قد أنسى ما دونت في دفتر العمر من ذكريات. قد أنسى نفسي ومن حولي ومواعيدي وطعامي وشرابي. إلا أنت. يظل محياك مرسوما في كل حواسي. ترن كلماتك في أذني . أسمع صوتك الرخيم وأنت تدندنين بأغنية من المستحيل أن تغيب عن خاطري. خاصة يوم ذكرى رحيلك. بدون شعور أدندن بأول بيت من كلماتها" زرع الكبد" تتجسدين أمامي وترددينها معي. أحاول مسايرتك تتحشرج الكلمات في حنجرتي حين أصل إلى قولك: " أمانتك بالله عليك يا طير. صف الجناح حلق وعجل السير. بكر عدن واسبق سحابة الغيم. بلغ سنان القلب أصابه الضيم. زرع الكبد عنده وما معي غير. الله يجمع بيننا على خير".. أعود إلى الماضي البعيد. إلى الأيام الأولى وبالتحديد إلى اليوم الذي وقع عليك الاختيار لمرافقة الوالد والسكن معه في صنعاء. كلهم يقولون أنك خالفت أعراف القبيلة وما كان سائداً في تلك الأيام الخوالي حين كان يحرم على الفتيات سكنى المدن. قالوا تمردت ولم تقبلي الرحيل بدوني . قلت لن أغادر القرية بدون وحيدتي" . لم تكتف بذلك. بل أصريت على دخولي المدرسة مثلي مثل ذكور الأسرة كان لك ما أردت.. برغم النواهي وتلك القيود التي كانت تحرم عليك وعلي عندما كبرت قليلا حتى فتح النوافذ، تمكنت من رؤية المدينة بعيون صغيرتك.. الحمد لله الذي بدد الظلام وفتح النوافذ لشعاع الشمس وغير الأحوال قبل أن تتركيني. حاولت تعويضك قدر ما استطعت. أحياناً أتمكن من إقناعك بمرافقتنا إلى المنتزهات. تقبلين وأنت ترددين مقولتك المحفورة منذ الصغر. دوما تقولين " المرة مالها في الخروج إلا إلى بيت زوجها والثاني إلى قبرها" أوافقك وأنا أتطلع إلى وجوه حفيداتك لأرى ردة الفعل. حين اللحظ تعجبهن أقول جدتكن تعودت على أن لا تغادر المنزل وقد تنسى باب الخروج الذي أدخلوها منه يضحكن ويتساءلن من الذي كان يأتي لك بأغراضك وأغراض المنزل؟ تقولين الرجال" يقلن ومستلزماتك الشخصية ؟ تقولين الدلالات" أطلب منك أن تخبريهن بقصة الدلالة والجارة وإغرائك بالذهاب إلى الحمام التركي وكيف تركت لي مهمة أقناع الوالد بالسماح لك بالخروج إلى ذلك الحمام؟ تبتسمين وتروين للحفيدات. اليوم تغيرت صنعاء وتطورت. حتى حمام شكر لحقه التطوير. لم يعد كما كان. هو الأخر لحق العصر وصارت له إدارة وعاملات أجنبيات. سوف أخبرك بنادرة حدثت معي وأم أسامة في حمام شكر تواعدنا على أن نكون هناك في العاشرة صباحاً. تأخرت ووصلت بعدها بنصف ساعة. وجدت سيدة تستقبلني عند المدخل . رحبت بي بلهجة صنعانية جميلة رقيقة. ومن ثم قالت " للمه تأ خرتوا؟ سلفيتكم مريعه لكم داخل" ثم سألتني هل أحمل معي شيئاً ثميناً لتضعه في الخزنة. وأنا أجاذبها الحديث وأسألها عم من أعرفهن عندما كنت أتردد وإياك بعد عودتي الأخيرة من أمريكا. لم تذكر لي أي أسم من الأسماء التي ذكرتها. سلمتها حقيبة اليد. وبنفس لكنة أهل صنعاء المحببة سألتني عن ساعتي والهاتف هل هما بالحقيبة؟ قلت نعم. دون أنت تفتح حقيبة اليد قالت" لا توجد ساعة" فعلا ساعتي تركتها في المنزل. أذهلتني فراستها. قبل أن أجرها من ثاني للحديث كانت أم أسامة قد ظهرت أمامي تعاتبني على التأخير والعرق يتصبب من شدة الحرارة. كانت قد حجزت لنا حوضاً داخل الصدر والصدر هو أشد سخونة عن بقية الخزائن. من خلف أم أسامة أطلت شابة تشبه واحدة أعرفها جيداً لا بل كأنها هي. قلت في نفسي " هل يعقل أنها هي! كيف لم يمر عليها الزمن كما مر علينا؟. لم تخف عليها حيرتي. قالت:" يبدو أنك تشبهيني لآمي أليس كذلك؟. دخلت وإياها في حديث الذكريات. تشكلت حولنا حلقة من السيدات. يحدثنني وأحدثهنَ. من ضمن الحديث نصحتني أحداهن بأن ادع الموظفة اليمنية تقوم بالعناية بي بدلا من الهندية. قلت أي هندية؟ نادت ياسمين. وإذا بياسمين هي التي استقبلتني وحدثتني بلهجة أهل صنعاء وبنفس لكنة نسائها ودلالهن. علمت أنهم يستعينون بها حين يزدحم الحمام. وأنها أتت قبل سنوات مع زوجها اليمني الذي ذهب إلى نيودلهي خصيصاً ليتزوج بهندية بشرط ومهر وتكاليف أقل مما كانت ستكلفه ابنة عمه الصنعانية. سمعت الكثير عن غلاء المهور في كل اليمن إلى جانب هذا هناك الشروط المجحفة في حق المتقدم للمصاهرة.لا يكتفون بشهادة من حوله بتدينه وأخلاقه ولا بكفاءته العلمية. هناك أسر لا توافق إلا بعد أن تتأكد من أصله وفصله حتى الجد العاشر. تعقد الكثير من الندوات لهذا السبب، وكلها تطالب بتذويب الفوارق الطبقية التي لا يقرها الإسلام. وتحث الآباء والأسر الرفق وعدم وضع العراقيل والشروط الجائرة التي تدفع المتقدم للمصاهرة إلى البحث عن عروس من خارج الحدود. أرجو أن تتغير تلك العادات كما تغيرت الكثير من الأمور. الحمد لله بعد الثورة وإعادة الوحدة تغيرت عادات كثيرة كانت تقف لا مبرر لها. كان من المستحيل تخطيها. منذ 45 عاماً، من كان يصدق أن تجرؤ أنثي على أن تسوق عربة بمفردها وتذهب إلى مدرسة أولادها وتتجول في شوارع المدينة وإياهم كما فعلت اليوم!؟ أخذت مفاتيح العربة وذهبت لإحضار حفيدي ردفان من مدرسة النهضة. وبعد أن وجدت بأن الوقت يسمح بزيارة مدرستي في صنعاء القديمة التي كان أسمها "مكتب الزمر" الله كم أصبحت رائعة وكم تطورت وتوسعت وصارت تدعى مدرسة "عمر المختار" أتى معي حفيدي ردفان أنا التي أخذته ليس كما كان يأتي بي ابن أخي طارق أو أذهب معه وإذا غاب لا يسمح لي بالذهاب. ماذا أحدثك عن صنعا وكيف صارت عاصمة نفتخر بها حقاً. توسعت وتطورت في كل شيء. الجامعات المدارس المستشفيات على أحدث المستويات. زرت مستشفى جامعة العلوم والتكنلوجيا مع طبيبة ضيفة من مصر. استقبلنا حبيبك طارق منجز هذا الصرح العظيم. مر بنا على غرف العمليات وعلى معظم الأقسام المختلفة. كلها مجهزة بأحدث المعدات. قسم القلب. الأورام. الأسنان الجراحات المستعجلة قسم الحوادث والطوارئ . المطابخ النظيفة والمرتبة وتخدم مئات الغرف بأحدث الطرق. برغم مشاغل الدكتور طارق وهذا وذاك الذي يوقفه لغرض مستعجل أو طبيب يستفسر أو قريب مريض يوقفه ليسلم عليه أو يشكره. لم يتركنا إلا عندما حان الآذان لصلاة الظهر. تركنا بصحبة طبيب تخرج حديثاً. ونحن في طريقنا إلى العيادات الخارجية وهو يشرح للطبيبة الزائرة وأحياناً يتكلم بالإنجليزية ويستعمل المصطلحات الطبية التي لا أفهمها. سألته أين درست الطب؟ قال هنا بجامعة العلوم . قبل شهور كنت في زيارة لعدن بدأت من منطقة الشيخ عثمان التي لي بها ذكريات لا تنسى.. كانت أول مدينة أحل بها بعد صنعاء. عدن التي زرتها أول مرة، كانت منذ 45 عاماً لن أنسى ذلك الذهول وتلك الفرحة التي غمرتني حين رأيت الأضواء المبهرة والعربات الكثيرة والفتيات اللائي يذهبن إلى المدارس بمفردهن. لا أتذكر بأني غادرت سكن الأسرة في الشيخ عثمان . شتان بين زيارتي لعدن في الستينيات من القرن الماضي وزيارتي هذه المرة.. هذه المرة تجولت في الميناء الذي توسع وتنظم وصار يستقبل البواخر الآتية من شتى بقاع وبحار المعمورة. في زيارتي الأولى التي كانت منذ 45 عاماً، لم أزر الميناء أو أي مكان في عدن لم أغادر سكن الأسرة في الشيخ عثمان. كل ما رأيته من مشاهد سلبت لبي كان من النافذة التي تطل على ساحة تؤدي إلى عدة شوارع. هذه المرة تجولت في كل أنحاء عدن سلسلة الصهاريج القديمة التي كانت تقوم بتموين عدن بالمياه طوال العام . المعلا وجمالها الأخاذ. المتحف الوطني في كريتر. علمت أنه كان أحد القصور التي تخص أحد السلاطين ولا يزال الحرفان الأولان من أسمه منحوتين في الواجهة. وتحول إلى متحف بعد الثورة.. جذبني القصر المدور في التواهي. كذلك جامع العيدروس الذي لازال يقاوم ويفرض وجوده إلى جانب الجوامع والمساجد التي صارت في كل حارة وشارع خاصة بعد إعادة الوحدة. حرصت على زيارة مسجد طائفة البهرة . لم أجد اختلافا كبيرا بينه وبين بقية المساجد القديمة. زرت معبد الفرس كذلك. سمعت أنه كانت هناك كنيسة لم نتمكن من زيارتها أو بقاياها لضيق الوقت وتبرم مرافقاتي. بصعوبة قبلن أن نزور معبد الهندوس. زرنا عقبة عدن الرائعة وتفرجنا على عروس البحر العجيبة. تجولت بمفردي في حي التواهي وسوق البخور. المباني الحديثة الطرقات المعبدة الأنفاق مثل التي في صنعاء وأكثر. شاهدت الحاويات الضخمة والبواخر الراسية والمغادرة والواصلة. وجوه الناس المستبشرة بالخير وبغدٍ أفضل. من عدن إلى المكلا . الحديث يطول عن العمران والنشاط المتواصل لتستعيد رونقها الأخاذ. من هناك بالعربات . مررنا بشبام. ناطحات السحاب الأولى . سيؤون. غيل با وزير. دوعن. قبر النبي هود عليه السلام. قصر الحوطة العيون الناضحة بالمياه الكبريتية. أسبوع كامل في حضرموت. لم أترك مكاناً وصفه السياح الذين صاروا يعرفون بلادنا أفضل منا ويكررون الزيارة مرات ومرات برغم بعض الحوادث المخجلة والمشينة مثل الخطف. لا أدري متى نتوقف عن هذه الأعمال التي لا تليق بنا كمسلمين ولا تتماشى مع شهامتنا ونخوتنا المعروفة. زرت كل.المتاحف و سكن الأدباء والشعراء . ومع المحضار وأبو بكر كان يسطح مسجل العربة " سر حبي فيك غامض" . واصلنا الرحلة إلى صنعاء عن طريق مأرب. رحمة الله على العميد أحمد. هو الذي كانت له قدرة عجيبة على إقناع العمات بمواصلة بالصبر على تأخري داخل المتاحف والقصور. توقفنا عدة مرات لتناول الطعام ونحن ننظر إلى أجمل المناظر البديعة من صنع الرحمن وآثار وحصون وسدود أبدعها الإنسان اليمني. ونحن نطل على سد مأرب الحديث شعرت بالغبطة وملأتني السعادة لأنا أعدنا بناء السد. زرنا صرح بلقيس . معبد بلقيس وعبق التاريخ في مأرب. من هناك توجهنا إلى مسقط الرأس. " ملح المليح" وهناك طلبت من