أتفق مع أدونيس في تثمينه البالغ لمتمردي التاريخ المُبدعين، فمن لا يعترف مثلاً بشعر الصعاليك أنه شعر تمردي ؟ ومن لا يعترف بأن في التصوف أبعاداً جميلة جداً ؟ ومن لا يعترف بالشكيين الكبار الذين كانوا موجودين ؟ ومن لا يعترف بجابر بن حيان والتوحيدي ؟ كل هذه أمور جيدة ذكرها أدونيس، ولكن المهم في الأمر أن لا يضع هذا النوع من التوصيف الإجرائي في نوع من الاستغراق التمازجي الفاقع مع الذات، وخاصة فيما يتعلق بأمر التعامل مع تاريخنا الخاص، دون أن ندافع عن هذا التاريخ بحال من الأحوال. قرأت تناولات متنوعة لتاريخنا عند هادي العلوي ، نصرحامد أبو زيد ، محمد حسين هيكل، حبيب جاماتي، عباس محمود العقاد ، طه حسين ، وآخرين، لكنني لم ألمس ذلك الإمعان الخادش المُتجنّي كما عند أدونيس. في بعد آخر كانت رؤية أدونيس لعصر النهضة هي على هذا النحو ببساطة شديدة، فالإحيائيون النهضويون العرب لم يقدموا جديداً، وأنهم إنما أعادوا إنتاج الماضي فحسب. والحقيقة أن إعادة إنتاج الماضي ليس تقليداً ميكانيكاً بل ينطوي على تمثل ضروري لمفردات الماضي الإبداعية، توطئة لانزياحات مؤكدة. لكن الإحيائيين لم يكونوا بعيدين أيضاً عن التراث الإنساني. ألم يكن سلامة موسى على تماس بالثقافة الأوروبية ؟ ألم يكن زكي نجيب محمود على تماس بالثقافات الإنسانية الشاملة ؟ ألم يكن طه حسين على علاقة بالأفكار الشكية الكانتية ؟ ألم يكن علي أحمد باكثير على تماس بالثقافة الدرامية الأوروبية بمعناها الكبير، أي بالثقافة الشعرية الأوربية ؟ إذاً، هذا التعدي وهذا التعميم على فترة الإحياء النهضوي بما في ذلك حتى على أحمد شوقي، فيه نوع من الاستطرادات السريعة التي لا تليق بمقام أدونيس، ولا أنسى في هذا الصدد توصيفه الاستنسابي للجواهري والبردوني ووضعهما الإجرائي في شعر العصرين الأموي والعباسي . وأخيراً، وليس آخراً، كتاب “الصوفية والسريالية”: الذي يدخل الصوفية في ثقب الإبرة السريالية. الفكر السريالي يتشابه مع الصوفية في جوانب كثيرة .. فيما يتعلق بالبعد الأنوي. الأنا السريالية فيها نوع من الانخطاف وفيها نوع من التطير ولكنه ليس تطيراً مُتروحناً كما يقول هادي العلوي، مش تطير قائم على اعتناق مبادئ ذات قيمة عليا ما ورائية. السريالي شخصية مادية وجودية خارجة من رحم الشك، ومن رحم الفكر والبرهان العقلي، ومن رحم الرفض العدمي. لكن المتصوف حتى في ما يبدو متطيراً، يحمل في دواخله حالة انتماء للمثال والمطلق .. يقدس العلاقة الزوجية ويحترم الصداقة، يتعاطى مع الطبيعة بسوية أخلاقية.. ليس استهلاكياً نهماً، وهو مُقل وزاهد، فمن الصعوبة بمكان أن نعتبر التشابهات الشكلية بين البعدين الصوفي والسريالي مثابة للمعاني الكبيرة . لعل هنالك بعض السرياليين لديهم اهتمامات بالتصوف، ولكن عندما أتكلم عن تيار فكري وفلسفي وسلوكي لا أستطيع أن أضع الصوفية والسريالية في نفس المربع .