بعد أقل من شهرين وفي السابع عشر من سبتمبر تحديداً يكون ذكرى رحيل القائد العربي جمال عبدالناصر الذي نفتقد إليه اليوم كما يفتقد البدر في الليلة الظلماء . يمكن للناس أن يختلفوا حول تقييم المرحلة الناصرية بما لها وما عليها ولكن مايتفق عليه الجميع أن الزعيم الراحل كان يحمل مشروعاً في ذهنه .. كرس له وقته ودفع حياته ثمناً لذلك المشروع .. كما لايختلف اثنان من أن عبدالناصر كان أنموذجاً فريداً من القيادات .. فقد عرف عنه الزهد في ملذات الدنيا.. ونظافة الجيب حتى إنه غادر الفانية وفي رصيد حسابه البنكي بضع مئات من الجنيهات .. كما ظل والده المكافح يعمل ساعياً للبريد طوال فترة زعامة عبدالناصر ولم يعرف في بيته أو أهله من تمرغ في مفاسد السلطة ومغرياتها أو أثرى من وراء قرابته للرئيس الذي كان يهز العالم العربي من الماء إلى الماء .. فيما تحسب له القوى الكبرى ألف حساب وحساب . اليوم ونحن نتذكر رحيل عبدالناصر نرقب بعين دامعة وروح منكسرة مايحيق بالأمة من امتهان وقهر .. كما نلاحظ التشرذم والضعف الذي يحاصرنا في عقولنا وقلوبنا بعد أن بلغت الأمور مرحلة متقدمة من الاستباحة فليس من بلد بمنأى عن الاتهامات المتسارعة والمطالبات غير المنطقية. إن مايجري اليوم يذكرنا ببداية اشتعال الفتيل بين مصر عبدالناصر والغرب والتي بدأت برفض احتكار استيراد السلاح من طرف واحد.. حيث سعى الرئيس الناصر بعقد أول صفقة من الأسلحة ذات المنشأ الشرقي فقامت قيامة الغرب وبدأت الحرب المحمومة ضد نظامه . تالياً جاء تأميم قناة السويس إيذاناً بالعداون الثلاثي الذي ظل شاخصاً طوال سنوات الحكم الناصري وحتى حزيران التي فتحت الباب لمتوالية التحضير لحرب أكتوبر بالرغم من فداحة الهزيمة وإصابتها النظام الناصري في مقتل يصعب الخروج منه . عندما نتذكر هذه المحطات ونتملك الشواهد نتيقن أكثر من أي وقت بأن الحرب الظالمة التي تشن على العرب مازالت سجالاً .. وأن الأدلة تتراكم على ان مطالب الغرب ليست منطقية في جزء كبير منها .. وإن إسرائيل تشكل بحق رأس الحربة السامة لمشروع تدميري يلتحف الأساطير والأيديولوجيا الدينية المتعصبة . انتهت التجربة الناصرية وانتقل عبدالناصر الى جوار ربه بعد أن جمع الزعماء العرب على كلمة سواء إثر أحداث أيلول الأسود .. وحالما قام بتوديع أمير الكويت من مطار القاهرة نال منه الضنى والتعب وهو يتحمل كل أنواع الإحباطات والقهر كأنما أراد الله أن يرأف به وأن لايريه حال الأمة بعد ذلك . غادر إلى دار البقاء وقد ترك للأمة وصية معنوية وحياتية مفادها أن المجد دونه خرق القتاد وتنكب المشاق والصدق مع النفس والشعوب . إنها الوصية التي لم ولن تخبوا مهما تقادمت ايام ودارت السنون وازدادت التحديات .