يحكى لنا أن حواراً جرى بين كونفوشيوس ذلك الفيلسوف الصيني والذي أشتهر بمقولته المشهورة "لو قال كل إنسان ما يفكر فيه بصدق فإن الحوار بين البشر يصبح قصيراً جداً " مع تلميذة هو تسي كوج حين سأل التلميذ أستاذة قائلاً : ما الذي يجب أن توفره السياسية لكل بلد أو دولة ؟ فأجاب الأستاذ يجب أن توفر السياسية ثلاث اشياء : لقمة العيش لكل فرد ، والقدر الكافي من التجهيزات العسكرية ، والقدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم ، فعاد يسأل كوج فإذا كان لا بد من أن تستغني الدولة عن أحدى هذه الأمور فماذا تضحي ؟ فيرد الأستاذ بالتجهيزات العسكرية . فيسأل وإذا كان لا بد أن تضحي الدولة بإحدى الأمرين فهل تضحي بلقمة العيش أم تضحي بالثقة ؟ فيرد الأستاذ :في هذه الحالة نستغني عن القوت ويعلل ذلك بأن الموت كان مصير الناس جميعاً وليس فيه تفضيل أو تشريف ولكن إذا فقد الناس الثقة في حكامهم لم يبقى أي أساس للدولة . كونفوشيوس حكيم صيني متدين وصوفي لا يدين لإله أو رب ولكن لمجموعة كبيرة من القيم والأخلاقيات والسلوكيات جعلته يحمل لقب نبي الصين وهذا ما جعله يستطيع أن يجعل التضحية بالتجهيزات العسكرية هي الأولى وهو عكس التفكير السائد هذه الأيام .هكذا اختار الرجل تلك العبارات وهو صاحب التجربة والمذهب الذي تضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي . أما نحن فليمت الشعب جوعاً ولنشتري الأسلحة والأسلحة التالفة والقديمة ، لايهم ، المهم هو الاستعراض بالسلاح أو الأستقواء به . هكذا أختار الرجل أن نضحي بالسلاح ، وأن نضعه جانباً لتسود لغة الحوار والآراء بدلاً عنه .هكذا أختار حكيم الصين لغة مغايرة للغة الزعامات والحكومات والتي تكبد شعوبها ديوناً وتبيع كرامات في سبيل الحصول على الأسلحة االتي تحافظ على الكراسي وتحمي العروش ، إنها تنفق ميزانية الدولة لتسود أكثر لا لتحمي الدولة ولا لتحمي المواطن . لينظر القاريء العربي الصفقات الشرائية العربية للأسلحة كميتها ومقدارها ونوعيتها . لينظر كيف تسخر هذه الاسلحة في إهانة المواطن العربي وتركيعه ،كيف تبيع الدول الأسلحة لمواطنيها لتزيد من حدة الصراعات والثارات والتناحرات ، لينظر القاريء العربي كيف أن الصفقات الشرائية العربية لم تسخر إلا ضد المواطن ولم تستخدم إلا لإخضاع الشعوب وقبولها بما يرضي الزعيم العربي وأعوانه ، الثقافة السلطوية والتفكير بالحماية لم يقتصر على الحاكم فقط وأعوانه ولكنها تبدو سلوكاً للمواطن العربي عامة واليمني خاصة فبيننا من باع بقرته وجمله من أجل شراء قطعة سلاح يحمي نفسه بها ، وبيننا من يعتقد أن قطعة السلاح ووجودها أهم من كل هراء كونفوشيوس . حدق بعينيك باتجاه اليمن لترى انعدام الأمن في الجنوب وأنعدامه في الشمال ومقدار النهب والقتل في الوسط ، لترى كم أن شراء السلاح مهم من أجل الدفاع عن النفس والأرض في ظل غياب الدولة وأنعدام الأمن وتغييب القانون .. بين الطعام والثقة أختار الفيلسوف الصيني أن نختار الثقة ونستغني عن لقمة العيش وهذا عكس السائد في الثقافة المجتمعية ، فالمجتمع ممكن أن يستغني عن كل شيء في سبيل لقمة العيش وكما قال أحد الأئمة " الجوع كافر " ممكن ان يجعلك الجوع تتخلى عن الدين .أما عن الثقة بين المجتمع وحكامه فهي معدومة تماماً ، لا أظن أن هناك فرد في العالم العربي يصغي لخطابات حكامه بعد أن جعلوه يجري وراء الثانية التي أختار كونفوشيوس التضحية بها في سبيل السماع لهؤلاء الحكام وهم يحدثوننا عن أبجديات جديدة في السياسة والفكر والأستراتيجي . تحاول السياسة في العالم العربي أن توفر ثلاثة أشياء : الجوع لكل فرد ، والقدر الكافي من الخوف من الثكنات العسكرية ،والقدر الكافي من العزلة والخوف من الحكام وأجندتهم، إذ ليس ثمة سياسة ولا كياسة فالدولة العربية مصابة بمرض القرّاض ، لم نستطع تحديد الداء ولا الدواء ... وإذا سلمنا بمقولة كونفوشيوس بأن الثقة إذا انعدمت لم يبقى أي اساس للدولة فليس ثمة دولة لأنها لم توفر الثلاثة الشروط التي يراها كونفوشيوس من مهام السياسة . ويذكر أيضاً أنه ذات مرة دخل زيزانج (أحد تلامذته المخلصين، وأحد المقربين إلى الملك) على الفيلسوف مندفعاً وقال في انفعال: أنتم جالسون هنا، والبلد تغلي كالمرجل، يا سيدي البلاد على وشك حرب أهلية، ونحتاجك بشدة لتكون معنا في الحكومة. بهدوء أشار إليه أن يجلس، ويحضر الدرس، لكن زيزانج لم يتمالك نفسه، وقاطع أستاذه قائلاً: "لقد علمتنا أن كل فرد فينا مسئول عن العالم، وعليه ألا يتخلى عن دوره، في الماضي لم أكف عن الصلاة من أجل أن يحفظ الله البلاد، ثم وجدت أنني يجب أن أكون أكثر فعالية فشاركت في الإدارة، وها أنذا أدعوك لتكون إيجابياً وتنضم معنا إلى حكومة الإنقاذ." قال كونفوشيوس: "ومن قال إنني لن أشارك؟ بعد أن أنهي هذه العظة، سأذهب إلى قروي فقير في الحي المجاور وأساعده في بناء كوخه الذي هدمته السيول. ثم التفت إلى طلابه وقال: "عندما يفعل كل منا ما بوسعه فإن الجميع سيستفيد وستنهض البلد. بينما عندما ينتهي بنا الأمر إلى مجرد منادين وباعة في سوق التغيير دون أن يملك أي منا سلعة حقيقية، فنحن نبتعد أكثر فأكثر عن تحقيق الهدف. هناك آلاف الطرق التي يمكن من خلالها أن نشارك في السياسة، ولا أجد أنني مضطر حتى أثبت إيجابيتي وصدق دعوتي للتغيير أن أشارك في إضراب أو أن أصبح جزءاً من الحكومة. في يمننا لا يوجد زيزانج حتى يكون هناك كونفوشيوس .. ويذكر أيضاً ان كونفوشيوس رأى امرأة تبكي بحرقة أباها وزوجها اللذان افترسهما النمر ؟ فسألها ؟ ولماذا لا تغادرين هذه الأرض التي تفترس فيها النمور البشر ؟ فأجابت : هنا لا يوجد حكومة ظالمة ؟ فيلتفت كونفوشيوس إلى تلاميذه ويقول : أنظروا إن الحكومة الظالمة أفظع من النمور الجائعة !! المصدر أونلاين