متى ذكر رمضان أو لاحت في الأفق بشائر قدومه لاأزل أهوي لحُيظات في قعر الذاكرة، أنبش في رواسب الطفولة وأجمع شتات مشهد رمضاني لأناسٍ كانو يتوافدون إلى بوابة واحدة ثم تسفر شرفات تلك الدار عن ترانيم جميلة وابتهالات جماعية أقل ماتحدثه فينا نحن الأطفال من تأثير هو إذكاء العزم على انتهاك وحشة الليل وتجديد رغبة اللهو واللعب حتى قدوم السحر. أكاد أجزم أن اليمنيين استقبلوا مطلع العصر الحديث بقدر كبير من الروحانية التي بثها في النفوس المدّ الصوفي آنذ - كانت على ضلوعها في تأخير التحديث وعصرنة العقلية اليمنية قد خلقت شخصية متزنة تفسح مساحة للروح فاستقرت فيها كثير من القيم والعادات الحميدة مثل التكافل الاجتماعي وإحياء المجالس الأدبية والحلقات العلمية،وحين كانت مصر والشام تتشبعان بأسباب الحضارة وعوامل التقدم كانت اليمن أرض الإنسان البسيط الرقيق الطباع المجبول على تذوق الأدب وإحياء المواسم الدينية بلغة العاطفة ومعاني الحب والرضا عن الناس بما خلد فيهم نوعاً من الترابط المجتمعي والانسجام الأسري. فالتصّوف إذن في بعض طقوسه كان حياة يستلّذ الإنسان العيش في كنفها.. كان طابع الحياة طابعاً دينياً ورمضان هو ذلك الحدث الاستثنائي الذي تحتشد له الطاقات وتزهر له القلوب وتتجدد له في الوجوه علامات الرضا. كان رمضان أشبه بمهرجان عظيم لسباق نوراني يشترك فيه الجميع ويفوز فيه الجميع.. وهؤلاء الفائزون هم الذين يطلقون الأهازيج وتعابير الفرح طيلة شهر لاستقباله ثم يدبجون البكائيات في وداعه شهراً أيضاً.. وبين ذا وذاك كانت ليالي رمضان عرائس تشهد احتفاء الإنسان بلحظات إيمانية،وكان صدى الشدو بالمدائح النبوية المترامي مع ضوء المصابيح في أزقة الأحياء هو الخمرة التي تسكر السمار فتصفو قلوبهم ويتجدد فيهم بريق الإيمان وتستوطن القناعة النفوس.. وعلى ضوء ذلك يحق لنا أن نقول إن ذلك الجيل هو وليس نحن من عرف سر قدوم هذا الشهر ومافيه من خصوصيات وفرائد، فاغتنم ذلك في صناعة السرور وتزود منه بما يحول دون رجحان كفة المادية على الروح في سائر أشهر العام. لكن ما الذي بقي لإنسان اليوم من صفاء تلك الحياة؟ أين ذهبت أماسي رمضان الجميلة وصباحاته الباسمة؟ أظن هذا ما ستتكفل بالإجابة عنه أزمات بات يعيشها الصائمون اليوم وهم في غمرة البحث عن مرفأ مناسب يزيل وعثاء النهار ومشقة الصيام. لكم يعجب الصائم لنفسه وهو يكبَّل كل يوم بأغلال المتطلبات والاحتياجات الذاتية في رمضان هذا الفضاء الطلق. في رمضان اليوم تأخذنا الصورة كثيراً لتفقدنا كل لحظة نطمح فيها بالجلوس إلى كتاب أو مطبوعة جلوساً خالياً من الملوثات الضوضائية. في رمضان اليوم ننجز كل شيء ب «المكاردة» واختلال نظام النوم يعني لدينا تشريعاً لتأخير الأعمال أو التسريع في أدائها بطريقة تخرجها خالية من أي معيار للدقة. في رمضان اليوم نُشعر الأجساد بأنها مظلومة فنسعى إلى إرضائها بما يجلب لها التخمة وحرمان الاستلذاذ بأوقات الراحة ثم ندعي البحث عن السعادة الرمضانية، والسعادة قد ولّت يوم أن ضّيعنا حقوق الروح.!! في رمضان اليوم تتلبد أجواء «الحارة» بالغيوم العابسة ويكتسي الليل وحشة وادي السباع.. ورجال «الحارة» ماعادوا يتجهون نحو بوابة واحدة ،وشرفات المساكن تكتظ فيها أصداء صاخبة ونوبات قلق ساذجة لا مبرر لها، وربما سألت الأطفال:أين رمضان؟ فيجيبون «مانعرفوش!!» لكن ثمة شواهد تثبت للسائلين أن رمضان فرَّ من باب الحارة!!!