فيصل أبو رأس* كنت حاضرًا عندما اتخذت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ومن دون توافق مع قوى المعارضة، قرارًا خطيرًا في عام 2008 بنزع شبكة الاتصالات الخاصة التي أنشأها "حزب الله"، والتي كانت تُعدّ جزءًا أساسيًا من بنيته الدفاعية في مواجهة العدو الصهيوني. ذلك القرار مثّل في حينه تهديدًا مباشرًا لقدرة المقاومة، وكشفًا خطيرًا لأمنها، مما استدعى ردًا عاجلًا وميدانيًا. أمام تحركات قوى الموالاة وتحريضها السياسي والإعلامي، وتسليح بعض مناصريها، لم يكن أمام الحزب خيار سوى التحرك السريع لمحاصرة المقرات التي باتت تشكّل بؤرًا للفتنة، والعمل على تفريغها من المسلحين، دون اللجوء إلى نشر السلاح أو جرّ البلاد إلى مواجهة شاملة قد تُشعل حربًا أهلية لا تبقي ولا تذر. في قلب العاصفة… مع تلبّد الأجواء وارتفاع وتيرة التوترات، وتصاعد القلق إثر تحرّك المسلحين واندلاع المواجهات المسلحة، انتشرت النقاط العسكرية ونقاط مقاتلي حركة "أمل" و"حزب الله"، إضافة إلى مجموعات مسلحة تابعة لحلفاء الحكومة. كانت الشوارع شبه خالية، تخيّم عليها حالة من الهلع، بينما توقفت معظم سيارات السفارات عن الحركة، خشية الاستهداف. في هذا المشهد القاتم، كانت سيارات السفارة اليمنية تكاد تكون الوحيدة التي تواصل تحرّكها بلوحاتها الدبلوماسية المميزة، تعبر الحواجز وتنطلق من منطقة إلى أخرى، متحدّية خطر الرصاص المتبادل والانفجارات. لم تكن سيارات السفارة اليمنية تتحرك لنقل رعايا يمنيين فحسب إلى مبنى السفارة وتأمينهم، بل قامت بمهمة إنسانية وأخوية جريئة، إذ أجلت طلابًا ومواطنين من دول الخليج الشقيقة، ممن تقطّعت بهم السبل في الفنادق ومباني الجامعات، بعدما أصبحت سيارات سفاراتهم مستهدفة. وبينما كانت المخاطر تتزايد، كانت سفينة مجهّزة في الميناء تنتظرهم، قد أعدّها السفير عبدالعزيز خوجه مسبقًا لإجلائهم إلى قبرص، في عملية إنقاذ بالغة الحساسية وسط الفوضى. لقد كانت أيامًا عصيبة، لكنها مرّت بسلام… وسلَّم الله… وقد كان "حزب الله" يُسيطر على كل نقطة ويأتي بعده الجيش اللبناني ويؤمّنها، في وقتٍ كانت فيه الجماهير تتدفّق من مختلف المناطق دعمًا للحكومة. آنذاك، كان الحزب قويًا، مدعومًا من بيئة شعبية واسعة، وشركاء سياسيين فاعلين، وتحالف متماسك: سوريا القوية، وإيران الداعمة بمالها وسلاحها. لكن، كل شيء تغيّر… فاليوم، وبعد 7 أكتوبر، المشهد يبدو مختلفًا تمامًا. في الماضي، كان بقاء السلاح مسألة خطرة، لكن نزعه أخطر. أما الآن، فنزع السلاح نعم خطر… ولكن بقاءه أخطر، قد يكون أشد فتكًا. لبنان يواجه انهيارًا شاملًا: اقتصاديًا، أمنيًا، وسياسيًا. الحصار مطبق من كل الاتجاهات، والاحتقان الطائفي والمذهبي يهدد بتفجير حرب أهلية جديدة. سوريا لم تعد سوريا التي كانت، ولا إيران إيران التي عُرفت، والشركاء تراجعوا، والحلفاء تغيّروا، وحتى البيئة الحاضنة للسلاح – بما فيها جزء من الطائفة الشيعية – لم تعد كما كانت. من غطّى السلاح في الماضي باعتباره سلاح ردع وكرامة، لم يعد اليوم يمنحه الغطاء ذاته، وقد تآكل تأثيره وأُضعف حضوره. أمام هذا المشهد القاتم… لن يُنقذ لبنان السلاح وحده، ولا تسليمه المطلق سينقذ البلاد من الانهيار. ما يحفظ لبنان ويصونه هو وعي اللبنانيين لبعضهم البعض، وصدق تلاحمهم، ووحدتهم في مواجهة الفتنة والانهيار. السلاح الحقيقي اليوم هو في إعادة الإعمار، في تحريك عجلة الاقتصاد، في التنمية، وفي انسحاب العدو من الأراضي المحتلة، وفي وحدة اللبنانيين وتماسكهم. * فيصل بن أمين أبو رأس، سفير سابق لدى الجمهورية اللبنانية (2008 – 2012)