أرسل لي الأخ حسن الأشرف من المغرب 21 سؤالاً يريد أن يمسح جغرافيتي الفكرية، ولطرافة الأسئلة والأجوبة وجب تعميمها على القراء، فأنا رجل أكتب كل مقالة كتابة مودع، بما فيها هذه التي بين أيديكم، كما أنني لست بالصحافي ولا من الشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم لكل أمير مادحون، ولكل مفكر قادحون، ولكل مسئول لحقائبه حاملون، ولمجده الكاذب نافخون. كما أنني لا أعيش من الصحافة؛ بل من الطب وقاعات العمليات وضبط النزوفات وفتح التقيحات وسهر الليالي، فإذا هدأت الأجواء من حولي ذهبت إلى محراب الريشة والقرطاس وقلم وما يسطرون، وهذه الأسئلة تفيد في معرفة جهل الجاهلين، وتحامل المتنطعين، وصبر الصالحين.. قال الأخ السائل: 1 هل يمكنك دكتور خالص الحديث لنا عن فترة الميلاد.. في أي بيت رأيتم النور أول مرة؟. ولدت في مدينة القامشلي في سوريا في بيت شبه أمي لا يحوي كتاباً واحداً. 2 ولدت في مدينة القامشلي عروس شمال سوريا.. كيف قضيت طفولتك بين شجيرات القصب التي اشتهرت بها هذه المدينة الهادئة؟. القامشلي بلدة تعيسة منهوبة ممزقة ممزعة يعلوها الغبار والفتن والحزازات والحزبيات، في شرانق مغلقة، تتبادل الكراهية والريبة والعداوة، ولذا لا أحبها وودعتها غير مأسوف عليها كما فعل لوط فقال إني مهاجر إلى ربي سيهدين. 3 كيف كان أثر الوالدين خصوصاً على تنشئتك؟. أبواي أنجباني بيولوجياً وأعطياني جينات جيدة.. أما البيئة فخانقة متخلفة قاتلة للعقل والعقال، ولم أكن لأكون "خالص جلبي" لو لم أطلقها بدون عودة، فقد شطبت عليها، وخرجت منها كما يخرج الصوص من البيضة المكسورة فلا يعود لها، وكما تخرج المركبة الفضائية متحررة من جاذبية الثقافة، ومازلت أحمل الكثير من السلبيات من تلك البيئة الجاهلة التعيسة. 4 حدّثنا عن فترة ما قبل الدراسة.. هل من أحداث تحتفظ بها في ذاكرتك أثرت في تكوينك التعليمي والفكري من بعد؟. الجهل المطبق والخوف من العلم والسخرية ممن يقرأ!. 5 كيف كانت بداية تكوينك الفكري، وما أبرز ملامحه الرئيسة؟. صنعت نفسي بنفسي، والصدف دفعتني أمواجاً هنا وهناك؟. 6 ما هي طبيعة المناخ السياسي والفكري السائد في سوريا في فترة شبابك ودراستك في كليتي الطب والشريعة؟. حرب بين الإخوان والبعثيين والمقرودين والانتهازيين والكرمنجة والشيعة والشيوعيين، وعشاير شمر وطيء، والنصاري والناصريين، والطوخلركه والسريان، والأرمن والآشوريين، وعبدة الشيطان وعبيد الطاغوت في مستنقع ينبت البعوض والذبان من كل صنف زوجان. 7 كنت أحد قادة الإخوان في سوريا في سنوات السبعينيات.. لكنك انقلبت عليهم.. ما أسباب هذا الانقلاب، وهل له من أثر في مسارك فيما بعد؟. وقعت في شباكهم وتحررت منها، ولم يكن سهلاً بعد الوقوع في شبكة عنكبوت الحزب والحزبية، ولم أكن قيادياً ولكن ناقداً متسائلاً، وهم يكرهون هذا النوع من الناس، ويطردونهم ويحطمونهم في أسرع وقت، وهو ليس مرض الأخوان، بل كل حزب بما لديهم فرحون ولخصومهم مدمرون. 8 تعرفت على المفكر الراحل جودت سعيد الذي تزوجت بأخته المرحومة ليلى سعيد.. كيف كانت علاقتك بجودت سعيد على المستوى الفكري، وما حدود التأثر والتأثير بينكما؟. جودت سعيد مدرسة ورجل ذو عقل نظيف، ويبقى ضمن دائرة النقد واستفدت منه، وهو ليس خارج الخطأ، أو المساءلة، ولقد اختلفت معه في أمور أهمها موضوع حزب الله وإيران. 