إذا عرَّضنا البارود والشمع والحليب للنار؛ اختلفت النتيجة؛ فانفجر البارود، وذاب الشمع، وفار الحليب، وإذا ألقي عود الثقاب في برميل ماء انطفأ، وإذا ألقي في حوض بنزين اشتعل بعاصفة من النيران. وفي الصيف تكفي شرارة لإشعال غابة جافة، وفي الربيع تخضر الأرض فتنبت حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها. وفي الخريف لا توجد قوة تستطيع إيقاف تساقط الأوراق، سنة الله في خلقه، فهذه جدلية وجودية بين العامل الداخلي والخارجي، وأعمال العنف الاجتماعية والسياسية لا تشذ عن هذا القانون. وعندما تحدث القرآن عن "السنة" لم يكن يقصد بها قانوناً فيزيائياً مثل تمدد المعادن بالحرارة، ولا القانون الكيماوي بتفاعل الحامض مع القلوي، بل كان يتحدث عن "القانون الاجتماعي" فهو عندما يذكر هلاك الأمم يقول «سنة الله في عباده وخسر هنالك المبطلون». وفي علم الاجتماع يعتبر "ماكس فيبر" عالم الاجتماع الألماني المشهور أن الاقتصاد يقوم على إشباع الحاجات بطريقة سلمية، ولكن السياسة تقوم على الإكراه، والدولة تحتكر العنف الجسدي الشرعي. ويمضي (بيير فيو) في كتاب (المجتمع والعنف) إلى وضع ما يشبه القانون الاجتماعي في كيفية برمجة العنف، عندما تضع النخبة يدها على مقدرات الدولة إلى الحد الخطير؛ فيتحدث عن إغراء الفساد السياسي ويقول: "إن هذا الإغراء تطلق عليه تسميات مختلفة (ترقية غير قانونية، رشاوى، عائلية، امتيازات إلخ.. يعني أن يغدق المسئولون على أنفسهم أو يوزعوا على زبانيتهم من أصدقاء ومعاونين امتيازات لا تبررها أية خدمة أسديت للمجتمع، إن هذه المخالفات تختلف من حيث الخطورة والاستمرار والاتساع، وهي ما أن تبلغ حداً معيناً حتى ينتهي بها الأمر أن تمس حقوق معظم الناس الأساسية، وأحياناً بصورة خطيرة، لصالح قلة من أصحاب الامتيازات، وبذا ينشأ وضع عنف، فحتى لو أمكن استسلام الجماهير أو عجز النظام القائم عن الاستمرار؛ فإن عناصر الانفجار باتت مجتمعة، وكل ما تحتاجه الشروط التي يتسنى لها فيها أن تتحول إلى عنف فعلي". إن القرآن الكريم يربط بين "الاستقامة" و"نزول المطر" ولكن كيف؟!. وأعترف أنا شخصياً أن الآية لم تكن لتتجلى لي وتتضح، لولا أنني فهمت المزيد من قوانين علم الاجتماع!!. «وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً» فما علاقة هذا بذاك، وما علاقة الكفر بالخوف والتوحيد بالأمن؟!. ومثلاً فالآية تقول عن القرية الآمنة المطمئنة التي كان يأتيها رزقها رغداً من كل مكان أنها كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون. والآية الثالثة على لسان ابراهيم عليه السلام يعتبر أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم "أولئك لهم الأمن وهم مهتدون". وفي الواقع فهذه القضايا الضخمة ليست غيبية بل مرتبطة بقوانين حركة المجتمع، وعندما يتوفر العدل الاجتماعي تصان الأمة من الهزات السياسية. ونحن اليوم وقد بدل الله العالم كله أمنه خوفاً يتساءل الإنسان عن السبب؟! والجواب هو من الظلم. وفي الحديث أن الظلم هو باب هلاك الأمم. وهناك قصة جميلة يرويها ابن خلدون في المقدمة تحت فصل "الظلم مؤذن بخراب العمران" فيروي عن الموبذان، وهو رئيس الكهنة مع الملك بهرام، أنه سأله عن لسان الحيوانات؛ فقال له عن بوم يغازل بومة يطلب ودّها ويخطب يدها؛ فشرطت