للبقاء في العراء وقضاء 12 ساعة جائلاً في شوارع عدن،بانتظار فراغ سكن!!. صرخت علامات الفضول بوجه الرجل لمعرفة السبب،فأخبرته أن زيارتي الأولى لمدينة عدن،صادفت عطلة عيد الأضحى وعيد الاستقلال، وتحديداً الذكرى الثلاثين ليوم الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني من جنوباليمن في 30 نوفمبر 1967م، وكانت عدن لذلك مزدحمة بالزوار وعلى رأسهم الرئيس السابق علي ناصر محمد، فاستحال إيجاد غرفة فارغة بأي من فنادق عدن التي لم تكن حينها تتجاوز العشرة، وليس هناك أي من لوكندات المقيل والراحة حتى!!. يومها اضطررت للبقاء هائماً في خلاء شوارع عدن النائمة، بانتظار فراغ غرفة يحتمل أن يغادرها نزيلها ظهر اليوم التالي حسبما أخبرني موظف استقبال فندق «العامر» في عدن القديمة (كريتر)، فبقيت 12 ساعة أجول الشوارع راجلاً حتى صدق الاحتمال، فسلمته بطاقتي وأجر الغرفة بلا فصال وهرعت كمن حُرم حضن أمه 12 عاماً، أجر أقدامي المتورمة وبدني المنهك وجفني عيني الناعستين، لأرتمي على السرير بملابسي وحذاء قدمي،وأنام كما لم أفعل قبلاً. ضحك السائق،وقال:«هذا زمان يا طيب،اليوم في عدن فنادق وأجنحة وشاليهات وشقق مفروشة،يمكن 10 أضعاف ما كان لما زرتها».أيدت الرجل بغبطة:صدقت،هذا ما أراه أمامي وهذا ما يسعدني ويبهرني أيضاً.فالفنادق أجلى ملامح حركة الاستثمار والعمران النشطة هنا،المهم تكون خدماتها جيدة ومعاصرة بنفس جودة وحداثة أسمائها وبناياتها،وجميلة من الداخل كجمال عمارتها،وأسعارها معقولة ومناسبة لذوي الدخول المحدودة والمتوسطة والكبيرة. هز «أبو محمد» رأسه مؤيداً،وهم بإعطائي نبذة عن أسعار إيجار الفنادق في حدود معرفته.قال «فيه وفيه،تحصل فنادق بألفين وخمسمائة ريال لليلة بالشيخ عثمان وعدن (كريتر)،وتحصل بستة آلاف وبثمانية آلاف على الساحل،وتزيد عن عشرين ألفاً بالفنادق الكبيرة»،ويقصد بالأخيرة «شيراتون» و«عدن»،..الخمسة والأربعة نجوم.لافتاً أن الشقق المفروشة إيجارها اليومي بين (8000-12000) ريال بحسب المنطقة وقربها أو بعدها عن البحر وعن وسط المدينة. طبعاً،أكبرت هذه المعرفة لدى سائق لا يرتاد فنادق، مع أني كنت ولا أزال آمل أن يجري تضمين مثل هذه المعلومات الحيوية بالتفصيل في دليل جيب صغير،يوزع على متن رحلات الطيران والنقل البري الجماعي إلى عدن.مثلما آمل أن تتواضع وزارة السياحة مع اتحاد الفنادق والمطاعم اليمني على لائحة أسعار محددة لخدماتها،بما يتناسب ومعايير واضحة لتحديد مستويات ومواصفات الخدمات الفندقية والغذائية للمطاعم، لأن الفوارق كبيرة جداً،بلا معايير محددة!!. كذلك آمل على مالكي الفنادق وإداراتها التنبه لأهمية مواكبة الاحتياجات المعاصرة بخدمات حديثة ليست بالضرورة باهظة التكلفة والتعرفة،بقدر ما هي بالغة الأهمية والحاجة.