قبل عدة أيام أكد قيادي في مؤسسة رسمية إيرانية تنفذ إرادة ولي الفقيه الحاكم الفعلي لإيران أن “الأزمة المقبلة التي ستصيب الخليج الفارسي بالشلل قريبا تتعلق بشرعية الأنظمة الملكية والتقليدية التي لن يكون بإمكانها البقاء في ظل الأوضاع الحالية”. وهذا الكلام الذي تناقلته وكالات الأنباء على لسان منوشهر محمدي مساعد وزير الخارجية لشئون الأبحاث خطير جدا ومستفز جدا وواضح جدا، فقد قيل في مكان علمي وأمام نخبة فكرية واعية تسهم وتنور صانعي الاستراتيجيات من ملالي الحكم، بما يعني أن تلك الكلمات ليست للاستهلاك الجماهيري كتصريحات نجاد في محو إسرائيل من الخارطة أو كلام عابر قيل في لحظة غضب، بل كلام صريح فصيح لا يحتمل أي تأويل. والخطاب الثوري الإيراني لديه تصور ان الجمهورية الإسلامية من ناحية فعلية تضطلع بدور مصيري إقليميا ودوليا، ويعتقد أن إيران وحدها تقف في وجه الهيمنة الغربية والمعبر الحقيقي عن شعوب المنطقة لذا فمن حقها أن تحدد مصالح المنطقة وترسم علاقات دولها مع الآخرين. والخطاب يتصور أن رحيل الغرب من المنطقة سيجعل دولة ولي الفقيه هي البديل وهذا كفيل بوصول إيران إلى مرحلة القوة القادرة على فرض مصالحها على العالم، فالهيمنة على المنطقة حسب تصورات صانعي الخطاب تعني السيطرة على العالم اجمع، والمشكلة المعيقة للهيمنة الإيرانية كما يطرح الخطاب هي الغرب المسيطر على المنطقة، ولأن خروجه مسألة مستحيلة لإيران، لذا فإن عقائد الخطاب تؤكد على شعوب المنطقة وضرورة تحريكها في مقاومة شاملة. ومشكلة الخطاب وسذاجته أن لديه عقيدة سياسية جازمة تؤكد أن الأنظمة العربية خصوصا في الجزيرة العربية ومصر قوى استكبارية وهي أنظمة غير شرعية وأنها متناقضة مع مصالح الشعوب وهذه الأنظمة هي الحليف الذي يُمكّن الاستكبار الغربي من الهيمنة على المنطقة، وعليه فتلك الأنظمة هي العائق الجوهري أمام الهيمنة الإيرانية، ولدى الخطاب الثوري الإيراني اعتقاد يؤكد أن تحرير شعوب المنطقة من حكامه هو المقدمة الضرورية لمواجهة الغرب وبلوغ إيران مرحلة القوة العالمية. وصانعو الاستراتيجية الإيرانية يعتقدون أن بناء قوى دينية تابعة لها أو متوافقة معها حتى وإن كانت سنية في الدول العربية مسألة مهمة، وهذه الحركات لها وظائف كثيرة خادمة لأمن إيران القومي وتحقيق غيبيات الإيديولوجية الخمينية، إلا أن أهمها في الحالات الطارئة المهددة لأمن إيران هو قيادة حرب عصابات طويلة والعمل خلال الصراع على تحفيز الشعوب في الانتفاض على الحكام ومواجهة السيطرة الغربية، وهذا حسب أوهام النزعة الخمينية الثورية المتطرفة كفيل بحماية الثورة وتحقيق النصر على الغرب وفرض الهيمنة الإيرانية على المنطقة. وهذا الكلام قد يمثل خيالاً مبالغاً فيه وهو في حقيقته أوهام إيديولوجية وقد تكون تلك الأماني والمعتقدات هي المدخل لنهاية حكم الملالي في طهران، إلا أن ذلك لا يعني أن لا نقرأ الواقع كما هو، حتى نكون قادرين على كبح جماح الخيال المتطرف للنخبة الدينية المتطرفة في إيران. من الواضح أن إيران قد حققت اختراقاً قوياً للأمن العربي في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية، لديها شبكة دقيقة ومنظمة في الدول العربية بعضها سري وبعضها علني واضح، وهذه العلاقات الواسعة بنتها إيران من بداية الثورة حتى اللحظة، وأخطر هذه الارتباطات ليس مع الدول بل مع الجماعات المختلفة في المجتمع العربي خصوصا مع القوى الإسلاموية ليس الشيعية فحسب بل إن إيران استطاعت بناء علاقات قوية وعميقة مع تيارات إسلاموية ثورية سنية متقاربة معها في قضايا كثيرة، كمواجهة إسرائيل وتحويلها إلى دليل على فشل المشاريع العربية القومية والوطنية والليبرالية ودليل عجز الحكام العرب في مواجهة عدوهم الأول، كما أن إيران والثورية الإسلاموية على اتفاق إلى حد التطابق أن مواجهة الغرب وإسقاط الأنظمة