أحمد ابن العم أن يمكني أن أخذ قسطاً من الراحة في حجرتك رفض بحجة أنها غير معدة وأصر على الراحة وتناول الطعام في داره. وكان له ما أراد. لكنك كنت حاضرة معنا ولا يدور حديث إلا وتأت ذكراك. أخر رحلة قمت بها هذه المرة كانت إلى تعز مع حفيداتي وحفيداتك. وحفيدي ردفان. كنا في زيارة لجده الشاعر الكبير أطال الله في عمره. هناك في تعز مع خالة ردفان، الدكتورة والشاعرة أروى. معها استعدت الذكريات الجميلة والأيام التي قضيتها وزوجي في الجحملية في حضن جبل صبر الذي ينافس جبال سويسرا. حقا وجدت الذين يقولون أن اليمن بجبالها وسهولها ووديانها الخضراء ومرتفعاتها ومدرجاتها المزروعة بتناسق وبحكمة وقدرة جعلتها أجمل بقاع الأرض. تأكدت بأن الذين يقولون ذلك لا يبالغون. شاهدت أجمل مناظر رأتها عيني . من المنتزه بفندق " السوفتيل" ذلك المنتجع الجميل الذي لا نظير له. بني فوق رابية مرتفعة وسط جبل صبر مما مكنه من أن يطل على مدينة تعز بأكملها وما حولها من فلل وقصور وفنادق خمس نجوم . الله ما أجملك يا تعز العز وما أروع أهلك وما أكرمهم.. سافرنا من صنعاء إلى تعز بالطائرة. قد يتصور البعض أني أبالغ إذا قلت الحقيقة وهي أن الخطوط اليمنية لا تقل متعة وراحة وخدمة عن أجمل وأحدث طائرات العالم.. العودة من تعز كانت عن طريق البر. ماذا أقول عن المناظر الخلابة ؟ أو عن طقس مدينة إب وجوها الفاتن؟ حرصت على الصعود إلى جبل ربى . وهناك وجدنا مطعماً أنيقاً وجميلاً اسمه مطعم حضرموت. يطل على منظر بديع وأنا أراقب سقوط الأمطار الغزيرة ودرجة الحرارة لا تتجاوز العشرين رجة مئوية والهواء العليل يهب مع قطرات المطر المتساقط. شاهدت العديد من الشلالات التي تنساب بهدوء قبل أن تزيدها السيول المندفعة من أعالي الجبال وتعكر هدوءها وتدفعها للهدير العالي . مما يدفعنا لإغلاق زجاج العربة ونكتفي بالتمتع بمناظرها الخلابة ونحن ننصت لسماع أيوب طارش وكلمات الفضول " مكانني ضمأن" ماذا أحدثك عن الحديدة؟ بعينيك أجوب شوارعها وأتذكر زيارتك لنا مع أخي الشهيد صالح. الكل يتذكر المحافظ الذي لازالت إنجازاته العديدة تشهد له. هناك من لقب سنان ب"كيم ألسونج" زرت زبيد وانشرح صدري لما تقوم به الدولة من ترميم لمساجدها وأثارها. هذه المرة لم أتمكن من مغادرة صنعاء التي توسعت وزادت جمالاً وبهاء.. آه يا صنعاء الحبيبة.. صدق الذي قال: " لي في أزال وديعة أودعتها يوم الوداع مودعي. وأظنها لا بل يقيني أنها قلبي لآني لم أجد قلبي معي" صنعاء أو مدية أزال لازالت تحتفظ بعراقتها وتفردها بالفن والجمال المعماري بين مدن الدنيا.. برغم التوسع والعمران وما لحقها من تطور في كل شيء. إلا أنها لازالت الأجمل والأروع.. أنت يا أيتها الغالية أخبرك قبل الكل بأني في طريقي إن شاء الله لإكمال كتابي السادس. لقد وضعت به كل ما أريد إخبارك وأولادي ومن أراد الإطلاع على كيف كنا وأين أصبحنا وما وصلنا إليه من تطور وعمران وما جنينا من خير وشر. دونت ما رأيت وشاهدت في المدن والقرى التي زرتها في الوطن الحبيب. سوف أهديه لك. أنت يا أكثر من أحبني على وجه الأرض. [email protected] 18/02/1429ه. الموافق 25/02/2008 م