عليه مهراً!!. قال الملك: وماذا طلبت منه؟. قال: لقد اشترطت لزواجها خراب عشرين قرية؟!!. ثم أضاف فقال لها: إن أدام الله حكم الملك بهرام؛ فهو يعدها بخراب ألف قرية؟!!. تعجب الملك من الخبر، وأدرك أن خلفه سراً؛ فأخذ الموبذان وتكلم معه على انفراد. قال: ويلك ما هذه الحكايات التي ترويها، وهل تظن أنني سأصدق هذا، فأخبرني بالخبر اليقين ما وراء الكلمات؟!. قال الموبذان: أعز الله الملك، إنه لا قوام للملك دون شريعة، ولا تقوم الشريعة دون الحكم، ولا قيام للحكم إلا بالجند، والجند يحتاجون الرواتب، وهذه لها مصادرها من العمارة، ولا عمران دون عدل؛ فالعدل أساس الملك، وهو الأساس الذي قامت عليه السموات والأرض، وأنت أيها الملك قد أفسد من حولك الحياة، وصادروا الضياع والتجارات، وظلموا العباد!!. فانتبه الملك وأقبل على رعيته وأصلح أمور مملكته. جلبي يومياً في الجمهورية يكتب الأستاذ خالص جلبي ل«الجمهورية» عموداً يومياً من السبت إلى الأربعاء فيما يخص الخميس والجمعة لكتابات دراسات تحليلية سياسية - علمية - ثقافية. ولد في مدينة القامشلي شمال شرق سورية، وتخرج من كلية الطب عام 1971 وكلية الشريعة 1974. سافر إلى ألمانيا وأتم هناك تخصصه في جراحة الأوعية الدموية، وعاش فيها حتى عام 1982 حصل على دكتوراه في الجراحة (فاخ أرتس FACHARTZ) من ألمانيا الغربية 1982 م، ثم عمل كرئيس لوحدة جراحة الأوعية الدموية في المستشفى التخصصي القصيم السعودية (طاقة 570 سريراً) (VASCULAR - SURGERY - UNIT). حيث عاد من ألمانيا ليستقر في السعودية، أقام فترة بمدينة بريدة بالقصيم وعمل في مستشفى الملك فهد التخصصي ببريدة وقد عرف نفسه مرة بقوله: ((إنني سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، وألماني التخصص، وكندي الجنسية، وعالمي الثقافة، ثنائي اللغة، لغة التراث ولغة المعاصرة, وأدعو إلى الطيران نحو المستقبل بجناحين من العلم والسلم)). تعرف على جودت سعيد (وتزوج بأخته ليلى سعيد) في بداية السبعينيات من القرن الماضي وتأثر بفكره وفكر مالك بن نبي كثيراً . لليلى وخالص خمس بنات: عفراء، مريم، أروى، آمنة، وبشرى. توفيت زوجته ورفيقة فكره ليلى سعيد في (أيلول/سبتمبر 2005). يتكلم اللغتين الألمانية والإنجليزية بالإضافة إلى العربية. كتب ويكتب حالياً بشكل دوري وأسبوعي في العديد من الصحف والمجلات العربية مثل: الصحف السعودية "الرياض، الشرق الأوسط، الوطن، الاقتصادية، المدينة" ، والاتحاد الإماراتية، والبلاد البحرينية، وموقع إيلاف الإلكتروني، وجريدتي المساء والراية المغربيتين ، وجريدة الجمهورية في اليمن، كما يكتب فيما يزيد عن عشرة منابر فكرية (عربية ودولية ) مثل مجلة الفيصل السعودية الحضارة إصدار السويد مجلة الكلمة في لبنان مجلة العربي الكويتية القافلة آرامكو السعودية المجلة العربية السعودية مجلة المجلة (إصدار لندن) مجلة (الصقور) التابعة للكلية الجوية السعودية جريدة المحايد إصدار لندن كما ترجمت بعض أعماله، ويظهر بين حين وآخر في مقابلات تلفزيونية لمناقشة قضايا التنوير والفكر الإسلامي المعاصر. شارك في العديد من المؤتمرات الثقافية والفكرية الدولية وساهم في رفد مركز (اللاعنف العالمي مبارك عوض) في واشنطن بالأبحاث. نال جائزة (علي وعثمان حافظ الصحفية) عن أفضل مقالة لعام 1997 م.