في شوارع عدن، حيث تختزل الكلمات حكايات الماضي وأزمات الحاضر، تتردد عبارة "الراجع قوي" كتعبير ساخر عن العواقب الوخيمة للأفعال الطائشة. فكما كان الرصاص العشوائي الراجع من الجو في الأفراح والاعراس يعود ليصيب الأبرياء في المدينة قبل سنوات، فإن الارتفاع المفاجئ وغير المبرر للريال اليمني أمام العملات الأجنبية اليوم يشبه تلك الرصاصة، لكنه هذه المرة "راجع" اقتصادي قد يكون أكثر فتكاً منها.. ما يحدث الآن في السوق اليمنية، وخاصة في المناطق المحررة، ليس انتعاشاً حقيقياً للعملة المحلية، بل هو فقاعة مالية تهدد بانهيار مدوي. فالقفزة السريعة في قيمة الريال اليمني، التي وصلت إلى مستويات غير متوقعة (كأن يهبط سعر الريال السعودي من 750 إلى 420 ريالاً يمنياً)، لم تكن نتيجة إصلاحات هيكلية أو سياسات نقدية رشيدة، بل جاءت كرد فعل عشوائي على ظروف مؤقتة، من دون أي ضمانات لاستمراريتها. وهذا الارتفاع، بدلاً من أن يُحتفى به، تحوّل إلى مصدر رعب للتجار والمستهلكين على حد سواء، لأن "الراجع" – أي الانكماش أو الانهيار المتوقع – قد يكون أقسى من الصعود نفسه.
المفارقة الأكثر إيلاماً تكمن في الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الفعلي. فبينما يصرِف الصرّاف الريال السعودي ب 420 ريالاً يمنياً، تُباع السلع في السوق كما لو أن سعر الصرف لا يزال 650 ريالاً. وهذه الازدواجية تعكس فقدان الثقة في القيمة الجديدة للريال، فالتجار يرفضون تقبُّل السعر الرسمي خوفاً من أن ينهار بين ليلة وضحاها، فيخسروا أموالهم. بل إن الكثيرين فضّلوا إغلاق محلاتهم بالكامل، هرباً من مخاطر "الراجع الاقتصادي" الذي لا يعرفون متى سيضرب السوق.
والسؤال الجوهري هنا: لماذا لا يستفيد المواطن من هذا "الانتعاش" الظاهري؟ الجواب بسيط وقاسٍ: لأن الاقتصاد لا يعمل بقرارات سحرية، بل بضمانات مؤسسية. فغياب السياسات النقدية الفعالة، وعدم وجود إجراءات حقيقية من البنك المركزي لتدعيم قيمة الريال (كاحتياطيات نقدية أو ضوابط للتحويلات ودائع)، جعل هذه القفزة أشبه ببناء قصر على رمال متحركة. فالدولة عاجزة عن إجبار التجار على تخفيض الأسعار لأنها نفسها لا تستطيع حمايتهم من خطر الانهيار المحتمل.
ومن هنا يمكن القول بان، المشكلة ليست في ارتفاع قيمة الريال أو انخفاضها، بل في العشوائية التي تحكم تحركاته. فكما أن الرصاصة الطائشة لا تُحسب مسارها، فإن السياسات الاقتصادية غير المدروسة تخلق أزمات لا تُحسب عواقبها. "الراجع" هذه المرة لن يصيب فرداً بعينه، بل سيضرب اقتصاداً بأكمله، وسيدفع الفقراء ثمنه أولاً. فهل من مُنصت إلى صرخة عدن، أم أن الدرس لن يُستوعب إلا بعد أن يُقتل الاقتصاد – كالعادة – بطلقة عشوائية أخرى يتم اطلاقها في الجو