9 كان للمفكر الجزائري مالك بن نبي تأثير عليك أيضاً.. هل لك أن تشرح لنا ماهية هذا التأثير وطبيعته؟. أفكاره ممتازة في خمس وست مواضع، ولكنه أيضاً تورط في موضوع العجل الناصري. 10 عُرفت مدينة القامشلي التي ولدت بها أنها مدينة هاجرها العديد من شبابها لأسباب كثيرة إلى ألمانيا والسويد ودول أوروبا الغربية حينها وذلك خلال الستينيات والسبعينيات من القرن ال 20، فهل هاجرت أيضاً إلى أوروبا في نفس تلك الموجة من الهجرة؟. القامشلي أصبحت الآن مدينة كردية قومية شوفينية بسبب القوميين العرب المناكيد، وسوف تكون أحد مدن الدولة الكردية المستقبلية، وربما تتحول إلى الإنسانية بعد ثلاث قرون، ومن كان في بيئة مريضة عليه هجرتها بسرعة قبل أن يموت. 11 عشت ردهة من الزمن في ألمانيا، حيث تابعت تخصصك في جراحة الأوعية الدموية هناك.. كيف استطعت المزاوجة بيت التكوين الفكري الخاص بك وبين التكوين المهني في مهنة الطب الجراحي، ألم يكن الأمر متعباً لك؟. أنا ولدت للعلم والعالم، والطب هو10 % مني فقط. 12 هل من علاقة بين جراحة الأوعية الدموية وبين جراحة العقول فكرياً؟. ليس من علاقة؛ فالجراحون مثل الحلاقين، أهل مهنة ولا فرق كبير بين جراح وسائق شاحنة سوى في لون المعطف أزرق أو أبيض، وبينهم وبين الفكر مسافة ثلاث سنوات ضوئية. 13 ما هي أبرز المؤلفات التي أثرت في تكوينك الفكري؟. أطنان وعشرات الآلاف من الكتب والمقالات وبأكثر من لغة. 14 لديك كتب كثيرة حول العقل الإسلامي وتنويره وحول اللا عنف في العمل الإسلامي وغير ذلك.. لكن ما هو أهم كتاب تجده الأقرب إلى عقلك وقلبك من ضمن كل مؤلفاتك، ولماذا؟. ثلاث: الطب محراب للإيمان النقد الذاتي وسيكولوجية العنف، واستراتيجية العمل السلمي. 15 ما هي طقوس كتابتك دكتور جلبي، هل تحب السكون أم الضجيج.. النهار أم الليل.. وهل تكتب بتأثير المزاج الجيد أم السيئ. أكتب في الباص والطائرة والمطار والمحفل والعرس والدبكة ومحطة السكة الحديدية وبين الزعيق والبعيق والنهيق وحين يتشاتم الناس ويصيحون، سلاحي قلم ودفتر وفكرة في كل زاوية ومحطة. 16 بطبيعتك.. هل تحب الاختلاط بالناس أم العزلة، حيث قد تجد فيها ذاتك المفكرة؟. صديقي الطفل والقطة والمريض والعامل البنغالي المسكين علم جير، وأكره الجبارين والمخابرات والثورجية والحزبيين والمتشددين والجملوكيات والاستبداد وقلة العقل والذوق والحياء، وأمقت العنفيين مقت الشيطان. 17 كيف تختار موضوعات كتبك التي تؤلفها، هل من منهجية معينة؟. وحي يأتي ونار تنقدح وتتدفق الكلمات على ظهور الجمل والعبارات، كما في لقائي هذا معكم. 18 هل ساعدك تعدد لغاتك التي تتقنها مثل العربية والألمانية والانجليزية.. في تطور ملامح فكرك؟. بالتأكيد. 19 اتهمك كثيرون بتهم منها الزندقة لكونك تطعن في التاريخ الإسلامي، وتحط من قيمة بعض الصحابة ووصفتهم بالشخصيات الهامشية..إلخ.. كيف واجهت هذه الاتهامات.. وهل أثرت في كتاباتك ومصداقيتك؟. صحيح وما لم أصرّح به أشد، وهناك أشياء تختلط على الناس، وهناك حساد وكذابون ومنافقون نمامون وأعداء متربصون بي ريب المنون. 20 هل لاتزال تتعرض للاتهامات والتهديد مثلاً بسبب كتبك وآرائك الفكرية؟. بعد اصطدام المتشددين الحاد والصاعق مع الأنظمة السياسية شققت طريقاً مثل موسى بينهما، فكان كل فرق كالطود العظيم، بين المخابرات والمتشددين.