العربية والنخب المرتبطة بالحكام هي الطريق الأسلم لتحقيق النصر على الغرب. وهذا التوافق في معالجة أغلب القضايا المختلفة التي تواجه المجتمعات العربية نتيجة طبيعية للمنطلقات الفكرية المؤسسة للإيديولوجية الإسلاموية الشيعية والسنية فكلاهما متطابقتان في فهمهما للواقع المحيط بأبعاده المادية والمعنوية، وتعتمدان على آليات فكرية وعقدية متقاربة، فالمرشد العام للإخوان المسلمين في مصر مثلا لا يختلف كثيرا عن زعيم حزب الله حسن نصرالله، أبرز أتباع إيران في المنطقة، من حيث طبيعة الخطاب العام وآليات الفهم وطريقة التعامل مع القضايا المختلفة، والعقائد المؤسسة للفعل، كما أن المتابع لاستراتيجية الإسلاموية الإخوانية في أغلب الدول العربية سيجد أنها متقاربة مع أتباع إيران ومع استراتيجية إيران الإقليمية والعالمية. وإذا كان التشابه في فهم العالم وآليات التفكير سبباً للتقارب، فإن هناك مسألة أخرى عمقت من تقارب الإسلاموية السنية مع إيران، فمن الواضح أن مشكلة الحركات الثورية في الدول العربية في صراعها الداخلي، وجموح رغبتها في السيطرة على الثروة والسلطة وعجزها من تحقيق أهدافها جعلها مصابة بيأس بل إن قوتها تضعف مع الوقت لصالح قوى جديدة عصرية لم تتجاوز المجتمع وعقيدته. كما أن التبشير بالنصر وهزيمة الغرب عبر خطاب وسلوك مقاوم للعصر، عمق من تخلف الدول العربية والدول التي حكمتها الاسلاموية هي الأشد تخلفا وهزيمة، وفي المقابل فإن الغرب يتقدم وتقوى سيطرته على العالم الإسلامي وتهيمن تقنيته وثقافته على العالم، والإشكالية الكبرى أن خطابهم المتحدي والفوضوي هو أكثر المبررات المستخدمة لفرض الهيمنة الغربية. هذه الأزمة العميقة التي تعاني منها الإسلاموية السنية الثورية عمقت من إعجابها بالثورة الإيرانية وقد استطاعت إيران بخطاب إعلامي قوي ومحترف وبالمال المتدفق من زكاة الخُمس ومن ميزانية الدولة أن تعيد صياغة صورتها في المنطقة وتفرض نموذجها العام على الأصولية الشيعية والسنية.. كل ذلك جعل التجربة الثورية الخمينية تمثل لدى أغلب الإسلامويات السنية نموذجاً مثالياً خصوصا في قدرته على تعبئة الناس ونجاحه في دفعهم لمواجهة نظام الشاه وإسقاطه، ومن ثم مواجهة العالم لتحقيق نموذجها الثوري، وإصرارها على تحقيق أمنها القومي، وكثير منهم يرى أن الثورة الإيرانية تجربة قابلة للاستنساخ ولا مانع من مساعدة الملالي وخبراء ثورتهم. والمتابع للإسلاموية السنية في الدول العربية سيجد أن النموذج الثوري الإيراني حتى لدى من يكفر الشيعة يحرك في خيالها أحلام تكرار الثورة في عالم العرب، وفي لحظات الغضب تظهر جلية لدى بعض القيادات المتحمسة من خلال الحديث عن تفجير الثورات الشعبية، ويظهر تأثرها ونزوعها المتوافق مع طهران بوضوح في سعيها لتهيئة الشعوب للثورة من خلال خطابها المعادي للغرب في كل شاردة وواردة، وخطابهم الدائم والملح على تشويه وتدمير صورة الحكام العرب والنخب الحديثة التي تمثل في خطابهم صورة مطابقة للعدو الغربي. تصريحات مساعد وزير الخارجية الإيراني هي أعلى تجليات أوهام الاستراتيجية الإيرانية المبنية في جوهرها على أوهام إيديولوجية، وبروزها بهذه الفجاجة هو نتيجة قناعة المتطرفين في طهران أن وجود إيران الفاعل في العراق وبلاد الشام ونتيجة توافقها مع القوى القوموية العربية المتبنية لاستراتيجية معادية للغرب، ونتيجة تماهي الإسلاموية الثورية مع خطابها وتعاظم تحالفاتها الخفية معها، جعلها ترى أن هناك إمكانية لتفجير حروب داخلية في الدول العربية يلتحم فيها القومي العربي مع الشيعي الخميني والسني الثوري لمواجهة الأنظمة العربية والنخب الحديثة من خلال حرب عصابات واسعة النطاق، باسم مواجهة الغرب وإسرائيل والمخفي وراء تلك الأوهام هو وهم السيطرة الإيرانية على المنطقة ووصولها إلى العالمية وتهيئة العالم لخروج الإمام الغائب.