“الحياة يا إلهي عبء ثقيل، ولولاك لأمسك كل منا بيد الآخر، رجالاً ونساء، وذهبنا لنلقي بأنفسنا في هوة سحيقة ما لها من قرار، لنتخلص من الحياة. ولكنك موجود، وأنت يا ربنا الفرحة والعزاء وحامي المقهورين”. تلك بعض كلمات القديس فوتيس، راعي القرية المنكوبة في رواية “المسيح يصلب من جديد”، للروائي اليوناني العظيم نيكوس كزنتزاكس. قالها في موقف أليم انكسرت فيه آماله وآمال أهل قريته المهجّرين من ديارهم، على أعتاب الصلف والأنانية التي أبداها في وجوههم قسيس قرية أخرى طلبوا معونته وأهل قريته، بعد سفر شاق. هذه العبارات ذات الجرس الإنجيلي، هي مما تعودنا عليه في لغة كزنتزاكس، سواء في هذه الرواية أو في غيرها. والذي اطلع على مذكراته الرائعة “تقرير إلى غريكو” لا بد أن تروعه في مقدمتها تلك العبارة الذهبية التي يقول فيها “سألت الزهرة: أين الله؟ فتفتحت”..!. وكلمات القديس فوتس هذه هي كلمات كل ذوي الحساسية العالية ضد الظلم، من أصحاب الهموم المتعدية، عندما تخذلهم الحياة، وتنسد أمامهم الطرق، وتنهار بداخلهم الآمال. وهو الوضع الذي نكاد نعيشه نحن اليمنيين خصوصاً، والعرب على وجه العموم هذه الأيام، ونحن نراقب بقلوب متعبة وأعصاب مجهدة، حالة الممانعة الشديدة، التي تبديها عناصر وطوائف من أبناء هذه الشعوب، تجاه عملية التغيير والنهوض. فلول النظام السابق وخبطات الكهرباء، فلول حسني مبارك وخبطات المجلس العسكري، فلول معمر القذافي وخبطات العصبية القبلية، شبيحة آية الله بشار الأسد وخبطات الطائفية. كلها روايات متعددة لقصة واحدة. إنها ليست قصة الأنظمة الفاسدة فقط، بل هي أيضاً قصة الشعوب المنافقة، التي ترى القذى في عين خصمها (التغيير) ولا ترى الخشب في عيونها. والأعراب هم الأعراب، أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعرفوا حدود ما أنزل الله. يسألونك عن الثورة لمَ لمْ توفر الكهرباء للناس؟ ولا يسألونك عن المخربين من وراءهم وما غايتهم؟. يسألونك عن خيرات الثورة أنى هي؟ ولا يسألونك عن موانع النهوض من وضعها في الطريق؟. نحن نعرف أصحاب هذه اللغة جيداً، نعرف سيكلوجيتهم المريضة، منذ أن عرفنا نموذجهم التاريخي القديم في قصة موسى. عرفناهم في نذالة الإسرائيلي الذي وشى بموسى للمصريين وقد أنقذه بالأمس. وعرفناهم في صلف قوم موسى وهم يفضلون بصل النظام القديم وعدسه على مَنِّ الثورة وسلواها. وعرفناهم في غفلة قوم موسى وقد انخدعوا بعجل السامري، بعد أن رأوا آيات الله تتنزل أمامهم لسنين طويلة. وعرفناهم في جبن قوم موسى وهم يقولون لنبيهم “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون”. إنها سيكلوجية العبيد التي تخلقت في رحم الاستبداد والفساد السياسيين، لمئات من السنين والأجيال. ولو أنك تسللت إلى عقل العبد ونفسيته لوجدته يرى أن عالم العبودية بكل شروطه وخصائصه هو العالم الطبيعي، وأن عالم الأحرار هو الشذوذ الخارج عن الأصل. ولهذا تندر المروءة وأخلاق النبلاء في أوساط العبيد، لأنها من وجهة نظرهم أخلاق اصطناعية ترفية، اتخذها الأحرار الارستقراطيون لمزيد من الوجاهة. ماذا تسمي هذا الصمت المنافق، لدى كثير من أنصار النظام السابق، تجاه أعمال التخريب في مأرب ونهم مثلاً؟. هل كنت ستجد هذا الصمت منهم لو أن المخرب كان من أنصار المعارضة أيام علي صالح؟!. أين العيون الحمراء التي كانوا يبدونها للثوار المطالبين بحياة كريمة للجميع بطرق سلمية؟ لم لا نراها اليوم مع رجال الخبطات الكهربية؟. أين أوداجهم المنتفخة غضباً، التي كنا نراها كلما رمينا عجلهم الذهبي المخلوع بوردة؟!. هل حرصهم على مصالح عائلة أكبر من حرصهم على مصالح شعب؟. كلا، إنها سيكلوجية العبيد وحسب. لم يعد من حق أحد أن يتهم ابن خلدون بالشعوبية ضد العرب وهو يصفهم في مقدمته وصفاً مطابقاً لما نراه بأعيننا اليوم. فهم عنده أهل “نهب وعبث” وهم “إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأنهم أمة وحشية، فينقلون الحجر من المباني ويخربونها لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمِّروا به خيامهم، وليس عندهم في أخذ الأموال حدٌّ ينتهون إليه، وليست لهم عناية بالأحكام (القوانين) وزجر الناس عن المفاسد؛ إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهباً أو مغرماً؛ فإذا توصلوا إلى ذلك أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم، وهم متنافسون في الرياسة وقلّ أن يسُلّم واحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه, إلا في الأقل، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، فيفسد العمران وينتقص، وانظر إلى ما ملكوه من الأوطان كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه، فاليمن _ قرارهم _ خراب إلا قليلا من الأمصار، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك”. فبالله عليك هل تجد وصفاً أصدق من هذا على أنصار وفلول الأنظمة السياسية الفاسدة عندنا، وهم الكثرة الكاثرة في القرى والمناطق الفقيرة وغير المتمدنة؟. ثم بالله عليك ألم يكن ابن خلدون محقاً حين لم يجد من العرب غير اليمنيين ليضرب بهم المثل في التوحش ونزعة التخريب وعبادة المال؟!. وحتى عرب العراق الذين ثنّى بهم، ليسوا في حقيقة الأمر سوى اليمنيين الذي كانوا يشكلون غالبية سكان الكوفة والبصرة..!. ولا تسارع باتهام ابن خلدون لأنه في نهاية الأمر يمني مثلك..!. إننا لا نخاطب المخربين بهذه السطور، فالحديث مع مخرب عن مروءات الرجال كالحديث مع داعرة عن طهارة مريم عليها السلام. إنما نخاطب صنفين من الناس، صنف لم نفقد فيه الأمل بعد، من مناصري النظام الداعم للتخريب والإرهاب، وصنف سيأتي في المستقبل نريده أن يعرف حقيقة أجداده.