ومن ذلك مثلاً:خدمة الإنترنت،تصفحاً ومراسلة.لم أجدها في أربعة فنادق تنقلت فيها وأخرى سألتها،وكنت لذلك أضطر للقيام بمشوار خاص إلى وسط عدن (المعلا). كذلك لم أجد خدمة «صناديق الأمانات» ذات المفتاحين،واحد للفندق والآخر للنزيل مودع أشيائه الثمينة في أحدها. ولا تدري ما الذي يمنع شركات الاتصالات العامة والخاصة،عن فتح أكشاك أو مراكز مبيعات لها في الفنادق والمطاعم المصنفة سياحية وذات ثلاثة نجوم فما فوق على الأقل. أيضاً لا تدري ما الذي يمنع البنوك التجارية عن إنشاء صناديق الصراف الآلي. وبالمثل شركات الصرافة وتحويل العملات.وهل يعقل أن يقتصر تواجد شركة الطيران الوحيدة وشركات النقل البري على فرعين في مدينة بأكملها وعاصمة اقتصادية وتجارية وسياحية كمدينة عدن؟!!. أما على صعيد الخدمات العامة،فالحق أن الزائر لعدن زيارات متباعدة،يلحظ نماءً عمرانياً متسارعاً ويلمس خدمات جيدة،سواء خدمات المياه،أو الكهرباء التي لم أشهد أي انقطاع لها،أو خدمات الطرقات التي تشهد توسعاً ملحوظاً وصيانة دورية تخلو معها الحفريات والمطبات العشوائية،وإبهام التسمية،..الخ،أو خدمات النظافة الحاضرة عملاً وتوعية أيضاً.ونأمل أن تكتمل جمالية هذه اللوحة الحضرية،بإيجاد حل عاجل لمياه الصرف الصحي بمديرية «الشيخ عثمان»!!. كما يأمل الزائر لعدن،السعيد بوجوده فيها وبين سكانها الطيبين الودودين والأكثر وعياً كعهد الجميع بهم؛إنشاء مركز للدفاع المدني على الشواطئ كثيفة الإقبال،وتشجير حديقة الأطفال في «صهاريج الطويلة»،وتسوير وصيانة المواقع والمعالم الأثرية وإيجاد لوحات تعريف بها،مثل:الصهاريج،وساعة عدن،وقصور السلاطين (مقرات متاحف الوطني والموروث الشعبي والعسكري)، والمساجد والكنائس والمعابد..شواهد حضارة رقي وسلام التعايش الإنساني بعدن. وبعد: كانت زيارتي لعدن هذه المرة،بدعوة من مدير «مهرجان عدن الفني الأول» الزميل الإعلامي المبدع مروان الخالد الذي أدار المهرجان باقتدار،رغم ما قوبل به من هجوم تشدق بالدين بهتاناً،فخلا من الصدق والوقار،حد اعتبار الموسيقى حراماً وهي آية الله لنبيه داود عليه السلام (المزمار)!!.لكن المهرجان مضى في هدف إحياء قِران عدن بالثقافة والفن،وإنعاش حراك السياحة والفنادق والمطاعم ووسائل المواصلات والاتصالات،والإعلان،..الخ فرص عمل تحتاجها عدن. قطعاً لست مقيماً دائماً بعدن كي أحيط بكل ما يجري فيها،إيجاباً وسلباً.لكني لاحظت أيضاً نمو مظاهر الفقر وظاهرة المتسولين الذين قد يكون أغلبهم من النازحين واللاجئين الأفارقة،لكن هذا لا ينفي أن سكان عدن أيضاً باتوا يعانون حالاً معيشية صعبة،كباقي سكان المحافظات.لكن عدن على مدار تاريخ وجودها كانت قبلة قاصدي العلم والعمل والتجارة؛ويتوجب لذلك أن تظل أقل مدن اليمن فقراً وبطالة،وهذا يستدعي خلق فرص عمل أكثر بعدن تكون لأهلها أولاً.