جرى حوار بين (كونفوشيوس) وتلميذه (هو تسي كوج) الذي كان يسأله؟ يجب أن توفر السياسة ثلاثة أشياء: لقمة العيش لكل فرد، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية، والقدر الكافي من ثقة الناس في حكامهم. هنا ينبري للسؤال، التلميذ يامعلمي: وإذا كان لابد من الاستغناء عن أحد الثلاثة فبأيها تضحي؟ يرد الأستاذ: بالتجهيزات العسكرية؟! عجيب!! يعود الطالب للحيرة أكثر فيسأل: وإذا كان لابد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين فبأيهما تضحي؟ يجيب الأستاذ: في هذه الحالة نستغني عن القوت، لأن الموت كان دائماً مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة. وهذا الكلام قد يبدو صعب الفهم بين الثقة والطعام؛ فالناس لا تعيش بدون طعام عادة، ولكن القصة تروي بإلحاح أهمية الثقة كأساس لتعامل البشر بين بعضهم بعضاً، ويقابل هذا الغدر، فإذا انكسر جسر الثقة لم يبق تواصل؟ واليوم يعاني العرب من التمزق كله فأحبطت أعمالهم، كله بسبب استفحال آفة الكذب والغدر بيننا. وقصة الحكيم (كونفوشيوس) تذكرني بقصة وردت في مقدمة (ابن خلدون) على لسان الموبذان والملك بهرام حين كان يمشي معه فسمع صوت بوم، قال له هل تعرف لغة الطيور؟ قال: نعم أيها الملك. قال: فماذا يقول هذا البوم؟ قال: إنه يخاطب بومة، يريد أن يتزوج منها فهو يخطب ودها، ولكنها تتمنع. قال بهرام: وماذا تطلب؟ قال الموبذان: إنها تطلب مهراً قدره خراب عشرين قرية؟ قال بهرام: وبماذا أجابها؟ قال الموبذان: إنه يقول لها: إن أطال الله في عمر مولاي فسوف يكون مهرك خراب ألف قرية وليس عشرين. تفكر بهرام وقال: ويحك إن كلامك ألغاز فأصدقني الخبر؟ قال الموبذان: هل نتكلم على انفراد؟ قال: نعم. وهل أنا آمن؟ تفضل فأنت آمن؟ قال: مولاي إذا بقيت الحالة هكذا خربت ليس ألف قرية بل كل الوطن. قال له: اشرح لي؟ قال: إن الظلم مؤذن بخراب العمران، فقد عمت الرشوة فأصبحت سائدة والناس يخافون على أنفسهم، والمحسوبيات أكلت الكفاءات، والأمكنة الحساسة يملؤها الضعفاء. ويعقب ابن خلدون على هذا القانون الاجتماعي فيعقد فصلاً بعنوان «فصل بأن الظلم مؤذن بخراب العمران» ويقول: إن هناك آلية للعدل، فالحكم يقوم بالشريعة، وهذه يحرسها الجند، وهم موظفون بحاجة للرواتب فلابد من المال، والمال لابد له من مصادر، ومصادره وفرة العمران، والعمران يحتاج لحراك اجتماعي، وهذا يأتي بأمن الناس على أموالهم حتى ينشطوا. وهذا يذكر بقول (مكيافيللي) : إن الناس ينسون الإساءة إليهم في قتل آباءهم، ولكنهم يحقدون على من سلبهم أموالهم. «والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان».