مثابة ابن دريد الأزدي البيانية جعلت من لغته الشفاهية مُدوْزنة بالمعاني والصوتيات الواثقة، فخلبت ألباب سامعيه حتى قيل إنه لم يكن بيانياً كاتباً فحسب، بل متحدثاً لبقاً يُحسن التماهي المُتناغم مع الحال والمقال. وبهذه المناسبة لابد من الإشارة إلى أن الثقافة الشفاهية التاريخية الموصولة بملكة اللفظ والدربة على الصوتيات وتصاريف معانيها وأبعادها كانت تمثل محطة هامة في الصقل والتهذيب الموصولين بخوارزميات التفاصل والتواصل بين المكتوب والمروي من جهة، وبين المقروء والمسموع من جهة أخرى . عندما نستعيد هذه الوامضة من ثقافة ابن دريد نرى بعين اليقين أن مفاهيمه الكُلّية اقترنت بقدر كبير من تدوير الكلام والتنويع على أبعاده ومراميه، وصولاً إلى تخزينه في الذاكرة مما يعيد إنتاج ملكاته بكيفيات مختلفة، والشاهد أن ابن دريد كتب الشعر المُحايث لأكثر المفردات العربية تباعداً عن قواميس المألوف والمعروف حتى استوهم البعض في تصنيفه ضمن خانة شعراء الجاهلية، فيما يرى آخرون أنه يلتبس بالاشتقاقات والتطويعات التعريبية القادمة من ثقافته العالمة باللغات والثقافات الإنسانية الأخرى. كان ابن دريد مهجوساً بنحت الكلام من الكلام، ومقارنة القول بالقول، ومتابعة الإيقاع الصوتي المعروف بنظير فريد وغريب، وهذا هو سر الالتباس الذي وقع فيه بعض قارئيه. علاقة ابن دريد بالتجريب الشعري جعلت من نصوصه اختباراً حقيقياً لمن يقرأها، ولعله بهذا القدر من التقعير فقد بريق الشعرية ووهج الاتصال الرشيق مع المتلقي مما تتسع له المقاربات والاجتهادات. لقد حرص كثيراً على الاشتقاقات غير المألوفة، كما اختار أحايين كثيرة أنساقاً من الأوصاف والمحسنات البديعية الثقيلة، فأجهد نفسه وقارئيه، غير أنه كان رشيقاً ناعماً في حالات أخرى، ولم يخلُ شعره من الهجاء المباشر الذي أثر سلباً عليه ..