أبعد بكثير من سلاح "حزب الله"، وهو الورقة الوحيدة المتبقية في أيدينا. دوران عبثي في الحلقة المفرغة ما دمنا أمام ذلك النوع من الدمى السياسية التي تفتقد الحد الأدنى من الرؤية الاستراتيجية. لنسأل، وسط ضياع أركان الدولة، إلى أين يريد أن يذهب بنا بنيامين نتنياهو؟ إلى حيث تذهب غزة أم إلى حيث تذهب سوريا، بخطوات أميركية حثيثة نحو الاستسلام، ويفترض أن نذهب وراءها أو يحصل لنا ما لوّح به توماس براكن "الالتحاق ببلاد الشام" التي يقتضي أن تكون جزءاً من إسرائيل الكبرى؟ نتنياهو لا يريد جنوبلبنان فقط، ولا لبنان فقط. يريد أن تدور المنطقة، بقضها وقضيضها، حول الهيكل الذي يعاد بناؤه، وبحسب رغبته، بسواعدنا أم بجماجمنا. تركيا أيضاً، وإيران أيضاً، فيما تشير أوساط دبلوماسية أوروبية إلى أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) بدأ عملية تسلل واسعة النطاق إلى المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية في باكستان، بعدما أشيع الكثير حول أهداف الاتفاق الدفاعي الذي عقد أخيراً بين الرياض وإسلام آباد، والذي يضع القنبلة النووية الباكستانية بتصرف الأمير محمد بن سلمان. وإن كانت هذه المسألة من الحساسية بحيث لا تحتمل أي تأويل خارج المنطق الأميركي الذي لا منطق فوقه.
ضرب الدوحة زادنا يقيناً بأن تل أبيب لا تخطو خطوة واحدة دون الضوء الأميركي، وحتى دون توجيه أميركي. كل ما يتردد حول خلاف في الآراء، أو في الرؤى، أو في المصالح، فقاعات إعلامية للتسويق في الشارع العربي. السفير الأميركي في إسرائيل مايكل هاكابي ينطق حرفياً واحترافياً بما يجول في رأس دونالد ترامب. هو من قال بأن التغيير في الشرق الأوسط سيكون بأبعاد توراتية، يقول الآن في المؤتمر السنوي لصحيفة "جيروزاليم بوست": "إسرائيل ليست مجرد حليفة، بل الشريك الحقيقي الوحيد للولايات المتحدة".
في هذه الحال، على الدول العربية والدول الأوروبية وعلى سائر الدول الأخرى أن تلقى بالاتفاقات الأمنية أو بالاتفاقات الاستراتيجية المعقودة مع الولاياتالمتحدة في صندوق النفايات. ليضف وليسمع العرب أن أميركا "لن تملي على إسرائيل ما يمكنها فعله، كما لا نتوقع منها أن تملي علينا ما ينبغي أن نفعله". حدقوا ملياً في معنى العبارة.
اعتبر أن مصطلح "الضفة الغربية" غامض وغير دقيق، وأن الاسم الصحيح "يهودا والسامرة"، ليقول "إن القدس العاصمة الأبدية غير القابلة للتقسيم للدولة اليهودية". وهذه هي المرة الأولى التي يصف فيها مسؤول أميركي إسرائيل ب"الدولة اليهودية" الخالية من العرب، لينتهي إلى القول إن "أي اعتراف بالدولة الفلسطينية يعد اختراقاً لاتفاق أوسلو".
لا بد أن يصل هذا الكلام إلى المملكة العربية السعودية التي تحشد الدول حول وضع خارطة طريق لإقامة الدولة الفلسطينية، بعدما رفعت إدارة ترامب البطاقة الحمراء في وجه كل دولة تعترف بهذه الدولة، مع التهديد بعقوبات قاتلة. ولطالما قلنا إن ياسر عرفات دفن القضية، ومعها الدولة، تحت الورود وتحت الثلوج الإسكندنافية. هذا الرجل ماذا فعل بلبنان الذي حكمه، وكما قال، 12 عاماً، وماذا فعل بالفلسطينيين حين جرى هذا الحوار بينه وبين إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض.
رابين قال له: "بدأت أعتقد أنك، رئيس المنظمة عرفات، على وشك أن تصبح يهودياً" (ولهذا الرأي أسبابه بطبيعة الحال). عرفات رد: "إبراهيم جدي". لعل هذه العبارة بالذات، وبحضور بيل كلينتون والملك حسين وحسني مبارك، وراء فكرة "ميثاق إبراهيم" والدومينو التطبيع.
لبنان في قعر الاهتمامات الأميركية، وإن أوحى لنا المبعوثون بلغة العتابا والميجانا أننا موجودون في قلب الرئيس الأميركي. وكان لول ديورانت صاحب "قصة الحضارة" أن يسأل: "متى كان للأباطرة ذلك الشيء الذي يدعى القلب؟". الآن كل الأضواء على سوريا التي باتت بالكامل في القبضة الأميركية، بعدما قام الأتراك والعرب والروس بما يلزم لتقديمها الهدية الذهبية لكل من واشنطن وتل أبيب، بالرغم من كل تلك الغارات التي أقامت زناراً من النار حول القصر الجمهوري، والتي دمرت كل أثر للقوة العسكرية السورية، لتبقى تلك الفصائل الهجينة والهمجية في مهمتها بتحويل أبناء الأقليات إما إلى موتى أو إلى أشباه موتى.
ها هو الرئيس أحمد الشرع يقول: "إن المفاوضات الأمنية قد تفضي إلى اتفاق في غضون أيام"، ليضيف: "إن السلام والتطبيع ليسا مطروحين على الطاولة حالياً". ولكن ماذا يعني عندما يقول: "إن التفاهمات الأمنية قد تفتح الباب أمام اتفاقات أخرى؟" أي اتفاقات هذه إن لم تكن حلقات مترابطة في مسلسل التطبيع، وبعدما تردد أن زيارة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى واشنطن هي للتمهيد للقاء الشرع - نتنياهو، بوجود ترامب، في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
ما تفعله الطائرات الإسرائيلية الآن إبقاء للبنان بين النيران بانتظار الصفقات التي تحدث، أو تبرم، وراء الضوء. هل نخلع الكوفية العربية ونعتمر القلنسوة اليهودية؟ قلت لصديق: "إنه زمن المغول". علق بالقول: "لكن المغول رحلوا". العبرانيون باقون. قد نكون أمام من يحزم حقيبته، أو قبره، للرحيل...